}

حكمت النوايسة: الرواية تحتاج إلى بحث ومعرفة

حوارات حكمت النوايسة: الرواية تحتاج إلى بحث ومعرفة
حكمت النوايسة

شاعرٌ بإزميل نقّاش، مدوّن المُشافهات من أفواه العامة في الصحراء الأردنيّة، ناقدٌ لكنّه يكره من يبدأ كلامه بـ"الحقيقة إنَّ..". أنجز أخيرًا، روايةً جديدة بوصفها "علامة" لا "حقيقة"- كما يقول- تحت عنوان "الرجيف"، وفي أعلى الغلاف كان اسمه حكمت النوايسة (1965-).   

سنأخذُ بطريقة النوايسة في الرواية؛ نبتعد عن الأسئلة التي تبدأ بـ"الحقيقة إنَّ". سنرّتب طريقة الأسئلة عن "الرجيف" على اللايقين؛ فالحيرة - كما يقول- مفتاح. سنبتعد معه عن الحقائق فقط في مواضيع الشعر، الرواية، وسنعود لهذه "الحقائق" في مواضيع النقد والتراث وهو الذي يشغل منصب مدير مديرية التراث في وزارة الثقافة الأردنيّة. 

إن لم نجد أبطالًا صنعناهم

(*) دعنا نتحدّث عن اللايقين: "الحيرةُ مِفتاح" و"أكره من يبدؤون كلامهم بـ: الحقيقة إنَّ" و"الرواة ليسوا كاذبين، وإن كان ما يقولونه ليس صحيحًا". أهو لايقين اليأس من الحقائق في أفواه المتكلمين أم لايقين من لا يُرجّح يمينًا على شمال بسبب حكمة العمر؟. دعنا نستحضر لايقينًا واحدًا من الرواية؛ سفيان الذي تكلّم حين ولادته، حلب عنزًا ابن سنتين، حفظ معلّقة زهير ابن أربع، والقرآن على عشر، وأشعار العرب على ثلاث عشرة. وكان راويًا نبيهاً بعد ذلك في المجالس، قاد قومه ابن سبع عشرة. ثم تنسف كلَّ ذلك بأسطر قليلة وتشكّك فيه، ثم تعود وتروي ما يُعيد مكانة سفيان الأولى الأسطوريّة. ها.. أذلك ما قصدته في مطلع الرواية، إنَّ "الحيرة مفتاح"؟. 

- في "الرّجيف" أردتُ أن أستحضر إمكانات اللايقين في تشكيل اليقين، أن أختبرها في السرد، أن أضع السرودات التي تشكّل الأفراد والجماعات على محكّات السرد نفسه؛ فالمرويّات أقوال لم تُختَبر، ولم تُمحّص، وذلك لأسباب كثيرة أهمّها أنّ من لا مكانَ أو حيّزًا له في الوجود، يخلق حيّزه في الرواية، ويجعل قصّته مكانه، ألا ترى أن كثيرين حولنا ليس لهم مكان أو تأثير في الحقيقة، لكنّ القصّة جعلت منهم أبطالًا وهميين، صرعوا طواحين الهواء وأسالوا دماءها. نحن لم نر الطواحين تئن، ولم نرها تدافع عن نفسها، ولكنّنا رأينا الأبطال يعودون منتصرين، ونقبل أياديهم، ونحن نعرف، في كثير من الأحيان، أنهم ليسوا أبطالًا، ولكننا، لنقص ما، حضاري أو اجتماعي، نبحث عن أبطال، فإن لم نجدهم صنعناهم. الحقيقة دائما شيء آخر، وعلى من أرادها أن لا يبحث عنها في القصص، عليه أن يجعل القصّة مفتاحًا يدخل من خلاله إلى الرغبات والرغائب، أن يقرأ القصة بوصفها علامة، وليس بوصفها حقيقة، وقصص كلّ أمة هي حاجاتها، ورغائبها. 

(*) أعتقد أنَّك تعجلتَ واقتصدتَ في "الرجيف"، كتبتها في 188 صفحة، وكان يُمكن أن تطول أكثر. هي أقرب لأن تكون رواية عن ذاكرات جماعات لا أفراد، أقرب للسير الشعبيّة في الصياغة، مُضافًا لها لغة من ذهب، سردٌ يمشي على لسان حكواتيّ؟ أيمكن لحكمت أن يُعيد كتابة عملٍ لم يُعجبه في تجربته؟.

-عاودت قراءة "الرجيف" مرّات، وهو العمل الوحيد الذي أعاوده مرّات، لأنّه عمل مركّب، ولأنني أحتاج أن أخرجه من نفسي، لقد وجدته مُكتملًا، وحينها أشهرته. أمّا أن أكون تعجّلت أم لا، فهذا أمر متروك للقارئ. رأيي في هذا الزمان، أن لا تطول الرواية عن مئة صفحة، هذا ليس زمن الروايات الطويلة، فالمنافسة في القراءة كثيرة، والشواغل، شواغل الإنسان، كثيرة، ولذا حاولت أن أجعل من الاختصار مفتاحًا لمتعة القراءة، وتشجيعًا عليها، وكثير من الأصدقاء ممن أهديتهم الرواية قرأوها كما قالوا في بضع ساعات، وكم وددت أن تكون قراءتها لا تستغرق أكثر من ساعة.

أما عن إعادة كتابة عمل لم يعجبني، فحول "الرجيف" أقول هي تعجبني، ولن أعيد كتابتها، أما غيرها، فإنني، بعامّة، أقول إن أسوأ شيء ممكن أن أقوم به هو إعادة كتابة عمل سواء أكان قصيدة أم قصة أم رواية أم مسرحية أم حتى عمل نقدي، لأنني لا أخرج العمل إلا وأنا راض عنه بنسبة 90 في المئة. 

الباحث والسارد

(*) يشغل النوايسة منصب مدير مديرية التراث في وزارة الثقافة، باحث في التراث غير المادي وهو ابن الجنوب، يعرف مشافهات القدماء، والبلاغة فيها. لننظر معًا كيف تسرّب العمل البحثيّ في "الرجيف": "قيل إنَّ القبائل المترحّلة كانت تترك المريض على دار العرب. وما دار العرب؟". بعد هذا المقطع ينسى حكمت الروائيُّ نفسه ويبدأ بتعريف بحثيّ عن المقصود بدار العرب حتّى أنَّه بدأ يُعدّد "مساكن العرب"، مساحة دار العرب، فهل فلتت اللغة من الاستعارات والشعريّة (إن صحَّ التعبير بخصوص الشعريّة) إلى لغة البحث؟ ست صفحات لدار العرب قبل أن يعود حكمت إلى "قصّة الرجيف ونباهة سفيان". هل تسلّل الباحث إلى السارد؟ 

- لعلك رأيت فيها تعدد الأصوات، والصوت المركزيّ فيها هو صوت أستاذ التاريخ، العائد من غربة عمل وشقاء، وقد وجد الجيل الذي درّسه بانتظاره ليسمع منه الحكاية، ولكنّه كان هو من يبحث عنهم ليروي لهم الحكاية. تعدّد الأصوات في الرواية مفنّد بذاته، بمعنى أنّ الرواية أرادت أن تصوّب نفسها بنفسها، اعتمادًا على عالم هو خارج إطار السرود الأدبية، أقصد علم الجرح والتعديل، ولكنّني أردته أن يأتي بضمير المتكلّم، نحن، الرواة، وأردت منه التذكير المستمر للقارئ أنّك تقرأ اللايقين، تماماً، وتقرأ رواية لم يتح لأحد أن يتحقق منها. 

الباحث صوت من أصوات الرواية، وإن كان صوت حكمت فليكن، إنه صوت معلّم التاريخ الذي يسأله المدوّنون في نهاية الرواية عن الخريطة فيقول لهم إنه نسيها أو ضاعت أو حاول إيجادها في الرواية، والرواية التي لا بحث فيها ليست رواية، لكنّ الروائيين يغطون البحث بالسرد، ولا تظن أن هناك روائيًّا يكتب رواية من رأسه، هكذا، الرواية تحتاج إلى بحث وتحتاج إلى معرفة، وأنا هنا في "الرجيف" تركت المعرفة والبحث كما هما لأنّ الصوت الذي تصدر عنه هو صوت المعلّم.

(*) تمَّ تأسيس مديرية التراث في وزارة الثقافة عام 2010. وأنت الآن مُديرها. هل تأخرت الدولة في الانتباه إلى هذا الجانب؟ وماذا في جعبة المديريّة من أرشيف؟

- مديرية التراث قديمة جديدة، فقد كانت أعمالها موجودة ضمن أعمال الوزارة سابقًا، ولكنها لم تكن تحت مسمى مديرية التراث غير المادي. مثلاً، نشرت وزارة الثقافة سابقًا كتاب العلامة محمد أبو حسان "تراث البدو القضائي" في مجلة كانت تنشرها الوزارة في السبعينيات واسمها مجلة الفنون الشعبية، ثم في كتاب خاص، وثمة كثير من الأعمال التي قامت بها الوزارة في سبعينيات القرن الماضي تهتم بالتراث الثقافي غير المادي، مثل جمع التراث الشفوي وغيره من الأعمال، ولكن فترة انقطاع ما حدثت، إلى أن وقّع الأردن اتفاقية التراث الثقافي غير المادي في إطار "يونيسكو"، وكان لا بد حينئذ من وجود جهة محددة لمتابعة الأعمال المتعلقة بالتراث، فكان أن تأسست مديرية التراث غير المادي لتكون هذه الجهة.

(*) يُمكن لنا الآن أن نعد معًا عشرات الروايات التي تناولت تفاصيل الحياة لبعض المدن الأردنيّة، وعمّان لها نصيب جيّد من هذه الروايات، في كثير من هذه الأعمال الصادرة خلال السنوات القليلة الماضية... بالمجمل كيف تقيّم هذا الكمّ والتناول لهذه المسألة؟  

- حقيقة، أنا لا أميل إلى تقييد الرواية بمكان، ولكنّ بعض الروايات تنجح في أن تجعلك تنسى ما تحب وما لا تحب، لأنك تندغم في عمل روائي جميل... سميحة خريس، هاشم غرايبة، مؤنس الرزاز، زهرة عمر، إلياس فركوح، إبراهيم نصر الله، سليمان قوابعة... القائمة طويلة، والتقييم لا يمكن إجماله، فلكل حادث حديث، ولكل رواية خصوصيتها. 

الشاعر فيلسوف

(*) كثيرًا، وربمّا غالبًا في بداياتهم، قلّد شعراء في فلسطين والأردنّ من تقول فيهم "من يتبحتر، ومنهم من يتدروش، ومنهم من يتأدنس، ومنهم من لم يعرف هؤلاء: البحتري ودرويش وأدونيس، ويدّعي أنّ جدّه المتنبي". كيف تقرأ ظاهرة هذه التجارب التي منها من تدروش وتأدنس وتبحتر؟ ألا يُمكن قياسًا على الأشخاص أن نقيس على الجهات ونقول: منهم من "تمصّر" "وتدمشق" والأخيرة كما تعرف تهمة وُجهت إلى مصطفى وهبي التلّ (عرار)؟

- من الطبيعي جدًا أن يتأثر الشاعر في بداياته بشاعر ما، ويأخذ بتقليده، ثمّ يتجاوزه إلى غيره، وهكذا بحثًا عن صوته الخاص إلى أن يملكه، ولكنّ المشكلة أنّ كثيرين ادّعوا أنّهم على منهج أدونيس مثلًا وهم لا يعرفون المرجعيات الفلسفية التي ينطلق منها أدونيس، وكذلك درويش، وإن كان درويش أقرب للفهم بحكم المرجعية الكبرى (فلسطين) في شعره، لكن اللافت هو التقليد الفج الذي لم يرتق فيه المُقلِّد إلى المُقَلَّد، ويأخذ موقفاً نقدياً أو شبه نقدي من شعراء لم يقرأهم ولم يعرف توجّهاتهم/ خلفيّاتهم الفلسفية، فالشاعر فيلسوف باستثناء بائعي ماء الوجوه، فهؤلاء لا يصدرون عن شيء، وإنما بضاعتهم مزجاة لكل مشتر، كبر أم صغر، فبعضهم يمكن أن يمدح مدير مدرسة، أو مديره في الوظيفة، أو أي إنسان يريد منه مصلحة.

أما بخصوص الهويّة، فإن محطها ومآلها عندي الهوية العربيّة الجامعة، وليست الهويّة القطرية الضيقة، خاصّة في مجال الشعر والأدب، لأننا نكتب بالعربية لقراء العربية، ولكن هذا لا ينفي ولا ينبغي أن ينفي الخصوصيات الجغرافية، لأنه سيكون، لحظتئذ، خارج المعقول. الهوية التي أقصدها هي هويّة الشاعر الشعرية، فالشعراء الكبار تتم قراءتهم في تونس كما في مصر كما في لبنان، بوصفهم هوية عربية خاصّة، نحن قرأنا الشابي، وقرأنا (الأمير الذي فرضوه علينا) أحمد شوقي، وقرأنا ونقرأ غيره من الشعراء في مشارق العروبة ومغاربها بوصفهم جزءًا من هويتنا، ثم إننا نقرؤهم قراءة نقدية أيضًا، فأنا لديّ كثير تحفظ على أحمد شوقي، ولا أعده أميرًا، كما أنني لا أعترف بأي أمير للشعر، ولا أعدّ أدونيس فاتحًا بالحجم الذي يضعه فيه أتباعه، بينما أضع السياب في هذه المكانة، وهكذا أنطلق من قراءة نقدية، قبل أن تكون قراءة تأثرية. 

(*) في مقابلات سابقة، على "فيسبوك" وداخل حوارات اطلعتُ عليها، هناك على الدوام بيت شعر للمتنبيّ في حديث حكمت النوايسة. بدايةً تقول، إن هناك "من لا يعرف إلا متنبي العامة". من هو متنبي "الخاصة" قياسًا بمتنبي العامة؟

-المتنبي الكامل، المتنبي الفارس، المتنبي الشحّاذ، المتنبي الشاعر العملاق، والمتنبي الذي كتب "ما أنصف القوم ضبة"، يعني الشاعر الوضيع، هو عالم نفسي واسع نستطيع أن نرى فيه كلّ تناقضات الهويّة العربية، وكل هذا نراه في شعر لا يستطيع إنسان أن يحط من قدره، فقد شتم أشياء نحبّها في شعره وأحببناه، ومدح أشياء نكرهها في شعره وأحببنا شعره، ولكننا عندما نأخذ المتنبي من شعره، ونضعه في المشرح الإنساني، فإننا سنجد النتائج مخزية.

بإيجاز

-         ماذا تقرأ هذه الأيّام؟

 في السياسة والفكر والتاريخ، وهذا أسوأ ما يمكن أن ينشغل به المبدع.

-         شاعر تعود لقراءته بين فترة وأخرى؟

السياب والمتنبي والمعري.

-         مدينة عربية تتوق لزيارتها؟

عشت فيها كثيرًا، ولكنني أتوق لزيارتها: بغداد، وكذلك زرتها وأشتاق لزيارتها: القاهرة.

-         مقولة أو بيت شعر في الواقع العربي؟

قصيدة لا تكفي، وقد تكون قصيدتي: "يدي الآن أم دخان القرن"، ومنها أختار: يدي الآن أطفال حرب يبيعون قطع الثلج على أبواب جهنّم.

-         شاعر أو كاتب عربيّ شاب مُعجب بكتاباته؟

أتابع كثيرًا من الشعراء والكتاب الشباب، ولا أريد أن أذكر أسماء لأنني أحتاج لذكر عشرة أسماء على الأقل، وسيكون هناك من لم أذكره وأحبه.

-          المدينة، القرية، الصحراء، أيها تفضل للعيش؟ ولماذا؟

المدينة لصخبها وتنوّعها، والقرية لخصوصيتها وتفاصيلها القريبة من النفس، والصحراء لامتدادها. كل مكان له ما تبحث فيه عما يجعله قريباً من نفسك، والأقرب إلى نفسي الصحراء، لأنها تضعك أمام العالم بوضوح.

-         مقولة مفضلة من التراث الشفهي الأردني؟

"ابن آدم عوّاد عا أثره" ويعني: لا تنس أنّك ستمرّ في هذا الموقف، ولا تسيء وأنت تعرف أنّ يوماً ما سيأتي وستندم على هذه الإساءة.

-         الرجيف؟

لا أدري من أين جاءت هذه المدينة، حتى في "لسان العرب" جاءت الإفادة، أنها من الرجف والاهتزاز.

-         أمنية؟

أن يتوحّد العرب على عروبتهم، وأن يدركوا أن لا حلّ إلا ذلك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.