هكذا بِتْنا إزاء ميدان خصومةٍ جديدٍ يقوم فيه كلُّ طرفٍ بتفنيد كلِّ آراء ومعطيات طرفٍ آخر، والحطِّ من مكانته أو السخرية منه، وشنِّ الهجمات المباشرة أو غير المباشرة عليه، بما في ذلك استخدام لغةٍ عنيفةٍ، أو كلماتٍ غير لائقةٍ.
ويجدر الانتباه إلى أنَّ ذلك الأمر لم تنفرد به مجتمعاتنا العربيَّة، إذ سبقها إليه صانعو هذه التكنولوجيا في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، وأصحاب مقولات الحرِّيَّات الفكريَّة في الغرب، وذلك قبل أن يُصار إلى قَوْنَنَتِها من قِبَلِهم، بعد أن أصبحت تهدِّد خصوصيَّة بيانات أصحابها، وتثير جدلًا مجتمعيًّا عن دورها في انتشار الأخبار المضلِّلة، ونشر خطاب الكراهية بين المواطنين، وفرض التدخُّلات الخارجيَّة في شؤونٍ سياديَّةٍ، كما حدث في الانتخابات الأميركيَّة 2016، وهو ما حدا بالاتِّحاد الأوروبي لوضع اللائحة العامَّة لحماية البيانات عام (2018) وقانون الخدمات الرقميَّة عام (2022).
في العالم العربي استُخدِمَت وسائل التواصل الاجتماعي في وقتٍ متأخِّرٍ عن الغرب، الذي تدرَّج بها من أواخر 1996، وتعدَّدت منصَّاته، في حين دخلت إلى حيِّز الاستخدام الشعبي في الدول العربيَّة بعد ظهور منصَّة فيسبوك، في منتصف العقد الأوَّل من الألفيَّة الثالثة، وسط محاذير أمنيَّةٍ كبيرةٍ وضعتها الحكومات العربيَّة، ومنعت شعوبها من الوصول إلى تلك المنصَّات بشكلٍ مباشرٍ خوفًا من استخداماتها السياسيَّة وتنظيم الاحتجاجات عبرها، وتبعًا لطبيعتها في مصادرة الحرِّيَّات واحتكار السياسة.
إلا أنَّ التطوُّر التكنولوجي العابر للحدود سمح بكسر الحواجز السياسيَّة والأمنيَّة، ما سهَّل وضع هذه المنصَّات في خدمة المستخدمين في الدول العربيَّة، فكانت بمثابة نافذةٍ لهم للتعبير عن ذواتهم بحرِّيَّةٍ خارج محدِّدات الرقابة الحكوميَّة، ضمن سقفٍ معيَّنٍ، وهو الأمر الذي جعلها أحد خصوم الأجهزة الأمنيَّة، والسلطات السياسيَّة، التي وضعت هذه المنصَّات في خانة الاتِّهام، بوصفها أحد وسائل التحريض على الثورات ضدَّ الأنظمة الحاكمة، فحظرتها للإبقاء على هيمنتها السلطويَّة وتقييدها لحرِّيَّة الرأي والتعبير، وهذا ما حدث في تونس وليبيا ومصر وسورية والسودان، وصارت المنصَّات أدوات حربٍ بين المستخدمين وحكوماتهم، وبين المستخدمين أنفسهم من عموم الناس، لتطرح هذه النزاعات تصنيفاتٍ شعبيَّةً على أسسٍ خلافيَّةٍ، دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ واقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ.
منذ عام 2011 تعدَّدت جبهات المجادلة والمجالدة بين مستخدمي المنصَّات، فتحوَّلت إلى مسرح عمليَّاتٍ حربيَّةٍ وهميَّةٍ، ليس بين المعارضة والأنظمة التي ثارت عليها فحسب، بل بين المستخدمين أنفسهم حيث اختلفت الآراء والرؤى حول مشروع الربيع العربي، مثلًا، في كلِّ مكانٍ اشتعلت مصابيحه، فاختلَّ ميزان المعايير، حول معنى ومفهوم الحرِّيَّات التي يناصرها روَّاد وسائل التواصل الاجتماعي في كلِّ تلك البلدان، إذ سقط عن قصدٍ أو من دونه مشروع الديمقراطيَّة المأمول، فاستسلم لهذا بعضٌ، وثار آخرون، وتحوَّل غيرهم إلى مشاريع خارجيَّةٍ منتقصة الوطنيَّة، أو مرهونةٍ وموهومةٍ بأحلامٍ أمميَّةٍ أو قوميَّةٍ أو دينيَّةٍ.
ولعلَّ الحرب الإسرائيليَّة الهمجيَّة على فلسطينيِّي غزَّة المستمرَّة منذ أكتوبر العام الماضي، وما تلاها من حربٍ إسرائيليَّةٍ على الشعب اللبناني، وضع شعوب المنطقة العربيَّة، وعلى الأخصِّ منهم الشعب السوري واللبناني والفلسطيني، أمام مواجهاتٍ أخلاقيَّةٍ (أون لاين)، فحيث عنونت إسرائيل حربها أنَّها ضدَّ (حزب الله) في لبنان، الذي يعدُّه سوريُّون أحد أدوات القتل والتشريد في حرب النظام السوري على معارضته، بينما يعدُّه فلسطينيُّون أحد داعمي جبهة المقاومة ضدَّ دولة الاحتلال، وهو ما أدَّى في المحصِّلة إلى خلط وتجابه وجهات "بندقيَّات فيسبوك وأخواته" بين متشفٍّ ومنظِّرٍ ومنتقمٍ، وبين صامتٍ وحذرٍ أو متألِّمٍ لما يطاول المدنيِّين اللبنانيِّين كما حال الفلسطينيِّين من قتلٍ وتشريدٍ وتدميرٍ لمدنهم وقراهم.
ربَّما يملك كلُّ طرفٍ من تلك الأطراف المتصارعة في الرأي أسبابه، لكنَّ الحقيقة تشير إلى أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي بما غرقت به منصَّاتها من نزاعٍ، بمرجعيَّته الفكريَّة أو المذهبيَّة أو السياسيَّة، أسهمت بما لا جدال فيه، بتأجيج صراعٍ هويَّاتيٍّ وقيميٍّ قد لا تشفى منه شعوب المنطقة، حتى بعد أن تُنزَع أسباب فتيل الصراع العسكري المدجَّج بمئات أطنان المتفجِّرات الإسرائيليَّة.
وإذا كانت النقاشات، حاليًّا، في وسائل التواصل تعبِّر عن حدَّة الانقسامات المجتمعيَّة، وتغيُّر أولويَّات الشعوب العربيَّة، ومعايير تقييمها في اصطفافاتها في قضايا مفصليَّةٍ وآنيَّةٍ ومستقبليَّةٍ، فإنَّ هذا لا يعني على الإطلاق أنَّها جدالاتٌ وليدة الحاضر، أو حاصلٌ طبيعيٌّ لما ارتكبته أطراف صراعٍ محلِّيَّةٍ داخليَّةٍ فحسب، فصيرورة التاريخ الحديث تشي أنَّ مقدِّمات هذه الانقسامات تمَّ العمل عليها مبكِّرًا، منذ أن تُرِك اللبنانيُّون تحت تهديد سلاح أحزابهم، وهيمنة جهاتٍ طائفيَّةٍ عليه، وصمت المجتمع العربي والدولي على مأساة السوريِّين الذين تُرِكوا تحت مقصلة أجهزتهم الأمنيَّة واعتقالاتهم، وقبل كلِّ ذلك، تمَّ التخلِّي عن الفلسطينيِّين وتُرِكوا تحت حكم الاحتلال على رغم عشرات القرارات الأمميَّة والعموميَّة، وسُمِح لكلِّ من هبَّ ودبَّ "بالتلطِّي" خلف هذه القضيَّة.
*كاتبة سورية.