}

صادق جلال العظم (1):نحو فكّ ارتباط ثقافتنا بالخرافة

أُجري هذا الحوار المطوَّل مع المفكر السوري صادق جلال العظم في شهر نيسان/إبريل 2016، نُشرت ترجمته الإنكليزية في العدد الأول من مجلة "A Syrious Look" الصادرة في برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 2016. تنفرد "ضفة ثالثة" بنشر النص العربي للحوار مع العظم، الذي أجراه زياد عدوان ومحمد أبو لبن، بناء على اتفاق خاص مع هيئة تحرير المجلة.

هنا حلقة أولى:

 

- لنبدأ من تسعينات القرن المنصرم، عندما كنت أستاذاً ورئيساً لقسم الفلسفة في جامعة دمشق، وكنا طلاباً في قسم الفلسفة ومعهد الفنون المسرحية، أُقيم في ذلك الوقت الأسبوع الثقافي، وكان حدثاً استثنائياً في مدينة راكدة كدمشق. لماذا سمح لكم النظام وقتها بإقامة فعالية كهذه؟

صادق العظم: تلك كانت فترة ذهبية، بمعنى ما؛ كان حامد خليل عميداً لكلية الآداب وأنا رئيساً لقسم الفلسفة. نتحدث عن منتصف التسعينيات، كان الأسبوع أمراً كبيراً جداً وقتها في سورية، لم يحتملونا أكثر من خمس سنوات. لم يستطيعوا أن يلغوه ولكنهم طردوا حامد خليل من عمادة الكلية وطردوني من رئاسة القسم. وكما تعرف فإن النشاطات في سورية كانت مرتكزة على نشاط ومبادرة أشخاص، فكان طردنا كفيلاً بتعطيل الأسبوع الثقافي. أتذكر أنه في بعض المحاضرات كانت كثافة الحضور تملأ المدرجات. أتذكر السنة التي أتى فيها نصر حامد أبو زيد؛ كانت تلك المرة الأولى التي يعود فيها أبو زيد إلى العالم العربي بعد لجوئه إلى هولندا، كنا نحن من دعوناه إلى دمشق، اضطررنا يومها إلى وضع مكبرات صوت كبيرة خارج القاعة وشاشات تلفزيون ليتابع الحضور الذين لم يجدوا لهم مكاناً في قاعة المحاضرات. كان ذلك سنة 1999، بعدها ذهبت إلى هارفرد وبعدها بقليل توفي حامد خليل في 2001.

لا أستطيع أن أجزم عن سبب سماحهم لنا بإقامة الأسبوع، ولكننا في نهاية الأمر في جامعة، والجامعة هي المكان لإقامة محاضرات وفعالياتٍ من هذا النوع. وقتها كان حافظ الأسد قد بدأ بالتواصل ومحاورة المثقفين في البلد. حاولوا فرض سيطرتهم علينا، ولكنهم لم يستطيعوا. أتذكر كيف أتى إلي ضابط الأمن معاتباً كيف لا أقول كلمةً في حق الرئيس في أسبوعٍ كهذا. طبعاً لم نقل شيئاً من ذلك. في مرةٍ أخرى دعانا علي دوبا (رئيس شعبة المخابرات العسكرية) إلى الغداء. كنا نستضيف في الأسبوع الثقافي رفعت السعيد ومحمود أمين العالم اللذين يعتبران معارضةً مصرية. كنت متعباً يومها بعد انتهاء الجلسة الصباحية من النقاش، كانت أيام الأسبوع مقسمة إلى جلسة صباحية وأخرى مسائية، كنت أرتاح بين الجلستين عندما رنّ الهاتف وإذا بعلي دوبا يدعونا إلى نادي الشرق. لم نستطع التملص فذهبنا، ولكننا بقينا عند موقفنا أننا نعمل في الثقافة والفكر، وهذا ليس سبباً لتقديم الشكر لحافظ الأسد في الأسبوع الثقافي.

- كان كتابك (النقد الذاتي بعد الهزيمة) منصباً على نقد النخب السياسية وعبد الناصر والأخوان المسلمين، وعلى نقد أفكارهم الشمولية وعلاقتهم بفكرة الحرية. بمعنى آخر، لم يكن الكتاب نقداً ذاتياً لأفكارك، بل كان نقداً لنخب لا تشبه تفكيرك، كالقوميين والإسلاميين. هل هناك نقد ذاتي لفترة الستينيات وللفترة الراهنة، نقد ذاتي للأفكار التي تطمح إلى مجتمع مدني متحرر وقيم الديمقراطية؟

صادق العظم: النقد الذاتي بعد الهزيمة كان كتاباً عن اللحظة القائمة في ذلك الوقت، كُتب تحت وقع الهزيمة. كنا وقتها نعدّ الدبابات والطائرات، كم يملكون وكم نملك.. أبعد تصور كان وقتها (كانت الحرب الباكستانية الهندية قد وقعت قبل ذلك بقليل، نشبت الحرب طاحنة بين الطرفين حتى تدخل الأميركيون وفرضوا وقفاً لإطلاق النار) كنت أرجّح وقتها أن ما سيحدث سيكون مشابهاً لمثال الحرب الباكستانية الهندية؛ سنتحارب مع إسرائيل وسيتدخل الكبار ليفرضوا وقفاً لإطلاق النار ويرتبوا الوضع من جديد. عندما كنت أتحدث عن هذا التصور في ذلك الوقت كنت أعتبر انهزامياً ومتشائماً في حلقات دمشق وبيروت، بسبب الحماس العام للحظة تحرير فلسطين، كان الفلسطينيون وقتها يقولون: سنشم رائحة بيارات البرتقال. لقد كانت لحظة جنون من عبد الناصر؛ كان نصف جيشه في اليمن وذهب ليستفز إسرائيل، عبد الناصر من استفزهم عندما حرّك جيشه في سيناء. كانت المبادرة منه. لم يخطر في بالنا وقتها أن نسأل. تخيّل ما حل بتلك الحماسة والآمال العالية، لقد سقطت إلى أسفل السافلين بعد الهزيمة. كانت تلك اللحظة هي التي كُتب فيها الكتاب.

نوع النقد الذي تسأل عنه غائب في الكتاب، ولكن هناك نقد للنخب المثقفة من القوميين العرب، والناصريين، ويساريي تلك الفترة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين. هناك نقد لتلك الثورية، فهي ثورية على المستوى السياسي فقط، ولكن عندما يأتي الأمر إلى القضايا الاجتماعية والعائلية لا تجد تطبيقاً لتلك الثورية عند تلك النخب. وهناك كان التساؤل: إن كنتم تعتبرون أنفسكم ثائرين، فعلى ماذا أنتم ثائرون؟ على الاستعمار فقط؟ هذه هي النقطة الأساسية التي تجد فيها نقداً ذاتياً.

كتاب (النقد الذاتي بعد الهزيمة) هو نقد أيضاً لمنظومة ما كان يسمى الفئات البرجوازية الصغيرة. ومن هذا المنطلق لا أرى نفسي بعيداً عن هذه المنظومة. ومن منطق البرجوازية الصغيرة، أردت أن تكون هناك بقية باقية من أمل في الكتاب. كان هناك أمل بأن تستطيع هذه التركيبة الشعبوية الاشتراكية العربية أن تُرمم نفسها.



الدرس المصر والدرس التونسي

- إن أردنا سحب الملاحظة الأخيرة حول نقد الطبقات الاجتماعية البرجوازية أو الوسطى لقيمها الاجتماعية أو العائلية أو الدينية، إن أردنا أن نسحب هذا التقييم على لحظتنا الراهنة، هل سنجد مراجعة نقدية لهذه القيم؟ هل فرض الحراك السوري من 2011 إلى الآن مراجعة اجتماعية دينية فكرية للهوية السورية؟

صادق العظم: رأيت بعض الظواهر في المرحلة الأولى، مرحلة الحراك المدني، والتي لم نكن معتادين عليها، ولم نكن نعرفها في السابق في المظاهرات والاحتجاجات، دخل الغرافيتي والنكتة والرقصة. هذا شيء جديد. هناك أيضاً فكرة التنسيقيات؛ فكرة أن يتجمع شباب وينشئوا وكالة أنباء محلية. كل هذا كان جديداً. حتى شكل الجموع التي كانت موجودة، كنت ترى ابتسامة على وجوه الناس. هذا ما أتذكر أنني قلته لزياد وقتها، كنت تستطيع أن ترى الإشراق على الوجوه. في السابق كنت ترى الغضب والعبوس. إن قارنت صور المظاهرات السورية الآن مع مظاهرات الخمسينيات ومظاهرات فلسطين سترى الفارق. لكن ما أراه أن الأنظمة التي رُتِّـبت في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستعمار والحركات التي ازدهرت خلال الحرب الباردة ذات الطابع العالم ثالثي، كلها ذات طابع راكد، أما الآن فأظن أن هناك أنظمة جديدة ستظهر، هناك صراع واضح يطوّرها؛ دخل الإسلاميون ليمسكوا هذا الحراك وهناك من يقاوم تدخلهم هذا. التدين العفوي موجود عند الناس في المنطقة، وهذا ما يقوم الإسلاميون بأدلجته وتسييسه وتحويله إلى طاقة تعبوية، لكنهم لم يستطيعوا الذهاب أبعد من هذا. عندما حاولوا ذلك فشلوا، مصر مثال على ذلك، بينما تعلمت تونس الدرس من مصر، فأخذ الإسلاميون فيها خطوات نحو الخلف. الإسلاميون استنفروا الدين الشعبي المتمركز أساساً حول العبادات والمعاملات، طبعاً في بلادنا لا يوجد أفضل من الدين لتعبئة الناس نحو الصراع والقتال.

- هل النموذج السوري مختلف عن نماذج مصر وتونس والجزائر، ربما بسبب شكل التنوع الطائفي؟

صادق العظم: بمعنى أن الطوائف عبّأت نفسها ضد بعضها، لا أرى صراعاً طائفياً في سورية. لم يحدث مثلاً أن عبّأ الدروز أنفسهم ضد الحوارنة، على عكس ما حدث في لبنان والعراق. في سورية بقي الحزب والدولة القوى الفاعلة، وعمودها الفقري هو الطائفة العلوية، بينما العمود الفقري للثورة هم السنّة، هذا لا شك فيه. ولكن أن نقول إن مكونات الشعب السوري قد عبّأت نفسها ضد بعضها بعضاً فلا أظن أن هذه الصورة منطبقة على سورية بقدر ما هي منطبقة على العراق. في العراق، تم حل الدولة والحزب من قبل أميركا وبقي الأكراد والشيعة والسنّة في مواجهة بعضهم بعضاً. في لبنان، لم تكن هناك دولة أساساً، ربما ما عدا المرحلة الأولى، مرحلة فرنجية، لكن المكونات اللبنانية كانت معبّأة ضد بعضها بعضاً، خصوصاً الدروز والموارنة والفلسطينيين والشيعة.



هذه ميزة لسورية. عندما أُسأل هنا في أوروبا عما يجري في سورية أقول لهم إن أردتم نموذجاً لتفهموا من خلاله تذكروا الانتفاضة المسلحة في المجر سنة 1956 ضد الحكم الستاليني، لم يقل أحدٌ وقتها إن ما يجري هو حرب أهلية، قالوا إنها انتفاضة ضد حكم ستاليني، ما يحدث في سورية شبيه لما حدث في المجر وقتها؛ انتفاضة أو ثورة ضد مزيج من الحكم الستاليني والفاشي.


فرغ سدّه التيار الديني

- أريد أن أسألك عن مرحلة الستينيات. أينما ذهبت هناك جيل الستينيات، من أيام غيفارا إلى فيتنام إلى وودستوك وحركة الروك، في اليابان، في باريس، وفي منطقتنا أيضاً. حصل جيل الستينيات في دول العالم على مكاسب مهمة، إلا جيل الستينيات العربي كان هو الذي مُني بالهزيمة الأقسى على جميع المستويات. أنتجت تلك الهزيمة دكتاتوريات العالم العربي وظهور التيارات الإسلامية، خسرنا فلسطين كاملة وأجزاءً من بلاد عربية أخرى، هل كانت الستينيات في العالم العربية حركة أصيلة؟

صادق العظم: هذا يعتمد على ما تقصده بكلمة أصيلة. كانت شيئاً جدياً، مثلاً على مستوى الأدب كان هناك شيءٌ ما بالتأكيد، في سورية ومصر على سبيل المثال. كانت هناك حركة على الصعيد السياسي لدى جيل الستينيات منها مسألة فلسطين والنضال ضد الاستعمار وتفكيكه، الجزائر وحرب التحرير... إلخ. هذه الحركة لم تستمر ولم تمت ميتةً طبيعية، لقد بترت بشكل فج تماماً ولم تُعطِ ثمارها، أتت هزيمة 67 لتخلق فراغاً ثقافياً وأيديولوجياً وسياسياً. هذا الفراغ ملأه التيار الديني، وأعتبر أن هذا القطع الفجائي هو الذي منع حركة جيل الستينيات من أن تُعطي نتائجها، أو أن تموت ميتةً طبيعية مثل حركة مناهضة الحرب في أميركا التي ماتت ميتةً طبيعية عندما انتهت حرب فيتنام. حتى الحركة الشيوعية والاشتراكية ماتت ميتةً طبيعية أيضاً وليس على طريقة الانقطاع الذي حصل لدينا.


ولكن هنا يجب أن ننتبه إلى مسألة تصب أيضاً في أزمة الفكر الديني، فمثلاً عندما وصلت الشيوعية إلى مرحلة الانسداد في السبعينيات والثمانينيات أفرزت عنفاً إرهابياً مثل الألوية الحمراء في إيطاليا وأكسيون ديركت في فرنسا والجيش الأحمر في اليابان. عندما وصلت الشيوعية إلى نقطة الانسداد التاريخي خرجت قوى اعتقدت أنها عبر العنف تستطيع كسر حالة الانسداد تلك وتحريك المجتمع وتحريك موقف الأحزاب الشيوعية الانتظاري الذين كانوا ينتظرون أن تنضج الظروف الموضوعية. الشيء ذاته حصل مع الإخوان المسلمين كانوا أيضاً ينتظرون أن تنضج الظروف التي تُعيد الخلافة، وهناك دائماً أشخاص ينفد صبرهم سريعاً. لدي تصور حول العنف الذي تستخدمه داعش، بأنه موازٍ للإحساس بالانسداد والأزمة. كل محاولة من الإسلاميين تبوء بالفشل، وكلما فشلوا كان التصعيد أعنف. يعتقدون أنهم إذا زادوا العنف هذه المرة سيحصلون على نتائج مختلفة. إنها طريقة أرييل شارون؛ "ما لا تستطيع تحقيقه بالقوة يمكنك تحقيقه بقوةٍ أشد" هم يسيرون على هذا السياق. هذا يبدو واضحاً عند النظر إلى تاريخ عنف الجماعات الإسلامية وإلى عنف القاعدة الدولي إلى إعلان الخلافة.

- سأل النظام السوري ما هي هذه الحرية التي تريدونها؟ جيجيك يسخر من مسألة الحرية في الغرب ويقول إنها أمرٌ مجزّأ.  وهناك ملاحظة يوردها الكثير من الناشطين السوريين عن أيام المظاهرات في سورية: كنت تستطيع الحديث في أماكن التظاهر عن أي شيء على المستوى السياسي من دون أن تثير أي تحفظ اجتماعي، ولكنك ستجد حتماً المنطق المحافظ في التعامل مع الأنثى أو مع تعاطي الكحول، إضافة إلى حضور الرمز الإسلامي في المظاهرات، في الوقت نفسه ستجد عند النظام انفتاحاً في التعامل مع الأنثى وغياباً للرمز الإسلامي في مناطق سيطرة النظام. هل يتجزأ مفهوم الحرية؟

صادق العظم: هذا مستوىً معقد من التعاطي مع مسألة الحرية. فعندما يتحدث العبد عن مسألة الحرية شيء وعندما يتحدث عنها الحر شيء آخر. عندما تتحدث عن شيءٍ زائف في الحريات في أوروبا هذا نوع من النقد الذاتي لطبيعة الحياة هنا. إنه أمرٌ معقد، ومقارنة غير عادلة أن نطلب المقارنة بين الحرية الأوروبية ومطلب الحرية في العالم العربي. مثلاً بالنسبة لسورية كان يكفي أن تنزل المخابرات عن ظهرنا حتى نشعر أننا أحرار!



بلورة آليات جديدة

- هل فكرة الثورة الآن هي نفسها التي كانت موجودة خلال القرن العشرين؟ أشعر أن المفردات التي في قاموسنا قاصرة عن توصيف ما يجري. في السابق كنا نتحدث عن العمال والفلاحين والطبقات الكادحة كالحوامل الأساسية للثورة، أما الآن فالمهمشون هم الحامل الأساسي. نحن الآن أيضاً في عصر التواصل الاجتماعي الافتراضي والذي سينتج بالضرورة علاقات وحركات مختلفة عما سبق. وبالذهاب إلى مستوىً أبعد في السؤال، هل نستطيع فهم داعش بأدوات التحليل التي لدينا أم أننا نحتاج لأدوات تحليل جديدة؟

صادق العظم: ما زالنا نبحث عن الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن تعبّر أو تستوعب ما يجري بشكل مطابق أو قريب لما يجري، ولكن في الوقت نفسه أنا لا أريد أن أختزل ما يحدث فقط لمجال الإنترنت وفيسبوك. تقوم الانتفاضات أو الثورات في كل مرحلة باستخدام الأدوات المتوفرة. أيام الخميني استخدموا الكاسيت، كانوا يتحدثون عن الكاسيت كأنه السبب في الثورة الإسلامية الإيرانية، قبل الكاسيت كانت جريدة الحزب. ولكننا بحاجة لبلورة آليات جديدة للتعاطي مع الواقع الجديد.



ولكن ما أعتبره أهم من داعش أو القاعدة، كمنشأ تاريخي، هي الجماعات في مصر التي بدأت في الثمانينيات، تلك المستندة في تأسيسها على كتب وتنظيرات سيد قطب وعبد السلام فرج (الفريضة الغائبة) وشكري مصطفى (التكفير والهجرة) أعتقد أن التنظير للحركة الإسلامية عند هؤلاء أعلى مستوى من بضاعة داعش أو القاعدة. عند جماعة داعش خرج أحدهم بكتاب اسمه (إدارة التوحش) يحكون بشكل علني عن التوحش، هذا تنظير للتوحش والمراحل التي يمر بها.

أرى أن هذه الظاهرة برمتها هي رد دفاعي على الحداثة، إنها مزيج من الحركة الرومانسية وحركة إصلاح الكنيسة. تستطيع أن تقرأ سؤالاً بين أسطر منظري الجماعات الإسلامية: إن استمرت حياتنا على هذا الشكل، فما الذي يمنع أن يحل بالإسلام ما حلّ بالمسيحية في أوروبا؟ هل سيخرج الدين كلياً من الحياة العامة وضبط حياة الأفراد والناس؟

لنضع الأمر بشكل نظري أكثر؛ نجد عند ماكس فيبر نظرية نزع السحر عن العلم، مفادها بأن العالم الحديث قد تحرر من الخرافة. تستطيع أن تجد الفكرة نفسها عند غوته في فاوست؛ باع الغرب روحه المسيحية مقابل السيطرة على العالم المادي. ما أعتقده أن مزيجاً من الرأسمالية والحداثة والعلم كفيل بتحرير أي ثقافة من الخرافة، وما أجده أن التحرر أو فك الارتباط هذا يجري على قدم وساق حتى في منطقتنا.

- يقال إن ما حمل روح عصر النهضة الأوروبية هي أسئلة شخصيات أدبية مثل فاوست ودون جوان ودون كيشوت وسانشو وهاملت. كلها أعمال أدبية كانت عناوينها هي أسماء الشخصيات ذاتها. لماذا لم تستطع النهضة وحركة الفكر العربية أن تخلق شخصية تحمل أسئلتها الوجودية؟

صادق العظم: عصر النهضة في أوروبا يعتبر بداية عصر الفردية وتفكك الهويات الجمعية، المثال الأوضح على هذا هو مسرحية روميو وجولييت لشكسبير، كانت بداية الحب الفردي خارج الترتيبات العشائرية والقبلية، كانت فجر القرار الفردي، كان هذا موثقاً في تلك المسرحية. حدث لدينا شيءٌ مشابه، ولكن ككل شيءٍ آخر بقي باهتاً وفي نطاق ضيق. هناك مثال توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف". ظهر في مدينة القاهرة شيءٌ اسمه القانون المدني وفكرة المحاكم. ويتحدث الحكيم عن شخصية هي النائب عن المدعي العام إلى الريف لتطبيق القانون المدني على مجتمع ريفي محكوم بما يسمى الأعراف والعادات والتقاليد. يُظهر توفيق الحكيم المهازل التي تحدث مع الشخصية وفي الوقت نفسه يظُهر كيف أن فكرة القانون المدني تغزو الريف ببطء وتحل محل الأعراف والعادات والشريعة. يمكننا اعتبار "نائب في الأرياف" بداية لهذه الفكرة. في تقديري لم يكن توفيق الحكيم واعياً لهذا الأمر، كان يسجل تجاربه الحياتية كأديب، ولكنني الآن وبنظرة استعادية إلى هذه التجارب، أرى كيف شكلت هذه الرواية وأمثلة أخرى سجلاً لامتداد القانون المدني إلى الريف وحلوله مكان ما كان موجوداً هناك من عادات تقليدية. طبعاً هناك قوى ستقاوم هذا الأمر وسيُخلق الصراع. نجيب محفوظ أيضاً لديه الكثير من هذا، إن قراءة من هذا النوع لأعمال نجيب محفوظ ستظهر لنا الكثير من جوانب هذا الصراع.

- عندما نتحدث عن عصر النهضة العربي في أواخر القرن التاسع عشر أو مرحلة الستينيات نجد أن النخب المثقفة والمفكرين لدينا على قطيعة أو عدم اطلاع كافٍ على المنجز العلمي. فعصر النهضة العربي فاقد للعلاقة أو قليل الاطلاع على منجز التطور العلمي كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك.

صادق العظم: لولا الثورة العلمية في القرن السابع عشر لبقيت النهضة الأوروبية في حدود الرسم والإنسانيات والنثر والشعر والموسيقى. الثورة العلمية استوعبت كل ذلك ونقلته إلى مستوىً آخر. وما هو غائب كلياً في النهضة العربية هو بالتحديد العلم. هناك كتابات كثيرة عن العلم وأهميته، ولكنها كتابة على طريقة شهرزاد. والنقطة المهمة في هذا الأمر هي أن العالمين العربي والإسلامي لم ينتجا خلال السنوات الألف الماضية معرفة ما في الطبيعة أو المجتمع أو الإنسان أو الفلك. ليس هناك إنتاج للمعرفة. فعصر النهضة العربي كان مليئاً بالكثير من الأفكار بعضها تطوّر، ولكن الفكرة الوحيدة التي لم تتطور هي الفكرة العلمية. وأعتقد أن جماعة الدين والمشايخ قد حاربوا هذه الفكرة. تحمل النصوص التي تحدثت عنها في مصر ازدراءً واحتقاراً للعلم، حتى إن شكري مصطفى يقول بما معناه أن النبي كان أميّاً، لم يكن مهتماً بالرياضيات أو الفلك أو ما شابه، ونحن أمة أميّة لا نحتاج لأكثر من الإسلام.. هذا نصٌ صريح. هذا خوف واضح من العلم الحديث.

 

(بورتريه صادق جلال العظم، لأنس عوض، العربي الجديد)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.