}

كريم سعدون: معظم النقد الفني العربي يلامس قشرة العمل

أشرف الحساني 7 أغسطس 2019
حوارات كريم سعدون: معظم النقد الفني العربي يلامس قشرة العمل
كريم سعدون
الباحث أو الناقد الفني الحصيف المتتبع لكارطوغرافية الفن التشكيلي العراقي، لا يمكن أن يغفل أو يتناسى أعمال الفنان كريم سعدون، كأحد أهم الفنانين التشكيليين العراقيين، الذين راكموا أعمالا فنية متميزة، تنأى بنفسها عن الرؤية التراثوية للفن العربي وما تبعها من نقاشات مجانية ووهمية حول الحرف العربي، وذلك بسبب أن "الهوية" هي هويات متغيرة غير ثابتة في المكان والزمان، بل وتجد نفسها دوما ككيان رمزي مهدد، إما بمثاقفة تلقائية، تتم عبر ما قد يترسب في مجتمع ما فيستنشق من هذا الهواء القادم من حضارات ومواطن فنية مختلفة، ليحصل نوع من التلاقح والانصهار بين هذه الحضارت، أو عن طريق مثاقفة مفروضة تتم عبر الاسعمار وغزو الشعوب وهجرة الأفكار. ثم باعتبار الحروفية في نظر جيل الرواد تمثل هوية فنية وجمالية، يتميز بها الفنان العربي عن غيره، لكن ظهور بعض الأسماء العراقية الجديدة بعد جيل الرواد، مثل علي النجار، سيروان باران، سنان حسين، علي رشيد، كريم سعدون وغيرهم من الفنانين كسرت من الطابع الهوياتي، الذي ظل يكتنف الفن العراقي المعاصر محاولة رسم معالم جمالية جديدة أكثر معاصرة من خلال مراهنتها على البعد الكوني للعمل الفني وليس حصرها في إطار أيديولوجي أو عرقي أو جغرافي وغيرها من التنميطات الأقنومية، التي لا علاقة لها بمفهوم الفن عموما. كما تجدر الإشارة إلى أن كريم سعدون أقام العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية المتميزة في كل أنحاء العالم كبغداد والأردن وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا وكندا واليابان والمكسيك وغيرها من الدول، والتي ظل حريصا على التواجد داخلها رفقة فنانين عرب وأجانب.
هنا حوار معه:


(*) منذ سنة 2002 وأن تعيش منفى داخليا وجغرافيا من خلال إقامتك في السويد. ماذا تبقى اليوم في جسدك من بغدد الطفولة والحلم الحاضرة بقوة كرواسب داخل أعمالك الفنية المتقشفة في المادة؟
المنفى في شكله الآخر يعد اغترابا، فهو ليس انتقالا محضا من مكان إلى آخر وحين يكون قسرا فإن صراعا معقدا ينشأ في اللحظة التي تبدأه، فالإنسان كبنية خضعت لكل مقاسات النسق السابق يشكل المنفى أزمة حقيقية له، قد يكون الفنان قادرا على مواجهة الأمر بشكل آخر كونه عاش اغترابا سابقا بتطلعاته وأحلامه وتوقه لأن يكون معاصرا إلا إنه من جانب آخر لا يستطيع الفكاك بسهولة من ضغط الذاكرة المحملة بخزان هائل من العلامات والصور، وأحسب أن الجسد يستحيل إلى بطاقة ذاكرة مشحونة دوما، وهذه الصور والعلامات ستظل تظهر في أعماله بتمظهرات مختلفة، ولكن تقادم السنين يحتم حدوث تعرية جزئية تظهر على شكل إزاحات في بنية العمل وتحيل إلى حلول تقنية في كيفية اشتغال المادة داخله أو لربما تتحول إلى اشتغالات أسلوبية وهذا ما أعتقد حصل عندي، فالذاكرة التي تحاول الهيمنة بدأت بالتسامح في تقبل الإزاحات التي أجريها في أعمالي.


ماذا قدمت لي السويد؟
(*) من العراق إلى السويد رحلة فنية كبيرة، لا تكاد تخلو من دهشة وتأثير كبير على صاحبها، خاصة إذا كان المرء فنانا عاشقا للجمال وقلقا تجاه الفن ومعرفة الآخر ثقافيا وفنيا بغية التفكير في إقامة علاقة روحية مع أمكنته وفنونه بشتى ألوانها. ما الذي سلبه منك وطنك الأم العراق فقدمته لك السويد؟
أكيد أن الأمر لا يخلو من دهشة ترتقي إلى المفاجأة ولربما إلى الصدمة قياسا إلى حجم الاختلاف في مستويات التقدم الحاصلة في البيئة الحاضنة الجديدة، فقد وجدت نتاجاً فنياً

وعروضاً فنية تختلف في طرائق إنتاجها وكذلك طرائق عرضها عما هو تقليدي ومألوف لدينا، وكما تعرف فإن حجم الضغوط التي أحدثتها الحرب مع إيران وأزمة الكويت وبعدها الحصار الاقتصادي، جعل الحقل الثقافي العراقي يعاني من أزمة حقيقية في التواصل مع العالم الآخر لسنوات طويلة وجعلنا منمّطين، ولا أخفيك أمرا فقد شكل ذلك هزة للكثير من القيم والمفاهيم الفنية التي تعلمتها ومنها الدرس الأكاديمي، فالفن العراقي كانت له قاعدة أكاديمية متينة وكانت للدرس الأكاديمي هيمنة كبيرة على النتاج الفني فيه.
كان بحثي أولا عن نوع من التعالق يمكن إنشاؤه بين تجربتي الفنية وما شاهدته من تجارب جديدة حسبته أن يكون مدخلا لتقبلها من المتلقي الجديد، وذلك فتح أمامي تجربة دفعتني باتجاه أن تكون اللوحة طرسا وأن تكون متخففة من الكثير من زحامها وأن تكون قريبة من توصيف العبارة المركزة، لذا يمكنني القول إن ما كان محجوبا هناك أصبح متاحا بفعل هذا المقدار الكافي من الحرية في النتاج الفني وهذا المقدار يتقدم صعودا من التعبير والمواد المستخدمة وطرق إنتاج العمل والأهم انفتاح الأنواع الفنية على بعضها البعض، ذلك كان طبقاً رائعاً قدمته لي السويد ومؤسساتها الفنية.

(*) ماذا عن المستوى التشكيلي والفني، هل أحسست بالقوة وقبولك كفنان من بلد كالعراق وأنت تعرض أعمالك ضمن معارض جماعية تشكيلية مشتركة هناك؟
الفن في السويد وعموم اسكندنافيا منفتح على مستويات التحديث في العالم المعاصر فلا تخلو العروض الفنية فيه من الجديد، سواء بالنسبة للنتاج الفني المحلي أو في العروض الفنية المستضافة في صالات العرض الرسمية والخاصة، كما تشكل عروض متاحفه حوارات مكثفة عن الفن والتي تشكل برأيي بحثا في تحديث مستويات التلقي للجمهور. هذا الأمر يدعو الفنان المغترب إلى تأمل المشهد بروية وإلى متابعة حثيثة لغرضين مهمين، الأول هو تكوين ثقافة بصرية ممتازة في محيطه الجديد تعينه في التميز وتحديد محطات التغيير في النتاج الفني وأسبابه، وثانيا معرفة مدى التلقي لدى الآخر ، وفي كل الأحوال فان الأمر لا يخلو من مجازفة في حالة العرض في البيئة الجديدة، فالمتلقي الآخر يشكل هاجسا للفنان، ولكن المغامرة المحسوبة ضرورية لأنها تدلك على طرق الوصول إلى قاعات العرض، وأزعم أنني نجحت في أن يكون نتاجي الفني مقبولاً لدى المتلقي ولم يخضع لمقاساته، أما لماذا فهذا الأمر منوط بغيري لتبيانه، وشكل لي هذا دافعا كبيرا للبحث والتجريب الدائم وإنتاج أنواع فنية لم أقربها سابقا حققت لي حضورا حرصت على تلمسه.


تركيز أكثر على
الانفتاح الدلالي
(*) داخل أعمالك نجد تقشفا واضحا للمادة أشبه بالبياض أو الجسد العابر والمتلاشي. لماذا ذلك في وقت حارب الفن العربي الإسلامي الفراغ داخل اللوحة باعتباره مكمنا للشيطان على حد تعبير أوليغ غرابال؟
ما أسميته تقشفا في أعمالي يبدو صحيحا جدا شرط عدم الاقتراب منها، لأن ذلك من شأنه أن

يجعل تلقيها مختلفا، نعم هناك ظهور لجسد أو تلاشيه، ففي الآونة الأخيرة أصبح وجوده راسخا لأن هناك ما يتكرر من نمط حياتي يعيشه المنفي. ينصب اهتمامي في العمل على أن تكون علاماته موزعة بشكل حر، أي لا تخضع لقواعد التكوين الصارمة ولكنها ملتزمة بتوفير متعة بصرية، والبياض الذي تشاهده إنما هو إجراء تقني لاظهار العلامة الرئيسية والتركيز عليها وأنا لا أسميه فراغا بقدر ما أعتقد أنه فضاء يحيط بها، كانت أعمالي التي سبقت ما يمكن أن أسميه المرحلة السويدية، ضاجة باللون وباحتدام علامي وهذا كما أعتقد يعود إلى جعل التورية تُحدث أثرها مقابل القلق والخوف من التعبير المباشر أي إبعاد المتلقي عن  القراءة السطحية للعمل، الآن وقد تغير كل شيء تقريبا فالحاجة استدعت نوعا من الإزاحة على صعيد الشكل وتركيز أكثر على الانفتاح الدلالي من خلال استخدام ما يمكن تسميته بأنه أسلوب في بناء طبقات العمل، فلم يعد سطحا بل بنية سطحية متعددة وهذا ما عنيته من أن الاقتراب من العمل يجعل تلقيه مختلفا.

(*) لا يخفى على النقاد والباحثين المنشغلين بالدرس الجمالي العربي أن مظاهر الحداثة في التجربة التشكيلية العراقية لا تزال محتشمة بسبب الفشل الذريع، الذي يطبع منطلقاتها في عدم استيعابها لإمكانية تطويع أفكار وتصورات الاتجاهات الفنية الجديدة وتكييفها مع الموروث الثقافي والفني العربيين. كيف ينظر كريم سعدون إلى تجليات مظاهر هذه الحداثة الفنية في تجربة الرواد داخل التشكيل العراقي؟
أرى أن التجربة التشكيلية العراقية انشغلت طويلاً في بحث دائب عن الهوية، فقد سجلت تجربة الفنان جواد سليم العمل على إنضاج شكل فني حديث بهوية محلية ريادية في كيفية أن تكون فناناً حاضراً منطلقاً من الإرث الثقافي والفني العربي والتي ألقت بظلالها على تجارب فنانين كبار في الوسط التشكيلي، إذا عرفنا أن جواد يمثل المرحلة الأكثر نضوجا في التشكيل العراقي بعد مرحلة المؤسسين الأوائل وكما أعتقد فإنه صاحب المشروع الأكثر وضوحا في هذا الاتجاه. كما يمكن النظر في انشغالات شاكر حسن آل سعيد في شقيها التنظيري والعملي في

استلهام طاقة الحرف والكتابة والأثر وتأثيرات المحيط  بحثا واضحا في هذا الاتجاه، وكذلك في تبني ضياء العزاوي عمليا البحث في استلهام الموروث العلامي في الفنون العراقية القديمة، وقد ترك كلاهما أعمالا رائدة ومؤثرة في الوسط التشكيلي العراقي، كما أن نتاجات جماعة المجددين في الستينيات من القرن الماضي شكلت في العديد منها بحثا في استلهام الموروث الثقافي والفني، وظهر الحرف والكتابة والرمز وتمثلات البيئة كثيمة أساسية في أعمال الفنان رافع الناصري، هذه النتاجات وغيرها يمكنني النظر إليها باعتبارها تجارب رائدة في تطويع نتاجات التشكيل الحداثي العالمي لخلق نتاج حداثي عراقي يمثل روح عصره، وهذا يظهر بشكل واضح عند فصل هذه النتاجات عن التنظير، الذي رافقها ومعاملتها باعتبارها نتاجا مستقلا لتظهر لنا أهميتها في كونها عاشت حاضرها وشكلت مرحلة فاصلة في تاريخ التشكيل العراقي. لقد كان لهذه التجارب تأثير كبير في الارتقاء بمستوى النتاج التشكيلي وووضعه على عتبة التطورات المستمرة فيه، ولكن التطورات السياسية في العراق للأسف الشديد أفشلت هذا المشروع وأوقفت حركته باتجاه العصر.

(*) ماذا عن التجارب التشكيلية العراقية الجديدة، كالتي يمثلها على سبيل المثال لا الحصر سنان حسين، وأمانج أمين؟
التجربة التشكيلية العراقية اليوم تعرضت لاستفزاز وقسر شديدين وأوجدت منظارين لقراءتها، الأول النظر للفن من الداخل، حيث يتعرض التشكيل إلى تنميط يستهدف وجوده بالكامل ولكن

هذا لا يمنع وجود فنانين شباب يحاولون جاهدين رسم طريقهم وملاحقة الحركة السريعة للفن في العالم، والثاني ينشغل في مراقبة النتاج التشكيلي والتبدلات، التي حصلت فيه بعد موجة الهجرة الكبيرة إلى خارج العراق، فهناك تجارب عراقية لم تخرج من معطف التجربة العراقية الرائدة وأخرى ابتعدت عنها، فتجربة سنان حسين مثلا تشكل خروجا عن النسق في بناء عمله والموضوعة التي يعالجها، أما تجربة أمانج أمين فإنها في حدود التجربة التشكيلية العراقية تشكل كسرا للتوقع، فهي لا تنتمي لها وإنما تمثل بحثا بصريا معاصرا وهناك تجارب أخرى عديدة لها بحثها الفني الحديث استطاعت أن تشكل لها حضورا في المشهد التشكيلي العالمي.

(*) من بين الإشكالات المؤرقة، التي بتنا نراهن عليها اليوم داخل "النقد الفني" العربي، جعله يتنزل منزلة الفكر بوصفه مسؤولية فكرية تقوم على إبتداع المفاهيم الفكرية وفهم طرق اشتغالها داخل العمل الفني، وليس فقط كوسيط فني يقوم على التعريف بالعمل، فيقف عند مدخله دون أن يلج أفقه الفكري والفلسفي. هل تعتقد معي أن النقد الفني العربي اليوم قادر على الاتجاه صوب هذه العوالم الفكرية المدهشة، التي تعمل على التفكير في كنه العمل الفني؟
النقد الفني العربي في معظمه ينبني على انطباعات شخصية تلامس قشرة العمل الفني الخارجية ولم يكن اشتغالا نقديا حقيقيا يتبنى مفاهيم فكرية حديثة، وإذا استثنينا تأثير الكتابات الصحافية الدعائية فإن الفن والفنان يعيشان عزلتهما على العكس مما يحدث في الجانب الآخر من العالم، لكن في الآونة الأخيرة أستطيع القول إن هناك اتجاها جديدا ظهر لدى عدد قليل جدا من المشتغلين في الحقل النقدي الفني يتسلح بمفاهيم فكرية تشكل له منطلقات نظرية لقراءة العمل الفني والتجارب الفنية العربية قراءة علمية تلامس دواخله لفهم آليات اشتغال مكوناته، ويمكننا المراهنة على هذه المجموعة في تأسيس جديد للنقد الفني العربي، خصوصا أنها تعي مشكلاته الأساسية، التي تعيق انطلاقته وتسهم كذلك في تحديث آليات التلقي الجديدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.