}

الموت القادم من الصمت

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 سبتمبر 2024
هنا/الآن الموت القادم من الصمت
"رحلة العذاب" من الجنوب إلى بيروت (AP)

لا موت فوق العادة في شرقنا العربي هو كما في كل مكان، في فلسطين عمومًا، وفي غزة تحت البث المباشر، وفي سورية واليمن والعراق، وها هو في لبنان، أيضًا، قصف وتدمير ونيران تشتعل، وجثث تتناثر في كل مكان، فوق الركام وتحته، مع خوف وهلع، وهروب غير مجد، في كثير من الأحيان، من موت محتوم، أو منتظر، فلا طرق تتسع لهم، ولا خيام تأويهم، ومن لا تطاوله قذيفة، أو بقايا محرقة، تدركه الفوضى والزحام ويهلكه العطش والجوع والتشرد والذهول من هول ما يجري.

وهذه فاطمة جمعة، وهي إحدى مهجّرات حرب إسرائيل المتجدّدة في لبنان، تقول عن "رحلة العذاب" من تبنين في الجنوب إلى بيروت، التي وصفتها بـ "درب الجلجلة"، فتكتب بوجع قلبها وروحها الآتي: "15 ساعة ع الطريق تحت القصف والغارات من تبنين بالجنوب على بيروت... وهي تشبه طريق الجلجلة، وسط زنار من نار وصواريخ وضجيج، بين السيارات والبيوت وصياح الناس ودخان طول الطريق، السيارة عم تمشي بالخوف والدموع، والقصف يسبقنا. سكرت الطريق ووقف السير من العجقة والدمار. مشينا بالبساتين والأحراج. سيارات ونسوان وولاد وكبار. بعد ثماني ساعات على الأوتوستراد نزل الليل علينا، شي بيشبه ‘القيامة الآن‘، ضاجت العالم والولاد، وصرنا نتبادل المي وشقفات الخبز والجبنة للصغار. مئات السيارات وقفت على البحر أو صفّت ع اليمين، لأنو ما في بيوت يروحوا عليها. متل كل مرة الناس متروكة لمصيرها الأسود، وكاس جديد من الفزع والخوف بصحبة الصواريخ والتخلّي... ذكريات اجتياح 1982 رجعت بقوة...". 

المشكلة أن ما يجري لا يمكن وصفه بكلمات، فثمة مشاعر تعجز قواميس اللغات عن مطابقتها أو ترجمتها، فالحروب، بفظائعها وبشاعتها ومآسيها، تفرض على الناس منطقها الوحشي، فلا أحد يمكنه أن يكون محايدًا، ما دام في تقاطع النيران، أو تقاطع القصف، فالمسلحون والمدنيون على السواء، إذ الكل إما قاتل أو مقتول، السلاح وحده هو المنتصر في معركة القوة، والناجون منها هم ضحايا الواقع والمستقبل.

أمام ذلك فإن الهروب من جحيم الخراب ليس خيارًا، واستبدال الأوطان ليس رفاهية يبحث عنها الفارّون من الموت، إذ التهجير القسري هو موت أيضًا، ولو من نوع آخر، أو هو بمثابة تأجيل للموت، أو تهذيب لصوره القبيحة، بخاصة عندما يكون هؤلاء شهودًا على تحوّل أوطانهم إلى أماكن غير صالحة للعيش، ليس لهم وحسب، وإنما للحجر والشجر وللحيوان والذكريات والمشاعر وحتى لتاريخنا الذي يحاولون محوه بتدميرهم للآثار والمتاحف.

بديهي أنه ما من حرب نظيفة، فكل الحروب وصنّاعها غارقون في الإثم، والقسوة، والبشاعة والألم، وما من ضحايا ناجون حتى في موتهم المؤجل، فسكين التهجير ستبقى تحفر في قلوبهم عميقًا حتى الرمق الأخير، تحفز ذاكرتهم وتجعلهم أكثر التصاقًا بالأرض، وبالحياة السابقة، التي تركوها مجبرين، يقاومون نسيان تفاصيلهم الحميمية، والصغيرة، هنا كان بيتنا، على زاوية زاروب صغير، وخلف مسجد ظل مئذنته يخيّم على نافذتنا، على بعد خطوات كان الأطفال يملؤون المكان صخبًا، حقائبهم المدرسية الممزقة تحملهم إلى عالم ما بعد الحواجز المدججة بالسلاح، كثير منهم صاروا جثثًا تحت الركام، وما من قبور تتسع لأحلامهم.

لعل التغريبة الفلسطينية (1948)، التي سمّيت بالنكبة، ليست ذكرى عابرة في تاريخنا العربي، بل إنها باتت بمثابة تاريخ قائم بحد ذاته، ليس للفلسطينيين فقط، وإنما لهذا العالم العربي، من محيطه إلى خليجه، فهي وصمة حياتنا، وتاريخنا، وأحلامنا المجهضة. التغريبة الفلسطينية هي التغريبة الأم لكل تغريباتنا العربية، التي عرفناها في العقود الماضية. تلك كانت بمثابة محطة انتظار، أو كأمثولة، مرعبة لكل أجيالنا وتاريخنا وتطلعاتنا، نعود منها إلى واقع يستغرق أعمارنا، وكأنها أقدارنا المكتوبة لنا، والتي بتنا نشهدها حينا في العراق ثم في سورية، ثم لبنان، ودائما في فلسطين، كما نشهد هذه الأيام.

التغريبة هي أقدارنا، هي الماضي بكل وحشيته، وللأسف فهي غدت حاضرًا في أكثر من مكان، في كل جغرافيتنا العربية، كما نراها في غزة والجنوب اللبناني، بكامل عنفها وفظاعتها، ووسط صمت عربي ودولي، مريع ومفضوح، منح إسرائيل المعتدية والمتوحشة الفرصة تلو الأخرى لتمارس عدوانها السابق والحالي على شعوب المنطقة، بدون رادع أخلاقي أو قانوني أو إنساني.

هذه حرب ضد إنسانيتنا، أي ضد حقنا في الحياة، وضد جنوحنا إلى حقوق المواطنة والحياة المدنية. هذه حرب مع قتل وتدمير وتهجير وتشريد أيضًا، وهي تفاعلات يصعب أن ننجو منها جميعنا، حتى لو بقينا أحياء، سيّان داخل جغرافيتنا، أو خارجها، إذ التشريد يعني تحوّلنا إلى مجرد أرقامَ، لموت مؤجل، بعضنا يأتيه على سرير مرفّه في بلاد شتاتنا، أو لجوئنا، وهذه حال عايشتها خلال مرض زوجي، الذي نبتت جذوره في قلب أدماه الشوق إلى وطنه، وقد يحسده أبناء جلدته، على دواء مؤمن أو على رعاية صحية، أو حتى على ذلك الكفن الأبيض الذي لفّ جثمانه أو على قبر معلوم وشاهدة تشير إلى صاحبه، بينما يموت أهلنا في لبنان وفلسطين وسورية واليمن والسودان وليبيا والعراق، على سبيل المثال لا الحصر، أو فيما يسمى "الوطن"، بالجملة والمفرق تحت منازلهم، وجهنم حرائق عمرانهم وخرائب مدنهم.

 *كاتبة سورية.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.