}

فرحان بلبل: المسرح السوري في حالة كمون الآن

أنور محمد 29 نوفمبر 2020
حوارات فرحان بلبل: المسرح السوري في حالة كمون الآن
"الشباب بعقليتهم الجديدة سوف يحملون شعلة المسرح فيما بعد"

 قوَّة وحريَّة، هما ما يذهب إليه مسرح الكاتب والمخرج المسرحي السوري فرحان بلبل، 1937، قوَّة مُرتكزها العقل والضمير، وحريَّة لا تصغي إلاَّ لصوت العقل، مهما قوي جبروتُ السلطة السياسية والدينية. من مسرحياته: الجدران القرمزية، الحفلة دارت في الحارة، الممثلون يتراشقون الحجارة، العشاق لا يفشلون، لا تنظر من ثقب الباب، القرى تصعد إلى القمر، لا ترهب حد السيف، يا حاضر يا زمان، العيون ذات الاتساع الضيق، طاقية الإخفاء، الجدار، الليلة الأخيرة، ديك الجن، عريس وعروس، ابدأ. وغيرها.
التقيناه مؤخرًا في مدينة حمص وكان هذا الحوار:

(*) أين هي ثمار المسرح السوري منذ زرعَ أبو خليل القباني ما زرعْ، وحتى فرحان بلبل؟
-  إنْ كنتَ تنطلق في هذا السؤال من توقُّف المسرح السوري حاليًا، أو من تجلِّيه اليوم في عروض شحيحة بعددها ومضمونها وأشكالها، فأنتَ على خطأ شديد. فالمسرح السوري منذ بداياته حتى ما قبل الأحداث الأخيرة أينعَ في كل مرحلة ثمارًا يانعة لم تكتف بحلاوة الفرجة ولذَّة السهر والسمر، بل خاضت معارك المجتمع وأعداء الوطن. طوَّرت عقليةَ الناس. دفعت بتقاليدهم البالية إلى الاندثار. حاربت الفساد والاستبداد. فَضَحَتْ ما يجب فضحه من خلال دفاعها عن الحق والخير والجمال. واعذرني إذا قلتُ لك - وأنا أعرف تمامًا تاريخ المسرح في أكثر الأقطار العربية - إنَّ المسرح السوري كان أشجعَ المسارح العربية في صدق القول والمعالجة. فرغم كل الرقابة التي كانت مفروضة عليه - شأنه في ذلك شأن المسرح العربي كله - فقد كان يتفلَّت من هذه الرقابة بدهاءٍ مرَّة، وبجرأةٍ شُجاعة مرَّة، وبالاستناد إلى تاريخه العريق في كل المرات. وهذا يعني أنَّه إنْ كان اليوم في حالة توقُّف بسبب أحداث أكبر من كل ما يمكن أن يخطر ببالك أو ببال أدهى السياسيين، فإنَّ حقيقته أنَّه في حالة كمون، وسوف يمدُّ رأسه بقوَّة حين يجد فرصة للظهور.



(*) وهل الحرب الدائرة ثمرةٌ من ثماره؟
- الحرب الدائرة اليوم هي عدوُّ الفكر والمسرح والوطن، وكل ما هو خيِّرٌ عند البشر. وهل كانت الحرب يومًا غير ذلك؟ إنَّها ليست ثمار الفكر أو المسرح. بل هي ثمارُ تصارعِ المصالح الدولية على الأرض السورية الجريحة. وكن على ثقة أنَّ جميع المتصارعين سيخسرون. وسيربح الشعب السوري نفسه. صحيح أنَّه سيخرج منها مثخنًا بالجراح وفقد الأهل والأصحاب والدمار، لكنَّه سيربح معركته. وعند ذاك ستجد المسرح السوري يعود في إهاب جديد ليس إلا استمرارًا للثمار التي زرعها المسرحيون السوريون من أيام أبي خليل القباني حتى اليوم.


(*) أنا أعرف أنَّ المسرحي (لا يأثم)، وأنا معك في أنَّ الشعب السوري سينتصر، وهذا في الحتمية. لكن الثقافة عمومًا – وليست السياسة فحسب – هي المسؤولة جزئيًا عن هذا الخراب والدمار. لماذا لم يواجه مثقَّفونا هذا الخراب؟ وإنْ واجهوه فبخجل؟
-  لا نبرئ أحدًا من فئات الشعب السوري عما جرى. لا المثقفين ولا السياسيين ولا غيرهم. فقد واجه الجميعُ أزمةً ما كانت صغيرة أشبه بدمَّل أو بثرة. وإذا بهم يقيِّحونها بالسكاكين حتى تحوَّلت إلى جحيم يبتلع الجميع. وهنا أسألك: هل المثقفون أو عامةُ الشعب المساكين – والمثقَّفون منهم – كانوا قادرين على إيقاف ما وقع؟ وهل كان للمثقَّفين أو عامة شعوب الأرض دورٌ في ردع المطامع حين تتكالب عليهم؟ إن المثقَّف يُنير الدرب. يوجِّه. يدافع عن الحرية. يحارب في حرب واضحة المعالم. أما عندما تختلط الأمور وتضيع ملامحُ وأهدافُ الحرب، فإنَّ دوره هو أن يسعى إلى لمِّ شمل ما تفرَّق من أبناء الشعب الواحد.

المسرح السوري اليوم في حالة توقُّف بسبب أحداث أكبر من كل ما يمكن أن
يخطر ببالك أو ببال أدهى السياسيين، وسوف يمدُّ رأسه بقوَّة حين يجد فرصة للظهور.




(*) كيف سيلِمُّ المثقَّف هذا الشمل؟
- دعني أذكر لك حديثًا يتكرَّر معي كل أسبوع مرَّة على الأقل. فمنذ بداية الأحداث في سورية جاءني مجموعة شباب وسألوني: ما دورك فيما يجري؟ قلت لهم: (لا أعرف). قالوا: (نحن نعرف. دورك الآن أنْ تسكتْ وتراقب. وحينما تنتهي الأزمة يجب عليك أن تقوم بواجب اجتماعي هو أن تساهم بلمِّ صفوفنا الممزَّقة، وأن تقدِّم مسرحًا يبلسم جراحنا. وهذا ليس دورك أنت فقط. بل دور كل من يعمل في ميدان الثقافة). وظلَّ هذا الحوار بيني وبين الشباب في مدينتي طوال السنوات الماضية. ومنذ أسبوع فقط جرى آخر حوار من هذا النوع. بقي أنْ أضيف أنَّ كل مرَّة جرى فيها هذا الحوار كان الشباب المحاورون ينتهون بتنبيهي إلى أنَّهم لن يرحموني إذا قصَّرت بواجبي. وقال لي أحدهم مرة: (لا تستغربْ إذا رمينا عرضك المسرحي بالبيض الفاسد. ورفقًا بشيخوختك لن نضربك بالحجارة). وأرجو أن تنتبه إلى أنَّ هذا الدور لن أقوم أنا باختياره، بل سيفرضه عليّ الواقع. وأعتقد أنَّ كل عامل في الحقل الثقافي سيجد نفسه أمام مهمة سيفرضها عليه الواقع.


(*) أنت تتحدَّثُ عن دورك، أنا أتكلم عن دور غيرك من المثقفين. ولو ذهبنا بعيدًا: ألم يقف الفيلسوف الألماني نيتشه ضد الأعمال الوحشية لألمانيا ضد فرنسا؟ وكذلك الفيلسوف رينان، ألم يشجب أعمال نابليون؟ وكذلك سارتر، ألم يقف ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر وفيتنام؟ فلماذا لم يقف المثقفون ضد آلة القمع والقتل؟ ولماذا لم يواجهوا هذه الحرب؟
- بين ما ذكرته من موقف هؤلاء الفلاسفة وبين موقف المثقَّف السوري، أنَّ هؤلاء وقفوا ضد حروب قامت بها بلادهم ضد شعوبٍ أخرى، وبلادٍ بعيدةٍ عنهم. أما الحرب الدائرة في سورية فهي بين أطرافٍ من شعبها. صحيح أنَّ هناك دولًا جاءت لتتحارب على أرض سورية. لكن الأداة الرئيسة في هذه الحرب مكوَّنة من قسم من السوريين، بينما يقف القسم الأكبر منهم بعيدًا عنها ورافضًا لها. وإذا كنتَ ترى المثقَّفين السوريين ساكتين أمام ما يجري فلأنَّهم حائرون ضائعون.

(*) لماذا ضائعون وما هو السبب؟
- السبب هو أنَّهم قد يتعرَّضون لقمع داخلي من الأطراف المتنازعة. خاصة وأنَّ جنونًا ما أصاب هذه الأطراف المتنازعة. وأمام الجنون تضيع العقول. ولنفرض أنَّ المثقَّفين الذين هم داخل سورية – فلا شأن لنا بمن هم خارجها – تداعَوْا إلى موقف واضح واحد من هذه الحرب. فهل يستطيعون تلبية هذا التداعي؟ وهل يمكن لهم أن يوجِّهوا نداءً حتى لو كان بسيطًا يتعلَّق بهذه الحرب؟


(*) هنا أريد رأيك؟
- إن الوضع السوري اليوم فريد في تاريخ الشعوب ولا سابقة له. وعلينا – لكي نستطيع التعامل معه – أن نوجِدَ نظرة جديدة إليه. ومع الأسف الشديد لم يستطع أحد حتى الآن أن يجد هذه النظرة.


المثقَّف يُنير الدرب. يوجِّه. يدافع عن الحرية. يحارب في حرب واضحة المعالم. أما عندما تختلط الأمور وتضيع ملامحُ وأهدافُ الحرب، فإنَّ دوره هو أن
يسعى إلى لمِّ شمل ما تفرَّق من أبناء الشعب الواحد 




(*) لو قلَّبنا صفحات التاريخ لوجدنا أنَّ أيَّ حراكٍ أو تغييرٍ قام أو يقوم، كان المثقَّفون وراءه. والمسرح كما نعرف هو وراء كل تغيير. فما دوره اليوم؟
-  دعني من الفكر الذي كان وراء ما يجري اليوم. فقد اختلطت عليَّ الأمور لأنَّ ما يجري غير مفهوم. أما عن دور المسرح اليوم فهو أنَّه لا دور له. صحيح أنَّ هناك بضعة عروض متفرِّقة في هذه المدينة أو تلك، لكنها جميعًا باهتة شحيحة الموقف والفن والفكر. وهي أشبه ما تكون بتسجيل نشاط ثقافي حينًا، أو تفجُّرات شباب غاضبين متألمين حينًا. وهو غضب ضائع الملامح. لكنه ألمٌ شديدٌ يسدُّ على أصحابه صحةَ الرؤية والموقف. ولا تنس أنَّ هناك رقيبًا صارمًا من كل ما يمكن أن يقال. وهذا الرقيب الصارم تقوم به كل الأطراف المتنازعة. فهل يستطيع أحدٌ أن يفعل شيئًا في ظل هذا الرقيب؟



(*) برأيي يجب أن نفعل شيئًا، فأولادنا وأحفادنا لن يرحمونا؟
- تبدو قاسيًا. لكن دعني أقول لك بأنَّ الطوباويين قد يقولون – خاصة إذا كانوا خارج سورية – إنَّ على المسرحيين أن يكونوا متواجدين على الساحة الثقافية رغم كل شيء. لكن من تكون يده في الماء البارد غير الذي تكتوي يده بالنار. وفي هذه المناسبة سأذكر لك حادثة جرت معي، وهي حادثة قد تكون لها عندك أو عند غيرك دلالة ما. لكنها عندي حملت كل الدلالات على ما سيأتي.
فقد جاءني عدَّة شباب وفتيات وقالوا لي: (نريد أن نقدِّم عرضًا مسرحيًا. ونحن بين يديك فافعل بنا ما تشاء). نظرت إليهم بدهشة. فانبرى واحد منهم وقال لي: (نحن نعرفك. ونعرف أنَّك بعيدٌ عن كل تفكير طائفي أو شُللي أو حزبي. ونعلمُ أنَّك تأبى أنْ يذكر واحدٌ أمامك انتماءه المذهبي، أو أنْ يتمسَّك به. لكنَّنا مجبرون على أن نقول لك إنَّنا ننتمي إلى كل الطوائف في حمص. ففلانٌ من طائفة كذا. وفلانٌ من طائفة كذا. وقد جمعنا بعضنا لكي تواجه بنا هذا الواقع الممزَّق. فماذا تقول؟).


(*) ماذا قلتَ لهم؟
- نظرتُ إليهم بدهشة أكبر. وإذا بدموعهم تنحدر على خدودهم. وضعوا رؤوسهم على صدري وقد ازداد نحيبهم.
تجلَّدْ أمام هذا الموقف إنْ كنت تستطيع التجلُّد. واعرف ماذا تستطيع أن تفعل إنْ كنت تستطيع أنْ تعرف. وأنا لا أعرف ماذا يجب أنْ أفعل بهم. لكنِّي أعرف أنَّ هؤلاء الشباب بعقليتهم هذه سوف يحملون شعلة المسرح فيما بعد.

*ناقد وباحث مسرحي سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.