}

قصة حبّ مع ديكتاتور.. حوار مع الروسي فيتشيسلاف ستافيتسكي

كلاريسا بولسون 10 يناير 2020
حوارات قصة حبّ مع ديكتاتور.. حوار مع الروسي فيتشيسلاف ستافيتسكي
فيتشيسلاف ستافيتسكي

يذكرنا بطل رواية الكاتب الروسي، فيتشيسلاف ستافيتسكي(*) "حياة أوغستو غوفريدو أفينيليانيدا دي لا غاردو"، الديكتاتور السابق، ببعض الشخصيات الدكتاتورية السياسية والأدبية الحقيقية. في الرواية، يُجرّ الديكتاتور عبر البلاد، محشوراً في قفصٍ، كوحشٍ أو مهرّجٍ، عارٍ تماماً، ليعرض على الشعب "انظروا في عيون الوحش!". وفي حوار مع الكاتب ستافيتسكي، أجاب عن بعض التساؤلات على النحو الآتي:

(*) في رأيكم، من أكثر وحشيةً في روايتكم هذه: الديكتاتور المهزوم، أم أولئك الذين ينظرون إليه؟
صياغة لافتة، الديكتاتور المهزوم. على الفور يخطرني لوتسيفر(**) والملائكة، الثائرين ضدّ الله، مع أنّ آفيليانيدا، بطل روايتي، يمرّ، على الأرجح، بتحوّلٍ عكسيّ. محور القصّة يركّز على أنّ الديكتاتورية شيءٌ سيّء. غير أنّ بطل الرواية ليس بالجبان الذي يواجه البطل الطيب، وبالتالي فهو ليس الهدف، الذي اعتمدت عليه لصياغة خطاب مبتذلٍ معادٍ للفاشية. البطل بالنسبة

لي شخصية مأساوية، وهو شخصٌ تواقٌ للخير، لكنّه يتحول إلى مستبدٍ قاتل، ليس بسبب أمراض عقلية يعاني منها، بل بسبب الغباء فقط، لأنه تصرّف كمراهق لا يدرك تماماً أنّ من في إمرته بشرٌ، وليسوا أحجار شطرنج. نعم، إنّه كوميدي، وجرائمه بادية للعيان، وقد استحق عن جدارة سوقه في رحلة الخزي عبر البلاد. فالسقوط هو فقط تعبيرٌعن بلوغه أدنى نقطة من المخطط البياني الجيبي، الذي عليه أن يرسمه. ربما كان أفيلانيدا أول ديكتاتورٍ يستحق بالفعل التعاطف في تاريخ الأدب. سأقول أكثر من هذا، فهذا الحالم السخيف أرقّ بالنسبة لي ألف مرّة من مضطهديه، ومن القديسين الكرتونيين، الذين عرضهم يوماً ما الأدب الروسي الكلاسيكي في السوق.


(*) من أين للشابّ هذا الحزن الإسباني؟ أليس الديكتاتوريون المحليون هم الذين خلقوه؟
من وجهة نظر فتية، لم أكن يوماً معجباً بالطغاة الشرقيين. فهم مملّون، ثقلاء ومتجهمون، ينقصهم البريق الغربي، ويغيب من بلاطهم روعة نماذج دون كيخوت، أمثال" (أنونزيو)، و(أوتو سكرزيني).
أقول بكلّ جديّة: لديّ حساسية تجاه كل ما هو مرتبط بالبلشفية. فمن هناك، من عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين، تهبّ نفحة ميتافيزيقية، وأودّ أن أصفق سقف هذا القبة، وألا أنظر إليه أبداً. بالإضافة إلى ذلك، قضيت وقتاً طويلاً في دراسة تاريخ الديكتاتوريات الغربية، وأعدت قراءة كومةٍ من الأدبيات، وشاهدت كمّاً كبيراً من الأفلام الوثائقية المرتبطة بهذا الموضوع. وأصبحت فجأةً شديد الاهتمام بهذه الظاهرة - تلك الحقبة، عندما بدأ أوربيون مثقفون ومتأنقون، فجأةً، يمشون على مسيراتٍ رافعين أيديهم بالتحية الرومانية، ويحطمون زجاج متاجر يهودية. هذه قصة جنون جماعيٍّ، والجنون كما تعلمون أمرٌ جذاب للغاية. وبالنسبة لإسبانيا، فكلّ شيءٍ بسيط نوعاً ما. أمّا موضوعي، فقد كان يتطلب شيئاً مشرقاً وعاطفيّاً للغاية، والأفضل ألّا يكون بعيداً عن روسيا. لذلك لم أتردد طويلاً في اختيار إسبانيا. الشعب هنا شريك كامل في الديكتاتورية، ولكنّه لم يكن أبداً ضحيتها.


(*) ارتباط واضح بـ" غارسيا ماركيز"، سيد الواقعية الساحرة. أفلا يعيبك أن تكون ثانياً في الترتيب؟ إذ يبدو أنّ كتّاب القرن الماضي قد قالوا كلّ شيءٍ عن الطغاة والديكتاتوريات –  فقد قدّم لهم القرن العشرون الكثير من الفرص والمناسبات.
في واقع الأمر، لم يُقال شيء في الصميم. كلّ ما أتيح لي قراءته عن الديكتاتورية قائمٌ على

مقولةٍ بسيطة: الشعب مقدّس - الديكتاتور مجرم. أليست بدائية مثل هكذا معارضة؟ أو إذا ما تعمقتا بعض الشيء، أليست - خاطئة؟ ففكرة قداسة الشعب فكرة خطيرة على أقلّ تقدير، ولو جاءت حتى من قبل مناصريها الرئيسيين - فيودر دوستويفسكي، وليف تولستوي. أكثر من ذلك، أعتقد أنّه من هذه الفكرة انبثقت أكثر الديكتاتوريات دموية في القرن العشرين. فالشعب شريك كامل للديكتاتوريات، وليس ضحيتها أبداً. ولا يستطيع أيّ شخص يافع ترويض أمّة من ملايين البشر. فجميع مخبري الديكتاتورية المخلصين وعمود قوتها الهجومية الفقري، هم من الشعب، الذي ألَّهناه يوماً ما. ولنلاحظ أنّ الأمة لا تعارض هذا التأليه، وفكرة وجود مقدّسٍ خاصّ بها فكرة مقبولة تماماً. وربما، عندما تزعق الأمة بصوتٍ واحدٍ" هايل!- (التحية النازية)- المترجم"، فإنّها ،بمعنىً ما، تصلّي لذاتها. إذا ما قرأنا "خريف البطريرك" لماركيز، يصبح كلُّ شيءٍ في مكانه. يقول الناس: "لا تقع علينا مسؤولية أيّ شيء: فالديكتاتور، جاء بنفسه واضطهدنا، وأرسل أبناءنا إلى معسكرات الاعتقال، ونحن ما كتبنا التقارير والوشايات بالآخرين إلا مكرهين". وهذا تبرير مناسبٌ لهم تماماًّ.


(*) ما المثير في هذه "الطبيعة" بالنسبة لكم، وما الذي لم يقل بعد عن طبيعة الديكتاتورية؟
أحبّ هذه الكلمة: الطبيعة! ربما هكذا بالضبط، فالديكتاتور نوعٌ خاصّ من البشر، وظهوره بعيد تماماً عن المصادفة. من المثير أنّ هذه الكلمة مناسبة لوصف سياسيي القرن العشرين، أي جميع من كان مثل "كاليغولا". و"نابليون" هو نوع من الطغاة والمغتصبين، ولكنهم ديكتاتوريون، وهم موجودون في قرننا العشرين القديم، والذي لم ينته بعد بالمناسبة.
أعتقد أنّ ظهور الديكتاتورية كظاهرة هو رد فعلٍ في مواجهة ثورة الأفكار، التي شهدها القرن

التاسع عشر، فقد أعلن داروين، نيتشه، وفرويد، كلٌّ على طريقته، موت الإله، وقد غيّرت هذه الفكرة، جذرياً، الإدراك الغربي. نشأ فراغُ رهيب في روح الأوربي، إذ حلَّ عصر اليأس. وفي هذا العصر، تمكن القليل فقط من المفكرين إدراك الشيخوخة، فقد أصيب البعض بالجنون، وأقدم آخرون على الانتحار، أو شارك طوعاً في الحرب.
الديكتاتوريون هم أولئك، الذين وصلوا إلى استنتاجٍ، على غرار المهندس" كيريلوف"، مفاده: إذا لم يكن هناك إله، فهذا يعني أنني أستطيع أن أكونه! كان يجب ملأ الفراغ، ليس في داخل الشخص فقط، بل وفي دواخل معاصريه أيضاً. يبدو غريباً القول إنّ الديكتاتوريين كانوا إنسانيين، بشكلٍ ما. فقد ظنوا أنفسهم مخلِّصين، إن لم يكن للبشرية جمعاء، فأقلّه للأمّة التي ينتمون لها. يقول الديكتاتور لنفسه: إذا كنّا قد فقدنا فردوس السماء، فإنني (أنا الدكتاتور) سأقيمه على الأرض. الأمر مختلفٌ في أفكار نيتشه التي رفعت أيّة مسؤولية عن كاهل أولئك الذين نصَّبوا نفسه مكان النبي موسى، والذين بدأوا ديكتاتوريتهم بنوايا حسنة، ليستيقظوا صباح اليوم التالي، وقد تحولوا إلى مصاصي دماء.


(*) ما الذي تفتقدونه في الأدب المعاصر؟
أفتقد الإيمان بالإنسان. إذا حكمنا انطلاقاً من أفضل الروايات المعاصرة، فإننا نشهد حلول عصرٍ من خيبة أملٍ عامة في مجال الأدب، وفي الثقافة عموماً. يظهر هذا واضحاً في نصوص كلٍّ من : جوناثان فرانزين(1)، وميشيل أويلبيك(2)، وفريدريك بيغبيدير(3)، وجوليان بارنس(4)، وإيان ماكوين(5). في الأدب الروسي، الأمر مختلف بعض الشيء، ولكنّه يتخذ منحىً مشابهاً أيضاً. فنحن (الروس)، وإن كنّا نقف على أطراف العالم الغربي، فإننا جزء منه. وبالمناسبة، نشهد الوضع نفسه في السينما، وخاصّةً الأوروبية. وهذا لا يسعدني على

الإطلاق. فهل حقاً تقتصر قدرات الأدب الإنساني على إطلاق صرخات اليأس؟ أحقّاً مرّت عشرة آلاف سنة من تاريخ البشرية، فقط، لتنتهي بنثرٍ وكتابات ساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي؟ على مدى الـ100 سنة الأخيرة، لطّخ الإنسان صورته بأفعالٍ فظيعة، ولكنّ ذلك كلّه ليس مبرراً لاعتبار الطريق مسدوداً أمام التطور. ففي القرن العشرين، لم يكن المجرمون أكثر عدداً من القديسين والأبطال والعلماء... ولا أظنّ أنّ حضارتنا ترتكز على أعمدة هرقل العظيمة ممثلةً بمتاجر الجنس على جانب الشارع، وبالمقاهي على الجانب الآخر منه. ولا أخجل من الاعتراف أنني أؤمن بمستقبل الإنسان، الدنيوي والميتافيزيقي. ولكنني في الوقت نفسه، لا أريد أن أكون المؤمن بذلك وحدي. ولهذا أهتم بالقراءة، ليس فقط من أجل المتعة الجمالية، بل لأنّني أعتبرها وسيلة بحث أجد من خلالها القريبين مني روحياً.


هوامش:
(*) فيتشيسلاف ستافيتسكي: من الكتاب الروس الشباب، صدر له قصص وروايات، أهمها: "من الإرث"، و"الجسد"، و"الشقّة"، و"رائد الفضاء"، و"أول أيام الخلق"، و"حياة أ. غ". يعمل منذ سنواتٍ على كتابٍ ضخم "مخطوطات الغرب غير المعلنة"، ويتألف من سلسلة مؤلفات تجمعها عمومية الفكرة، ويدخل فيها رواية "حياة أ. غ".
(**) لوتسيفر: مسلسل تلفزيوني. يشعر الحاكم بالملل، فيقرر ترك أملاكه والتوجه إلى العالم الواقعي. بعد أن يمضي فترة رائعة في مدينة لوس أنجلوس متمتعاً بمباهج الحياة فيها، تنقلب الأمور رأساً على عقب بعد وقوع جريمة قتل في النادي الذي أنشأه.
(1) جوناثان فرانزين :Jonathan Earl Franzen: كاتب وروائي أميركي، أشهر مؤلفاته: "النقاء  purity"، و"الحرية  freedom"، والتصحيحاتcorrections.
(2) ميشيل ويلبيك Michel Houellebec - أحد أكثر الكتاب الفرنسيين شهرة، ترجمت كتبه إلى عشرات اللغات في العالم. أشهر مؤلفاته: "سيروتينين- serotonin"، و"الأجزاء الأوليةelementary parts "، و"التواضع- humility"، و"المنصة - platform".
(3) فريدريك بيغبيدر Frédéric Beigbeder-  كاتب وناقد فرنسي. أهم مؤلفاته: "نوافذ على العالم- windows on the world"، و"99 فرنك- 99 francs "، و"الأناني الرومانسي- romantic egoist"، و"حكاية حب فرنسية-French romance l".
(4) جوليان بارنس Julian Patrick Barnes- .كاتب بريطاني معروف أشهر مؤلفاته: "الإحساس بالنهاية/ جائزة البوكر"، و"صخب الزمن"، و"ببغاء فلوبير"، و"إانكلترا إنكلترا"، و"لاشيء يدعو للخوف".
(5) إيان ماك إيوان  Ian Russell McEwan - كاتب بريطاني، سيناريست وكاتب دراما. من مؤلفاته: "الكفارة-  atmnement"، و"قانون عن الأطفال- law about children""، و"الحالم- dreamer".


عن صحيفة "روسكايا غازيتا"/ رابط المقالة:

https://rg.ru/2019/11/19/staveckij-narod-polnopravnyj-souchastnik-diktatury-a-ne-ee-zhertva.html

 ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.