من هذه القضايا ما تنطوي عليه الترجمة عامة من محاولة واضحة لما يمكن اعتباره "هندسة" الوعي بالآخر، عبر ما يُترجَم له وعنه من نصوصٍ.
ويبدو التنويه بهذه المحاولة المنسوبة إلى الترجمة، أكثر من أي قضايا أخرى ذات شأن، متأثّراً من التجربة الخاصة التي نعايشها هنا والآن. وهي إلى حدّ كبير شبيهة بتجربة عديدين غيري من الفلسطينيين الذين اشتغلوا بالترجمة ويعيشون داخل ما سمّاه زميلي الراحل محمّد حمزة غنايم ـ الشاعر والمترجم ـ "خط التماس"، ويقصد به خط المواجهة اليومية المباشرة.
فقد تشكّلت "ظاهرة" الترجمة هنا أكثر شيء، كما يقول غنايم، في ظلّ عملية اهتمام متبادل بـ"الآخر" العدو، وتمت على الغالب وسط حالة من "الفوضى"، نجمت بصورة رئيسية عن غياب استراتيجية وتخطيط في ما يتم من نشاط في هذا الحقل من وإلى اللغتين العبرية والعربية.
كما أنه منذ البداية، حاصرت "السياسة" هذه "الظاهرة" وربما جعلتها متنائية عن قدر معيّن من "الفضول الثقافي"، وفي الوقت عينه جعلتها عاجزة عن أداء ما أنيط بها من "أدوار وهمية" فوق ساحات الصراع، وبالتحديد على الجبهة الثقافية.
وقبل رحيله، في ربيع 2004، بقليل، كتب غنايم دراسة وافية عن الترجمة من العبرية وإليها، قدمها إلى "المؤتمر العربي الأوّل للترجمة" الذي عقد في بيروت في كانون الثاني/ يناير 2003.
في هذه الدراسة بدا أن ما يهمّه هو تفكيك محاولات كثيرة ترمي إلى "هندسة الوعي" بشأن الثقافة العبرية، إلى ناحية تكريس قاعدة إبراز وإدراك ما في الواقع لا ما هو مُقحم عليه.
وفي هذا الصدد، رأى أنه منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين الفائت لا يمكن القول إن الثقافة العبرية الراهنة نسيج واحد ومتكامل، وإنما تعكس قدراً من تعددية ثقافية وأدبية مغايرة لما اعتدنا عليه من قبل. لكن نظراً إلى أن أفقنا الثقافي مليء بالحُفرات و"المناطق الحرام"، التي تترصّد كل من يدخلها بشتى التوصيفات والتسميات، أولها الاتهام بـ"التطبيع"، وآخرها "الاحتواء"، فإننا نشيح بوجوهنا عمّا "يتفاعل إلى جانبنا من تيارات ثقافية وإبداعية وفكرية أيضاً".
اقرأ أيضاً: عن تحدّيات القصة وكُتّابها راهناً
على صلة بموضوع الترجمة، يؤكد الأستاذ محمود صبح، الأكاديمي والمترجم الفلسطيني المقيم في إسبانيا، في حواره مع "ملحق الثقافة"، أن الترجمة خيانة.
ومع أنه يشدّد على أنه يقصد بهذا ميله نحو لغة دون أخرى من اللغتين العربية والإسبانية اللتين يُترجم منهما وإليهما، إلا أن مقولة "الترجمة خيانة"، المترجمة عن اللغة الإيطالية، عادة ما تُقال لعكس دونيّة النظرة إلى عمل الترجمة، وتوكيد اعتبار المترجمين في منزلة ثانويّة لا ترقى إلى منزلة الكاتب الأصيل.
ويبقى أفضل من تصدّى لهذه النظرة المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "في الترجمة". ينفي بنعبد العالي عن الترجمة تهمة الخيانة، معتبراً إيّـاها عملاً إبداعياً، له طبائع النصّ ولا سيّما التناص. وهذا الأخير برأيه عبارة أيضاً عن خيانة الأصل، واستلهام آثار مؤلفيِن آخرين، فالنصّ متلبّس بآخرين، ولا يوجد نصّ صافٍ، مثلما لا توجد هوية صافية، بل بالعكس، إن ادّعاء النصّ النقيّ يجلب الكارثة إليه، ويعلنه نصّاً فاشلاً مملاً، كالتبجح بالهوية النقيّة.
يقول الكاتب: "في قلب الاختلاف تسكن الهوية، وفي صميم كلّ هجرة وتنقّل يقطن الاستقرار والعمارة، وفي قلب قوة التفريق وخلق التباعد هناك دوماً قوة الضمّ، وفي قلب العمل اللغوي هناك دوماً عمل فكري، وفي ثنايا مهمة الترجمة تقبع مهمة الفكر ليغدُوا العمل ذاته".
ويجعل بنعبد العالي من الترجمة، اليوم، قضية الفلسفة بلا منازع، باعتبارها قناة من بين عدة قنوات أخرى لتقويض الميتافيزيقا وتفكيك بنيتها، وكمجال يطرح من خلاله، من جديد، أهم مسألة فلسفية منذ أفلاطون، وهي مسألة النموذج والاستنساخ. وفي قراءته يتجلى الجانب الفلسفي من الترجمة في التحويل والتأويل اللذين تمارسهما اللغة، وهي تحتك بصيغ لغوية مختلفة، وذلك ليس بالنظر إلى طبيعة الحمولة الفكرية التي على اللغة أن تقترب منها فحسب، ولكن بالنظر إلى من يقوم بالترجمة، والتي ترجع إلى اللغة نفسها.
وصدق من قال إن هذه الأطروحة، التي يستعيدها المؤلف على طول صفحات الكتاب، هي أهم أطروحة تبرز أهمية الترجمة كإبداع وكتأليف لا يقعان في الدرجة الثانية بالنسبة للأصل المُترجم عنه.