}

"لها الكلمة" على "العربي2": في سيرة نساءٍ عربيّات رائدات

أشرف الحساني 28 يونيو 2024
هنا/الآن "لها الكلمة" على "العربي2": في سيرة نساءٍ عربيّات رائدات
البرامج التلفزيونية الحقيقية تحرص صُوَرها على توجيه المجتمع
يظل برنامج "لها الكلمة"، الذي يُبث على قناة "العربي 2"، أحد البرامج التلفزيونية الهامّة والمُميّزة التي تُقدّم بوعي مكثّف وغنيّ ما ينبغي أنْ تكون عليه الشاشة الصغيرة اليوم. ذلك أنّ البرنامج لا يهتم بالنميمة والفضائح التي عادة ما تُحاول بعض التلفزيونات العربيّة اللجوء إليها من أجل رفع "قيمة" محتوى ما تُقدّمه من برامج سياسية واجتماعية. بل تتعمّد هذه القنوات استضافة بعض النجوم المزيّفين والمؤثّرين التافهين من أجل خلق جدلٍ بصريّ داخل أوساط المجتمع. وهو أمرٌ يقود لا محالة إلى رفع منسوب المشاهدة وتحقيق متعةٍ بصريّة مبنيّة على ثنائية الربح والخسارة. إنّ ما تُقدّمه قناة "التلفزيون العربي 2" مبنيّ في أساسه على تفكير مسبق في الصناعة التلفزيونية التي تبدو القناة وكأنّنا نشهد معها ميلاد لغةٍ تلفزيونية جديدة من الناحيتين الفنّية والجماليّة، ذلك أنّها تُراهن بقوّة على حداثة الشكل التلفزيوني، وتعمل جاهدة على البحث والحفر والتنقيب في اللامفكّر فيه داخل العالم العربي، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. في حين تلجأ بعص القنوات الأخرى إلى عملية اجترار الأشكال والموضوعات، بل إنّها تسعى جاهدة إلى استقطاب أهمّ النجوم والدعاة وصنّاع المحتوى من أجل رفع منسوب الانتباه. ورغم أنّ هذه البرامج تنجح جماهيريًا وتحتّل نسب مشاهدات عالية، إلاّ إنّها تبقى بالنسبة إلى المثقفين ونقاد الفنّ برامج معطوبة وتفتقر إلى الخيال والإبداع والابتكار، وذلك لكونها تعيش على الاجترار، وعلى الصُوَر النمطية حول المجتمع. فأغلب برامج هذه القنوات يُحرّكها المجتمع، ويُوجّه بوصلتها للاهتمام بموضوعات عبارة عن فقاعات عابرة غير مؤثّرة في الواقع، سواء في آنيته، أو على مستواه البعيد.
في حين تبقى البرامج التلفزيونية الحقيقية هي التي تحرص صُوَرها على توجيه المجتمع واستقطابه وتغيير أفكاره والبحث له عن مواد بصريّة قابلة للمشاهدة، إما للاستمتاع، أو الفهم، أو التحليل، وغيرها. لهذا كلّه يُعدّ برنامج "لها الكلمة" من النماذج الأصيلة المؤثرة في كتابتها وتفكيرها وصناعتها وتقديمها في وجدان المجتمع، إذْ إنّ المشاهد يجد نفسه أمام مادّة بصريّة غنيّة ترصد سيرة نساءٍ عربيّات مميّزات في مهنهنّ، وناجحات في تفكيرهنّ، وقويات في بسط السيطرة على واقع عربي ذكوري يبتلع كلّ شيء. يتميّز "لها الكلمة" بقوّة الاختيار من ناحية الشخصيات الغزيرة والمتنوّعة، بين إدارة المشاريع الاقتصادية، والرياضية، والطب، والفن، والثقافة. وهي مجالاتٌ لم تطرق بابها برامج أخرى بهذه القوة والحصافة والزخم. فأغلب البرامج التي اهتمت بشكل سطحي بالمرأة قدّمت المرأة السياسيّة على أساس أنّها المرأة العربيّة الرائدة، بحكم ما تمتلكه من سُلطة وقدرة على التحكّم في ميكانيزمات المشهد السياسي، في حين ارتأت الإعلامية ليلى الشايب أنْ يكون البرنامج منفتحًا على باقي المجالات الأخرى.




وعلى مدار حلقات "لها الكلمة" يُظهر طاقم البرنامج عددًا من الوجوه النسوية العربية في مجالات عادة ما تُعرف على أنّها حكر على الرجال. لهذا يرسم البرنامج صورة أخرى عن المرأة العربيّة الناجحة القادرة على التسيير والتفكير واختراق الواقع العربي، رغم مظاهر اليأس المُستشري في شرايين هذا الواقع الذي يضع كثيرًا من الحواجز والسياجات أمام أحلام المرأة، فيُعيق أحلامها وتطوّرها، إمّا بسبب الدين، أو العادات والتقاليد.
تبدو حلقات برنامج "لها الكلمة" مختبرًا فكريًا أكثر من كونها برنامجًا تلفزيونيًا، وذلك لأنّ البرنامج مبنيّ على مُستوى الكتابة على أسس علمية تجعل الطاقم مُستوعبًا لشروط الحداثة البصريّة والسياقات الفكريّة القابلة لوضع البرنامج داخلها. ما يجعل عملية اختيار الشخصيات مؤسسة على خطّة دقيقة ومتنوعة بين الاقتصاد والإدارة والطب والفنّ والرياضة، لأنّها مجالاتٌ عرفت في السنوات الأخيرة بالعالم العربيّ تحوّلات كبيرة سيما في مجالات العلوم. فقد برزت كثير من التجارب العلمية النسوية الرائدة في عدد من التجارب البحثية العلمية. وبما أن مجمل الإعلام العربيّ لا يولي أهمية لهذه التجارب، فإنّ غموضًا كبيرًا يكتنف هذه المجالات الذي لا يجعل أسماءً نسوية كثيرة مغمورة بالرغم من دورها المحوري والبارز في إدارة عدد من المشاريع الإدارية والاجتماعية والفنية. إنّنا هنا أمام محتوى تلفزيونيّ يفيض عن حدوده الضيّقة، فيُقدّم الفرجة التلفزيونية على أساس أنّها مختبر للتفكير. ورغم أنّ المقدّمة دأبت في عدد من الحلقات على طرح سؤال البدايات الذي عادة ما يطرحه الإعلاميون على الضيوف، فإنّ طبيعة هذه الأسئلة الذكيّة تتّضح معالمها في نهاية كلّ حلقة، بعدما يجد المُشاهد نفسه أمام شلال حكيّ مُتدفّق، وعزيمة نسويّة لا تُقهر، وبورتريهًا متكاملًا عن المرأة ونجاحاتها واخفاقاتها، وشجونها وأفراحها. لهذا فإنّ تتبّع حلقات البرنامج يُظهر كيف نجح الطاقم في اختيار شخصيات نسوية كسرت الحدود، واخترقت السياجات، وقدّمت صورة أخرى عن المرأة العربيّة وقوّتها.



البرنامج لا يُظهر أيّ نقدٍ لرجل، أو أيّ شيءٍ من هذا القبيل، لكونه يروم إلى تتبّع المسارات والقصص والحكايات وفهم أسس النجاحات واستيعاب الأفكار المؤثّرة في سيرهنّ وحياتهنّ الشخصية. كما يحرص على البحث لنفسه عن هويّة بصريّة خاصّة به، كونه برنامجًا لا يُقلّد محتوى البرامج الأخرى، بل يرسم لنفسه أفقًا بصريًا غنيًا بالعلامات والرموز والإشارات. وإذا كان "لها الكلمة" يحرص منذ الحلقة الأولى على تقديم مادته وفق قالب فنّي مميّز، فذلك لكونه يعرف التحوّلات التي باتت تشهدها الصنعة التلفزيونيّة في سبيل فرض محتوى بديل ومغاير عن باقي القنوات التقليدية الأخرى.
إنّ فعل تحديث الصورة في التلفزيون يُعد عنصرًا جماليًا هامًا، وما دام الوسيط مبنيًّا على الصورة، فهو ما يُميّز برنامجًا عن غيره. ليس الموضوع مهمًا دائمًا بقدر ما أنّ الأسلوب وأنماط التصوير وطريقة التقديم يجعلان المُشاهد يختار برنامجًا من دون غيره. بيد أنّ "لها الكلمة" يكاد يكون فسيفسائيًا من ناحية الكتابة والتقديم والتصوير، فهو يُعيد تأصيل التجارب النسوية العربيّة، لكنْ في الوقت نفسه يبحث لها عن بديل بصري يرتكز على حداثة الشكل البصري وفتنة المحتوى واشتباكه مع قضايا ذات صلة بالمجتمع العربي وأوجاعه. إنّنا أمام برنامج لا يعطي أجوبة، بل يطرح السؤال تلو السؤال، ويعمل من ثمّ على إعادة بناء سردية نسوية عربيّة تضاهي ما أنتجه الرجل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وتتفوق عليه أحيانًا. ولا تقتصر الضيفات العربيات على الحديث عن تجاربهنّ العلمية الناجحة، بل يرصدن أحلامهنّ وبدايتهنّ وأوجاعهنّ داخل عالم عربي يضع العادات والتقاليد في برنامج تفكيره اليوميّ. لهذا يُقدّم البرنامج وبوعيّ فكريّ مذهل نقدًا خفيًا للصُوَر التي تُنمّط المرأة وتضعفها وتبقيها في البيت، أو داخل أعمال عادية يعتقد المجتمع أنّها عبارة عن أعمال ذات صلة بالرجل، وليس للمرأة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.