}

رشيد بوشارب: الثقافات التي تعزل نفسها عن الآخر تحتضر

حميد عبد القادر 15 فبراير 2018
حوارات رشيد بوشارب: الثقافات التي تعزل نفسها عن الآخر تحتضر
المخرج الجزائري رشيد بوشارب
منذ أن صور فيلم "طريق العدو" بالولايات المتحدة الأميركية، بطولة الممثل الشهير "فوريست وايتكر"، أصبح المخرج السينمائي الجزائري (المغترب في فرنسا) رشيد بوشارب، يحظى بمكانة مُميزة في الفضاء السينمائي العربي والمغاربي. يتحدث في هذا الحوار عن كيفية اختيار "ثيمات" أفلامه، استنادا لأحداث واقعية يسعى إلى الإجابة من خلالها عن أسباب تدهور الوضعية البشرية.
هنا حوار معه:

 

*تناولت في فيلمك الأخير "الطريق إلى إسطنبول"، انتقال فتاة بلجيكية للتطرف الديني، وعبرت عن مأساة أم تبحث عن ابنتها في سورية، بعد أن التحقت بتنظيم "داعش"، ما هي الأسئلة التي أردت طرحها في هذا الفيلم؟

بطلة الفيلم، أم تعيش في قرية نائية بالريف البلجيكي. تكتشف، وهي في حالة قصوى من الذهول، أنها فقدت ابنتها. ليصلها لاحقا خبر انخراطها في تنظيم إرهابي. الفيلم مبني على المسار القاسي، الذي تخوضه امرأة أوروبية، كانت تعيش في سكينة تامة، لتغرق فجأة في الطرف الآخر للحياة، وتبتعد عن هدوئها، فتسعى للبحث عن ابنتها. لم أهتم أبدا بالجوانب السياسية لهذه المسألة، فهي لا تهمني، بقدر اهتمامي وتركيزي على الجانب العاطفي، بغية اظهار كيف تعيش أم حالة من الإخفاق جراء انحراف ابنتها. أفلام الطريق (Road Movies) تستهويني كثيرا، فهي سينما تضع الإنسان على درب البحث عن خلاصه. وجاء فيلم "الطريق إلى إسطنبول"، وفق هذا التصور السينمائي. جعلت البطلة تخوض الطريق بحثا عن ابنتها، فأوصلتها لغاية تركيا، ومن ثم سورية. ويستند الفيلم على سؤال محوري، هو ماذا فعلت تلك المرأة لكيلا تحسن تربية ابنتها؟


*نعثر على نفس القصة تقريبا في فيلم "لندن ريفر"، هل الإنسان محكوم بالبحث عن شيء فقده في النهاية؟

فيلم "نهر لندن"، يستند بدوره لرحلتين. والرحلة هنا ليست عادية. هي رحلة البحث عن الأبناء. عثمان السنغالي، يسافر إلى لندن بحثا عن ابنه "علي"، بعد أن انقطعت عنه أخباره، عقب الحادث الإرهابي الذي هز لندن في يوليو/ تموز 2005. يلتقي بسيدة بريطانية اسمها "اليزابيت سيمورس" القادمة بدورها، مثل بطلة فيلم "الطريق إلى إسطنبول"، من قريتها  تسافر إلى لندن بحثا عن ابنتها "جين" التي اختفت عقب ذات التفجيرات الإرهابية. في البداية تُظهر السيدة البريطانية أحكاما معادية للإسلام والمسلمين، لكنها سرعان ما تتخلى عن هذه الإسلاموفوبيا، بعد أن تعرفت على عثمان، وعلى مأساته. هذا ما كان يهمني في هذا الفيلم، وهو إظهار فكرة أن التطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب، قد يمس الجميع. لقد اكتشفتُ عبر وسائل الإعلام، مأساة سيدات أوروبيات قدمن شهادة قاسية بخصوص تجربتهن القاسية مع أبنائهن الذين انخرطوا في التطرف ثم في الجهاد بالشرق العربي. فطرحت على نفسي السؤال التالي: "ماذا فعلنا حتى ينحرفوا عن جادة الصواب، ويبتعدوا عنا؟" هذا ما أردت طرحه في هذين الفيلمين.

 

*يبدو في كثير من الأحيان أنك جد مستاء من العولمة، لماذا؟

العولمة لحظة كارثية. تسير بالناس نحو الهاوية. وتضعهم على الطريق للبحث عن مصائر مغايرة، لتصحيح أخطائهم، فهم بذلك إنما يسعون، ويبذلون جهدا كبيرا، لإعطاء معنى لحياة أبنائهم وحياتهم كذلك. لقد تغيرت اهتمامات الناس خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت مرتبطة بالبيئة، وغيرها من القضايا التي تشغل بال الإنسان المعاصر. نحن نعلم جيدا أننا نسير نحو عالم سيعرف حروبا كثيرة. المحظوظون سوف يصبحون قلة قليلة، أما الذين يعيشون حياة قاسية، فهم الأكثرية. روى لي كاتب السيناريو الفرنسي "جان كلود كاريير"، ذات مرة ونحن متوجهون إلى الجزائر، مأساة تلك المرأة الصومالية التي وضعت مولودا وهي واقفة. إنه لأمر فظيع، ومؤسف أن يصل العالم مجددا إلى مثل هذه الأوضاع.


*أنت شديد الشغف بالطريق في أفلامك، كثيرا ما تضع شخوصك في رحلة البحث عن شيء ما، هل هذا هو مصير الإنسان المعاصر
؟

غادر والدي رفقة والدتي الجزائر بحقيبة واحدة في اليد متوجهين نحو فرنسا، واستقرا بها. حكايتي الشخصية، وكل تكويني مرتبط بهذه الوضعية، في كل مرة أجد نفسي ضمن هذه القصة التي تستعيد الهجرة والمستقبل. ثم إن مسألة السفر للبحث عن شيء مرتبط بالماضي، تعد قضية محورية في جل أعمالي، ففي فيلم "ليتل سنغال"، يسافر "ألون" من مدينة "غوري" إلى أميركا بحثا عن أسلافه الذين أُخذوا عنوة إلى هناك على شكل عبيد، وعبر هذا السفر يصل إلى غاية سواحل "كارولينا الجنوبية"، ثم إلى "ليتل سنغال"، وهي مدينة أميركية صغيرة، وهنا يشرع في البحث عن هؤلاء الأسلاف، بغية إعادة لم شمل العائلة التي تشتت بسبب الرق.


*وصلت إلى غاية الحدود الأميركية المكسيكية، ودخلت العمق الأميركي في فيلم "طريق العدو"، بماذا أفادتك التجربة الأميركية؟

فعلا. ذات يوم وصلت إلى الحدود الأميركية المكسيكية لتصوير فيلم "طريق العدو". وفي مدينة سونتا في ولاية "نوفو مكسيك" جرت معي أمور جعلتني أفكر في تصوير هذا الفيلم. وجدت "الجدار" العازل بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك، يمتد على مدى عدة كيلومترات، واعتبرت ذلك بمثابة جنون. عدت إلى فرنسا بعد الانتهاء من تصوير الفيلم، وكنت على دراية أنني عثرت على موضوع مثير لفيلمي القادم، فقررت العودة مجددا للحدود الأميركية المكسيكية للقيام بتحقيقات، ودام ذلك مدة سنة. تعرفت على أميركي خلال تلك الأيام التي قضيتها هناك، وهو مليونير من كاليفورنيا، طلق زوجته واشترى بيتا صغيرا قرب الحدود، فجاء للعيش فيه. اشترى طائرة صغيرة، وراح يقوم بالتجوال عبر الحدود دفاعا عن بلده أميركا. شاهدتُ أن "الجدار" العازل توقف قرب بيته. استضافني في منزله، وبدا لي رجلا ودودا للغاية، وفي كل صباح كان يدعوني لمشاهدة برامج وأفلام دعائية عبر قناة تلفزيونية أنشأها خصيصا للدفاع عن فكرة الجدار العازل بين أميركا والمكسيك. وكان يرسل تقارير يومية للبيت الأبيض، حول تحركات المهاجرين السريين. فهو يعتقد أنه من واجب الأميركيين الدفاع عن حدودهم، وعدم السماح للمكسيكيين بالتنقل عبرها لأميركا. الواقع يفوق كل شيء. وخلال نفس الفترة، تعرفت على أميركي من أصول كوبية، استقر في أميركا منذ عشرين خلت، راح بدوره يدافع عن فكرة الجدار،  أصبت بالدهشة، قلت له إن أميركا استقبلتك في الماضي، فكيف تسمح لنفسك بأن تمنع المكسيكيين من التنقل إلى هنا مثلما فعلت أنت في السابق. أميركا رحبت بك منذ عشرين سنة، كيف لا تسمح بهذا للآخرين. اندهش من سؤالي. فأجابني أنه يفعل ذلك من أجل حماية الاقتصاد الأميركي، وأدركت لاحقا أنه رجل أعمال يخاف على مصالحه الشخصية.

*لكن، من يتمعن في مشاهدة فيلمك "طريق العدو"، يدرك أنه يوجد جدار آخر بين البطل الرئيسي (تمثيل فوريست ويتكر) والمجتمع الأميركي، هل كنت واعيا بهذا الجدار الآخر؟

لما فكرتُ في إخراج هذا الفيلم، كنت لا أزال تحت تأثير فيلم "رجلان في المدينة"، للمخرج "جوزي جيوفاني" وهو من بطولة "جان غابان"، و"آلان دولون"، رغم مرور سنوات على مشاهدتي له. فقلت مع نفسي لماذا لا أعيد الفيلم في قالب جديد؟ فاشتريت حقوق الاقتباس، بيد أنه سرعان ما أدركت أن العناصر التي بحوزتي ليست كافية من أجل إخراج فيلم يستمد نفس الفكرة. كما أن نقل الحوادث إلى أميركا، وحده، دون إضافات أخرى، لم يكن بالحجة المتينة. كان ينبغي أن أضيف إليه الهواجس والتيمات التي عملت عليها في أفلامي السابقة، ومنها بشكل أساسي موضوع الهجرة. بطل الفيلم هو رجل "أفرو أميركي"، غادر السجن حديثا، بعد أن اعتنق الإسلام في الزنزانة. من هنا جعلتني فكرة الجدار المقام على جزء من الحدود الأميركية المكسيكية، للدخول في المجتمع الأميركي عبر الأميركيين الأفارقة.  يبدو أن موضوع  الحدود تسرب إلى وجداني. الممثلون الذين اخترتهم أدوا بدورهم دورا أساسيا في جعل الفيلم يخرج عن الدروب المطروقة سلفا. مثلاً، لم أكن أريد معادلاً أميركياً للمثل الفرنسي "آلان دولون". ففكرت فجأة في الممثل "فوريست وايتكر"، الذي تعرفت عليه قبل سنوات. جذبتني فكرة أن يكون أميركياً من أصول أفريقية، وكان يهمني أن أرى شخصيته تعتنق الإسلام. أعتقد أن التدين في جل أفلامي، عبارة عن فعل ثقافي وفلسفي لا غير. ثم أن الثقافات التي تعزل نفسها عن الآخر، هي ثقافات تحتضر لا محالة.


*وكيف اهتديت لفكرة اعتناق بطلة للإسلام؟

ناقشت موضوع الفيلم مطولا مع فوريست ويتكر. وهو من اقترح فكرة أن راحة بال الشخصية التي يجسدها، ستأتي من اعتناقها الإسلام. كان يمكن للفيلم أن يستند فقط إلى هذه النقطة، لكني رفضتُ أن أحصرها في هذا الإطار دون غيره. ثم إنني مخرج سينمائي كثيرا ما يستمتع بالحرية التي تمنح له ليخرج الفيلم الذي يريده. صورت أفلامي بكثير من الحرية، سواء كان فيلم "لندن ريفر" أو "ليتل سنغال" أو "أنديجان".


*لماذا تصر على عودة الديانة الإسلامية في جل أفلامك تقريبا؟

لأنني أنتمي إلى الديانة الإسلامية، فمن الطبيعي أن يكون الإسلام حاضرا في أفلامي، مثلما هو حاضر في  عائلتي، وهو جزء من ثقافتي. ففي فيلم "أنديجان" جعلت الجنود المغاربة يُصلون قبل المعارك، وكان ذلك يتم كأنه أمر عادي للغاية. لكن اليوم أخذ الدين بعدا مغايرا، سابقا كان الناس يصلون بشكل عادي، ويمارسون حياتهم اليومية. الديانة الإسلامية عبارة عن جزء مهم، لذلك أشعر براحة وأنا أضع شخوصي ضمن هذه العلاقة بدون أي إضافات أخرى.


*مثلت الجزائر في مسابقة الأوسكار، بفيلم "الطريق إلى إسطنبول"، ماذا يعني هذا بالنسبة إليك؟        

في الحقيقة، أمثل الجزائر في  جوائز "الأوسكار" منذ أكثر من عشرين سنة. أصبحت أعيش هذا الأمر كتجربة مهنية مهمة، لكن ليس مثل المرة الأولى، حينما تم ترشيح فيلم "غبار الحياة" سنة 1996. الدهشة الأولى اختفت، أما المرة الثانية فكانت مع "أنديجان" سنة 2007، مع الضجة التي حدثت في مهرجان "كان"، لقد مشيت على البساط الأحمر، ولم يعد الأمر مدهشا بالنسبة إلي، رغم أهمية ذلك على المستوى المهني كما قلت سابقا.


*فيلمك الجديد "شرطي بلفيل"، يختلف عن "الطريق إلى إسطنبول" و"لندن ريفر"، وجاء على شكل فيلم بوليسي كوميدي، هل جاء كاستراحة؟ 

الفيلم عبارة عن كوميديا مع الممثلة "بيونة"، و"عمر سي"، تدور أحداثه بين باريس، وميامي، في قالب بوليسي، عبر شرطي من مدينة "بلفيل" الفرنسية، والدته جزائرية. عملت في هذا الفيلم بكثير من الخفة والمرح. كما أستعد للشروع في إخراج شريط وثائقي بداية من ماي القادم حول الولاية السابعة، أو فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني، استنادا لأرشيف وحوارات سبق لي وأن أنجزتُ بعضها سابقا أثناء تصوير فيلم "الخارجون عن القانون". وهناك مغامرة سينمائية أخرى في الجزائر، أترك تفاصيلها لاحقا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.