}

بيير رابحي: كورونا لعنة وفرصة في الوقت نفسه

لويزة ناظور 8 مايو 2020
حوارات بيير رابحي: كورونا لعنة وفرصة في الوقت نفسه
رابحي.. المؤسس لمبدأ الزراعة البيئية في فرنسا وغرب أفريقيا
ولد بيير رابحي سنة 1938، في قرية القنادسة، في ولاية بشار جنوب الجزائر. فقدَ والدته وهو في الخامسة، فاضطر والده الفقير إلى تسليمه إلى عائلة فرنسية ليس لها أولاد، فتبنّته، وعلّمتْهُ بالتوازي مع ثقافته الجزائرية الأصل. عَمّدته هذه العائلة، ولكنّه بات مُلحِدًا في ما بعد.
يعدُّ رابحي، حتى في الأمم المتحدة، الأب الروحي والمؤسس لمبدأ الزراعة البيئية في فرنسا وبلدان غرب أفريقيا، فهو من كبار الخبراء الدّوليين في هذا المجال.
أنشأ بيير رابحي تيّار "الحركة الدُّوَليّة من أجل الأرض والإنسانيّة"، أو "حركة الطيور الطّنّانة"، كما يدعو إلى ثقافة بيئية من شأنها حماية كوكب الأرض. كذلك يدعونا هذا المفكر إلى الخروج من أسطورة النمو اللامحدود، ومن فخّ الاستهلاك المفرط، وإلى تحقيق الأهمية الحيوية لأرضنا المُغذّية، وإلى تدشين أخلاقيات حياتية جديدة، نحو "اعتدال سعيد". كما يدعو إلى "انتفاضة الضمائر"، وحماية البيئة، حيث يؤكد على أهميّة أن يحلّ التضامن والتعاون بين البشر مكان النزاعات والتوترات القائمة، وهذا ما جعل الفرنسيون يرشحونه لنيل "نوبل للسلام".
أُطلِق اسمه على شارعٍ في فرنسا، وعلى إحدى الحدائق الفرنسية أيضًا، حيث أجرى تجارب زراعية.
يبدو أن نشأته في قرية قنادسة، وواحتها الهادئة، بسحر طبيعتها في جنوب غربي الجزائر، طبعت مسارَه المهني والفكري. فمنذ قرابة نصف قرن التزم رابحي بالدفاع عن الإنسان، وعن الطبيعة، وكوكب الأرض، الذي يصفه بالواحة الوحيدة المتاحة للإنسان حتى الآن، وسط صحراء فلكية واسعة.
ورغم الشهرة الواسعة التي اكتسبها رابحي، كمفكر و"فلاح عالَمي" صديق البيئة، ما زال يلتزم بروح التواضع والدعابة، حين يقول إنه يرى بأنه قبل كل شيء "شاعر الأرض"، أمضى جل حياته وهو يتأملها في أبهى حالاتها ويخدمها.
بغية التعريف بهذا الفلّاح الفيلسوف، والشاعر، وبتجربته النادرة، ونضاله في سبيل "أُمِّنا الأرض"، أجرينا معه هذا الحوار الذي نتمنّى أن يُمتِع القُرّاء ويفيدهم، وخصوصًا أنّه تحدَّث عن الأزمة الراهنة التي تُجابهها البشرية جمعاء، ألا وهي جائحةُ فيروس كورونا؛ يقول إنه بمثابة رسالة تُوجه إلى قادة العالم تُبيِّن إخفاق الأنظمة الاستهلاكية، مشيرًا إلى أن ما كان يخشاه طيلة سنوات كفاحه بدأ يظهر بوضوح في واقعنا الحالي، مؤكدًا أن الخلاص من الصدع الكوني، وهلاك الكرة الأرضية، يكمن في قيم الرحمة والتراحم، وتجسيد التغيير، والقيم الأخلاقية، في أنفسنا، قبل تجسيدها في المجتمع.

 

(*) مسار حياتك عاد بك إلى الأرض في الستينيات، حيث ارتبطت شخصيتك أساسًا بعلاقتك بالطبيعة والأرض. هل كانت هذه العودة إلى الأرض سعيًا وراء المعنى؟
حاولتُ، منذ الصغر، أن أجد مغزى لحياتي، وأن أبحث عن حقيقة الوجود، وخاصة عندما

سلمني أبي لعائلة فرنسية كي تتبناني. شعرت بالتمزق بسبب بعدي عن بيئتي الأصلية التقليدية، وانتقالي إلى عائلة فرنسية كانت تنعم بالعيش الرغيد، إلى جانب اختلاف ديانة هذه العائلة. أصبح اسمي بيار بدلًا من رابح. وجدت ضالتي في الكتب، وذهبت أبحث عن حقيقة الوجود عند الفلاسفة. غير أنني اكتشفت أنهم لا يتّفِقون في ما بينهم، ولِكلٍّ منهم رأيّه الخاص المُرتهِن بتيار فكره وقناعته.
الأهم من ذلك، ما حدث بعد التبني، ووقوفي أمام حقائق متقابلة ومتعارضة. جعلني هذا أستخلص أن التفكير يتطوَّر مع تعدُّد الحقائق واختلافها. الحقيقة الوحيدة التي أردت أن ألتزم فيها هي تلك التي قالها سقراط: "كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا".
كان عمري واحدًا وعشرين عامًا عندما انتقلت للعيش في باريس، حيث وجدت أن العالم المُتحضر يربكني، وخاصة عندما بدأت عملي الأول في المصرَف الذي بدا وكأنه معبد للمال. وقد ظلت علاقة الناس بالمال وسعيهم المستمر لربحه تزعجني أيضًا.
كانت باريس عاصمة متحضرة، ونموذجًا لكل ما تحمله التكنولوجيا المعاصرة المتقدمة من آمال مفتوحة على المستقبل بمجموعة من الوعود المبنية على عقيدة جديدة ترى أن التكنولوجيا المعاصرة ستدفع بالإنسانية إلى عهد جديد يُخرجها من التبعية للطبيعة، حيث سيخترِع الإنسان كل الأدوات التي تجعل الطبيعة نفسها ترضخ له ولطموحاته المتفاقمة. هذه الطموحات التي كلما زاد تحقيقها زاد خطر تدمير الأرض تحت أقدامنا، وكل ذلك تحت شعار "التقدم".
وجدتُ نفسي في نظام يسحق الإنسان ويغلقه في دورة إنتاج وبيع وشراء. ما كان يربكني أكثر هو ترافق نموذج التصنيع هذا مع منظومة اجتماعية جديدة ترافقه. نظام يحاصر الإنسان المعاصر في دائرة الاستهلاك، وفي آفة عدم القناعة. كنت في ريبة حول "السعادة" المزعومة التي تنبثق عن هذا النهج. وقد كتبت عن هذه السعادة الحقيقية المفقودة بعد سنوات من تجربتي الباريسية، وعودتي إلى الأرض، في كتاب تحت عنوان "نحو الاعتدال السعيد" Vers la sobriété heureuse "، الذي نُشر في دار أكت سود عام 2010.

بيير رابحي في مركز تدريب زراعي أسسه في بوركينا فاسو

كنت أشعر أننا ماضون في اتجاه متسارع في "مجتمع استهلاكي" يعمل، في سياقه العام، على استخدام المنتج الاجتماعي لتلبية الحاجات الإنسانية لسكان الأرض الذين يزداد عددهم في كوكب محدود. مفارقة يخرج منها الإنسان والطبيعة خاسرَين تمامًا. لأن الإنسان بذلك ينهك الأرض الأم التي تؤويه، وتبعث فيه سعادة وجوده فيها.
لم أجد نفسي في قيم المنافسة التي أتت بها الحداثة الاقتصادية، في وقت كنت أسائل نفسي

كثيرًا عن معنَى الحياة، وقررت التخلّي عــن العيش في المدينة بصورة نهائية، وغادرت باريس سنة 1960، مع زوجتي ميشيل، مفضّلًا الاستقرار في منطقة أرديش Ardèche الريفية، وكانت أرضًا قاحلة صخريّة لا يتوفَّر فيها الماء ولا الكهرباء ولا حتى طريق معبد، ولكنها تتمتع بمناظر طبيعية خلابة.
حينها، طبّقتُ مبادئ الفلاحة البيولوجية والإيكولوجية على ضيعتي الصّغيرة بنجاح، وذلك في مجالي الزراعة، وتربية الماشية، متغلّبًا على أرض قاحلة صخريّة، وربّيتُ في هذه الضّيعة أبنائي الخمسة.

 

(*) بقدر ما اشتهرت كمزارع، اشتهرت كفيلسوف. كيف امتدت هذه العودة إلى الأرض لتصبح تيارًا فكريًا يُحتذى به؟
انطلاقًا من تجربتي الناجحة في ضيعتي الصغيرة في فرنسا، التي كانت قاحلة، ابتكرتُ مفهوم "واحة في كل مكان"، وطبقتُ مبادئه في التربة الجافة، والتُّربة الصخرية. ثم تحوّل هذا إلى حركة الواحات في كل مكان.
كما شاركت بخبراتي في البلدان الأفريقية التي تعاني من شحّ في مواردها الفلاحية، ساعيًا إلى تطبيق التجارب التي توصلت إليها لمساعدة شعوب دول العالم الفقيرة لمحاولة تأمين غذائها، وسرعان ما طُبّقت مفاهيمي النظرية في مجالي الزراعة البيولوجية وعلم البيئة، في مجموعة من البلدان الأفريقية، منها بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر.
كنت أُدرِّب المزارعين على طريقة زراعية يستطيعون من خلالها أن يتوصلوا إلى اكتفاء ذاتي من دون الاعتماد على الأسمدة والمبيدات الكيميائية باهِظة الثمن، ثم التخلص منها لجعلهم في حالة اكتفاء ذاتي تام يعتمد على الطبيعة من غير الرجوع إلى هذه الموارد التي تنتجها شركات بتروكيميائية عالمية، والتي تجني الأرباح الطائلة من جهود المزارعين الذين يساهمون بالتالي في تسميم أراضيهم التي كانت خصبةً في البداية.
خلال سنوات من العمل الدؤوب من أجل الأرض، تكونت شبكة ترويج لأفكاري في أرياف العديد من البلدان العربية والأفريقية وواحاتها، بدعم من مؤسسات تعاون بحثية وطنية وإقليمية ودولية. كما شاركت في صياغة اتفاقية الأمم المتحدة في مواجهة ظاهرة التصحّر، حيث أشرفت على أنشطة، وتبادلات بشكل يخدم مصالح الطبيعة والإنسان معًا، والتي على أساسها يعاد تشكيل الروابط الاجتماعية. إضافة إلى أنني كنت أحد مُؤسِّسي "حركة الأرض والإنسانية".
كنت أخلق الوقت الكافي للقراءة والكتابة، رغم كل الجهود المبذولة والشاقة أحيانًا كـ"فلاح بلا حدود" ولم أتوانَ لحظة عن مخاطبة الضمائر لحماية الأرض من الاستنزاف والتخريب. ولأنني اخترت أن أعيش قرب الأرض وخدمتها، كنت أُحذِّر بشكل عملي وتربوي من ثقافة الاستهلاك التي تؤدي إلى الكسل وقحط الأرض.
اكتسبتُ كل أفكاري، التي أدافع عنها في الكتب والمؤتمرات الدولية والدورات التدريبية التي أشرف عليها، انطلاقًا من قناعتي بإمكانية بناء مجتمعات من نمط آخر تتأسس على الاستقلال الذاتي، وعلى احترام البيئة، وعلى مبادئ النزعة الإنسانية.

 

(*) لا يزال العالم يحبس أنفاسه مع تفشي جائحة فيروس الكورونا، كيف تفسر عجز القرية الصغيرة التي قالت بها العولمة عن الصمود في وجه جائحة هذا الفيروس المرعبة، رغم الإجراءات الاحترازية التي تطبقها معظم دول العالم؟
هذا الفيروس فاجعة عالمية اجتاحت البشر إلى درجة أنّه ينتقل بين البشر قبل ظهور أعراض

المرض. في كل يوم، وفي عدد كبير من الدول، تُسجل يوميًا أرقام قياسية لضحايا الفيروس القاتل، من مصابين ووفيات. وهذا يكشف بشكل واضح هشاشة منظومات العيش الحديثة رغم ثرائها.
وأنا أتساءل اليوم: هل نحن فعلًا أذكياء كما نحب أن نوهم أنفسنا؟
يجب أن نفرق بين الكفاءة والذكاء. هنالك العديد من الكفاءات في مختلف المجالات، لكن الإنسان المعاصر يفتقِر إلى الذكاء الفطري. أجد أنه لا بُدّ من كفاءة كبيرة لاختراع قنبلة ذرية، لكن هل من الذكاء اختراع الأسلحة النووية الإستراتيجية التي يمكنها تهديد بلد بأكمله في حين نعجز على القضاء على فيروس يجتاح الأرض والبشرية بوباء رهيب فاجأ العلماء والمختبرات والمصانع النووية نفسها التي كان يظن البشر أنها أخطر ما يُحدق بهم؟ يبدو جليًا، إذًا، أن "القرية الصغيرة" غير قادرة على الصمود في وجه فيروس كورونا الفتاك.
النموذج الصناعي والإنتاجي، الذي يقوم عليه العالم الحديث، مبني على التنافس والحرب الاقتصادية بين الأفراد، وهو يعتمد على احتراق الطاقة والنفط حتى ينضب الاحتياطي، والسعي وراء الربح غير المحدود في كوكب محدود الموارد. يصعب مع هذا النموذج القول: إننا كائنات ذكية من خلال الميزانيات المخصصة للسلاح، بينما لم نجد حتى الآن لُقاحًا فعّالًا بشكل أسرع لهزيمة فيروس كورونا.
بسبب تسارع التبادل التجاري حول العالم، انتشر الفيروس حول العالم وتعمم. كان مُمكِنًا أن يبقى فقط في مكان انتشاره، ولكنه شهِد انتقالًا سريعًا مع العولمة والشركات العابرة للقارّات، والتنقل السريع حول الأرض الذي لم تشهده البشرية قبلَ شركات الطيران، وعولمة الحركة البشرية. ربما لو كنا نتحرك بشكل معقول، من مكان إلى آخر، لَما انتشرَ بهذه الطريقة في هذه الحالة. نرى هنا أن الإنسان بذاته يساهم في انتشار ما يمكن أن يسبب أعظم الأذى. ولم تكُن القيود على السفر كافية لوقف تفشي جائحة الفيروس.
أكاد أجزم أن فيروس كورونا الفتاك ما كانَ لِيُزعزع أركان الأرض لو كان هناك نظام عالمي يحتكم إلى أسس ناظمة عادلة، وقيادة تحتكم إلى مصلحة البشرية والقيم الإنسانية والأخلاقية.
يجب أن نعيد النّظر في تأثير الحداثة على البشرية. فنحن نعيش في زمن يمكن أن نسمم فيه أنفسنا، أو أن نسمم الأرض، وهذا نتيجة طبيعية لأخطائنا التي نرتكبها. ذلك أنّ التّطور البشري لا يستمدّ جوهره ونُبله من كونه قائمًا على الجهد والابتكار البشري، وعلى المادّة الملموسة التي يمكن مبادلتها استجابةً للحاجات الضرورية.
قدرتُنا على الابتكار بهذا الشكل السلبي، تساعد حتمًا في تسريع عمليّة التدمير الذاتي. في المقابل، لا تستطيع العولمة الوقوف في وجه جائحة مرعبة تصيب البشرية جمعاء كهذا الفيروس الذي لا يحتاج إلى تأشيرة، ولا إلى جواز سفر، لينتقل في كل أقطاب الأرض ويفتك ببني الإنسان.  وهذا، كما قلت سابقًا، رغم تقدم التنمية وتطوّر حضارتنا المزعومة.

 

(*) في هذه الظروف القاسية التي يمر بها العالم بأسره الآن؛ تشيع أفكار شتى من ضمنها فكرة النقمة الإلهية على البشر... هل فيروس كورونا، في رأيك، هو لعنة الأرض على البشر الذين أساءوا التعامل معها؟
دعيني أقُلْ لك إن هذا الفيروس هو لعنة وفرصة في الوقت نفسه. أصبحنا ندرك الآن أكثر من أي وقت مضى الدمار الذي ألحقناه بالأرض. والفرصة هنا هي أن هذه الأزمة التي طالت كوكب الأرض، وسكانه كافة، ستدفع بنا للتفكير في تغيير ترتيب العالم.
هنالك تصرفان أمام أزمة كهذه: إما أن نندب حظّنا ونتحسّر على غضب إلهي حلَّ علينا، ولا حول لنا ولا قوة في ما جرى، وإما التصرف الثاني، الأذكى في نظري، وهو أن نطرح أسئلة في محلها، ونقول ماذا فعلنا نحن حتى وقعنا في تلك الأزمة، وما علينا فعله لتدارك الأمر، وعدم الوقوع في ذلك في المستقبل.
أظنّ أننا ندفع ثمن عدم وعينا وتصرفاتنا المتهورة وغير الذكية، بل تغابِيْنا التام عن قيمة الطبيعة.... وفي هذا المجال أحيلك إلى كتاب ألفه عالم الحفريات الأميركي، هنري فيرفيلد أوسبرن، ونشره عام 1947 تحت عنوان "الكوكب المنهوب" [La Planète au pillage]. كل ما حذر منه هذا العالم في خمسينيات القرن الماضي نعيشه اليوم. إذ يشرح في هذا الكتاب كيف يصبح الإنسان مدمرًا لأملاك الطبيعة، التي هو في أمس الحاجة إليها. كما وضح أنّ البشرية هي أسوأ الكوارث البيئية والمخربة للكوكب التي تعيش عليه.
والسؤال الذي يجب أن نطرحه جميعنا، إذًا، هو: على أي حال سنترك الأرض لأولادنا، وماذا فعلنا لكي لا نظل ندور في الحلقة المفرغة التي تهدد الأرض والبشرية في الوقت ذاته؟
أنا فلاح مزارع، لي صلة وثيقة مع الأرض، وأتأمل المعجزات كل يوم. على سبيل المثال، إذا أخذنا بذرة طماطم نغرسها فينبت منها حبات عديدة من الطماطم، ومن بذور قليلة نقطف كميات هائلة من الطماطم طازجة ولذيذة المأكل. لا نحتاج إلى شهادات عليا لندرك من ذلك أن الذكاء الحقيقي يكمن في الحياة نفسها، وقمة الذكاء هي أن نخلق السبل للحفاظ عليها، ونشرها على

وجه الأرض.
لقد ساعدت قدرتُنا على الابتكار، في تسريع التدمير الذاتي، لأننا من خلال تسميمِ الأرض، صرنا نُسمِّمُ أنفسنا، فكرةُ فَصْلِ الطبيعة عن الإنسان هي أصلُ الفوضى، إنّ الزعم بجعل البشرية تتطوّر، في الواقع، هو الذي جعلها تتقهقر وتتدهور إلى ما هي عليه حاليًا.
لهذا وصلنا إلى عصر كثرت فيه الكفاءات العلمية، لا لشيء إلا لفعل الشر، وتدمير الحياة نفسها، فحين يتحقّق الذكاء لا يسودُ الشر. الذكاء يعني أن الكفاءات الحالية لا تضمن لنا الذكاء الحيّ الذي يحافظ على نبض الحياة في الأرض.
يُلازمُني هنا سؤال آخر، انطلاقًا من خبرتي العملية مع الأرض في مجال الزراعة صديقة البيئة، أو العضوية، تحت مفهوم "واحة في كل مكان"؛ هذا الإنسان الذي سُخِّرت له الأرض والدواب، كيف له أن يتوصل إلى طريق السعادة وهو لا يزال يستهلك موارد أكثر ممّا ينتج، ولا يزال يدمّر التنوع البيولوجي البيئي، كما كنّا نفعل دائمًا؟
فبدلًا من أن نرى كوكب الأرض الرائع الخلاب كواحة غير عادية، ومصدرًا للحياة، فإنّنا نراه فقط كمنجمٍ للموارد القابلة للاستغلال، حتى آخر شجرة، وآخر نفس في الهواء.
ثمّة أمرٌ آخر يجب أن ننتبه إليه، هو عبارة عن مفارقة يجب ألّا تمر علينا مرور الكرام: كوكب الأرض كان المستفيد الأول من أزمة كورونا، بحسب خبراء البيئة، حيث أن الحجر الصحي، وتعليق المصانع والشركات، وتراجع حركة السيارات في مختلف دول العالم التي أصابها الوباء، خفف إلى حد كبير من معدل تلوث الفضاء بثاني أكسيد الكربون الذي يسبب أذىً بالغًا لطبقة الأوزون، حيث يعد ثقب الأوزون من أكثر عوامل تهديد كوكب الأرض، وتكدير صفوه، هو وسكانه.
هذا يعني أن الإنسان هو المسبب الأول لِهلاك كوكبه، وهذا ما يجعلني متيقنًا كل اليقين أن في حال لم يتغير النموذج الذي نسير عليه، فإننا سنقود الطبيعة إلى الهلاك الحتمي، مع كل الأوبئة والكوارث التي ستذهب بالإنسان معها؛ لا يمكن لهذا العدوان المتواصل ضد الطبيعة أن يستمر في تلويث الفضاء، وإنتاج الكيمياويات المسممة المدمرة للإرث الإنساني.
هذا النوع من الأحداث الجسام يجب أن يقودنا إلى التفكير، وبالتالي، إلى التصرف بشكل مغاير تمامًا لو كنا أذكياء. إذن، علينا أن نعتبر هذا الحدث المأساوي بمثابة ناقوس الخطَر، وإلا فّإننا، عندما يمضي الفيروس، سنمضي نحن كذلك في أخطاء الماضي، وفي عاداتنا القديمة.
يبدو الآن، أكثر من أي وقت مضى، أنّ من المستحيل بناء المستقبل بالمعايير الموجودة اليوم. وكل ما أتمناه هو أن تصحو الضمائر أمام هذا الحدث الخارق للعادة، والواسع السلطة، الذي استعصى علينا تجاوزه. يجب أن نتساءل جميعنا لماذا وقعنا في هذا الوباء، وما الدرس الذي علينا أن نستخلصه؟
ومن هنا، نبحث في الإجراءات التي يجب أن نتخذها حتى لا نقع مرة أخرى في أزمة مماثلة، ولنساهم في تغيير ترتيب العالم.، فالأرض خلقت لجميع البشر، والإنسان عاثَ فيها فسادًا، ناسيًا أنه عنصر ضئيل في وطن كبير اسمه الأرض، ويحاول درء الأخطار داخل الحدود التي رسمها، ونسي أن مسكن الإنسان هو الأرض نفسها، وسقفها هو سماؤها، وهذا الفيروس ينتشر ويهدد الجميع من دون تمييز، وينتشر حيثما شاء متجاهلًا الحدود والجنسيات.

 

(*) تتردد في كل تدخلاتك، وكتاباتك، فكرة أن من المستحيل بناء المستقبل بالمعايير الموجودة اليوم. ماذا تقترح لتحضير لعالم جديد برأيكم؟
سأجيب على هذا السؤال بسؤالين مفادهما: أي كوكب سنترك لأطفالنا؟ وأي أطفال سنترك لكوكبنا؟
ومن هنا أقترح أن نبدأ بالطفل؛ يجب أن نربيه على عمل الخير، وعلى التكامل مع الآخرين؛ والعمل على تحسين برامج توعية تربوية تهذيبية بعيدًا عن منافسة إحراز النقاط التي من شأنها وضع التلميذ في وضعية المنافسة ‫السلبية؛ ‪أن نؤسس النظم التربوية على التعاون والتضامن والمحافظة على البيئة منذ نعومة أظافرهم لتربية العقل الجمعي التعاوني والذكي.
علينا أن نفكر أيضًا من أين تستلهم هذه المجتمعات المتقدمة، التي تبيّن إفلاس نظمها التربوية. كل المجتمعات لديها نظم تربوية كذلك، لكن هل هي مبنية على المبادئ التي ذكرناها سابقًا؟
أصبح من الضروري إعادة التفكير في الطريقة التي نريد أن نعلِّم بها، وماذا عسانا أن نعلِّم أولادنا حتى نغير النظم التي وصلت بنا إلى هذه النتائج المهلكة للإنسانية. العودة إلى عمل الخير أولًا على المستوى الشخصي، والعودة إلى مكارم الأخلاق المعهودة في كل الكتب السماوية المبنية على الخير وحب الآخر. على كل واحد أن يصلح أمام بيته في هذه الأرض الأم.

بيير رابحي عند مدخل الحديقة الفرنسية التي سمّيت باسمه وحيث أجرى تجارب زراعية 

أدعو هنا إلى التفكير كيف نطهر الحضارة الإنسانية من التوحُّش الاستهلاكي الكامن فيها، ونعمل على الحفاظ على التنوع الثقافي، وعلى التنوع البيولوجي في البيئة الطبيعية، لردع تأثير العولمة، وما يصاحبها من تغليب لثقافة النوع الواحد، والجهة الغالبة على الصعيد الاقتصادي

والإنتاجي. هذا النموذج الصناعي والإنتاجي الذي يقوم عليه العالم الحديث يذهب إلى تطبيق فكر "المزيد دائمًا" والسعي وراء الربح غير المحدود في كوكب محدود، والوصول إلى التنافسية والحرب الاقتصادية بين الأفراد، وهي تعتمد على احتراق الطاقة والنفط حتى ينفد الاحتياطي، حيث يتحدّد مقياس ازدهار الدولة في ترتيب الناتج المحلي الإجمالي، والناتج القومي الإجمالي، مع إعطاء المال السيطرة الكاملة على المصير الجماعي.
علينا إحداث القطيعة مع هذا النموذج. قد تبدو المهمة صعبة للغاية، ولا يمكن الوصول إليها إلا بتكريس معاني البذل والعطاء، ومساعدة الآخرين، والعمل التطوُّعي، وتنظيف المسار الحضاري من مفاهيم القهر والنهب والإذلال والأنانية، وبناء المجد الوهمي على شقاء الآخرين وتعاستهم.
وكذلك علينا أن نضع المرأة في قلب التغيير، لأن النساء هُنَّ أكثر من يعمل على حماية الحياة من التدمير، ويجب أن نشيد بالنساء كحارسات للحياة، وهن اللواتي يربين أجيال المستقبل.

 

(*) تنادي إلى صحوة الفرد لتغيير الأشياء، ألا نحتاج أيضًا إلى تجديد حركات سياسية لتجسيد برامج عالمية تحمي الأرض والإنسان على حد السواء، وعلى نطاق واسع؟
بطبيعة الحال، للحفاظ على البشرية، وتقليل الخسائر، لا بد من التعاون والتفكير في برنامج عالمي لحماية الأرض. لكن لم يتوافر هذا حتى الآن. والدليل هو هذا الفيروس الذي اجتاح البشرية جمعاء من غير تأشيرة، ولا جواز سفر، متجاهلًا الحدود والاعتبارات الجيوسياسية.
أقول هذا انطلاقًا من قناعتي أن الفرد ذا العقل المستقل والسوي هو اللبنة الأولى لبناء عقل جمعي لمجتمع ذي عقول مستنيرة. في إمكاننا جعل المستحيل ممكنًا طالما نحن موجودون على قيد الحياة، وندب على الأرض، والبداية تكون بتجسيد التغيير في أنفسنا قبل أن ننتقل لتجسيد التغيير الاجتماعي.
كيف لنا أن نستمر في الوثوق بنُظم اجتماعية متقدمة تخصص حياتها للموت أكثر من العيش، وهذا ما يتجلّى من خلال الميزانيات المخصصة للسلاح التي يصعب معها القول إننا كائنات ذكية؟
أود أن أشير أيضًا إلى العلاقة التشاركية التي توجد بين الأرض والفرد، وهذا ما تبين جليًا من أزمة كورونا المرعبة. ولهذا أدعو إلى التحرك العاجل لوقف استنزاف موارد الأرض، والتنديد بمبدأ ترسيخ الاستهلاك، والأخذ من الطبيعة، واستنزاف قدراتها، بدل تعليم الأجيال طرق بناء علاقة تبادلية وتعاونية بين الانسان والطبيعة.
القطاعات الإنتاجيّة تنتصر بجوهرها لرأس المال على حساب العدالة الاجتماعيّة. هذا النموذج الذي يرسخ الاستهلاك يفرز إنسانية غير سعيدة، ويؤدي إلى المجاعة، والأمراض، والتصحر، والعنف، وانعدام الأمن.
وكما أن العالَم يتوحَّد لمواجهة فيروس مجهري مفترس يجعل مصيره على المِحَك، يجب عليه

أيضًا أن يتوحَّد لمنع تحوّل الحضارة إلى فيروس خفي يتربص بالبشر، ويدمِّر حاضرهم، ويقضي على مستقبلهم. وكما أن غسل الأيدي مهم لمنع وصول الفيروس إلى الجسد وانتشاره، كذلك غسل القلوب مهم لمنع وصول الأمراض إلى الرُّوح.
وقد ذكرت هذا في إحدى المحاضرات التي ألقيتها مؤخرًا، حيث أقول "إن أزمة الإنسان المعاصر هي أزمة روحية في الأساس"، فالعاجز عن حماية رُوحه سيكون أكثرَ عجزًا عن حماية جسده.
لم يعد من صالحنا أن نتصرف وكأن شيئًا لم يحدث، ولم يعد يكفي أن نعترف بالاختلالات الاجتماعية التي ارتكبناها، بل لا بد من الوقوف مع أنفسنا من أجل تقييم أدائنا ومعالجته، وذلك من خلال تغييرنا للعادات السيئة حتى يتغير العالم. وبعبارة أخرى، كل مساهمة فردية هي جزء من الحل الشامل.

 

(*) سؤالي الأخير يعود بنا إلى قرية القنادسة الجزائرية التي ولدتَ فيها. بماذا توحي إليك هذه القرية التي فارقتها شابًا في مقتبل العمر؟ هل نشأتك فيها حددت مسارك الذي صنع منك فلاحًا وفيلسوفًا مشهورًا؟
يسرّني أنّني منحدر من منطقة مباركة واقعة على بوابة الصحراء الجزائرية، التي انجبت مشايخ وعلماء كبار. قرية القنادسة المعروفة بأحد أعلام الصوفية، محمد بن عبدالرحمن بن أبي زيان، المعروف بدوره في مساعي التصالح والتسامح والتعايش، فبفضل حكمته أسس زاوية في منطقة القنادسة لتوحيد أفراد مجتمع واحد، إثر صراعات قبلية كانت تشهدها تلك الفترة.
رغم رغبتي الشديدة في العودة يومًا إلى قريتي، إلا أنني أحس نفسي في وطني في أي بلد أذهب إليه. ربما هذا أيضًا ما يتميز به المتصوفة المعروفون بترحالهم في أصقاع الأرض، ولا يهمهم إلا الخوض في العلم والفكر والمعرفة. فأنا أينما أذهب أحس نفسي في وطني، تحت أي أرض أطأ تُرابَها وتحتضنني سماؤها. وفي كل مكان أذهب إليه ما يهمني هو حماية هذه الأرض التي جُعلتُ فيها خليفة مع أخوتي البشر. ألا يقول المتصوف أيضًا أن الأرض كلّها هي أرض الله؟
كان والدي شاعرًا وحدادًا ورجلًا فقيرًا، مارس مهنة الحدادة، ولكن لتأمين قوت عائلته، اضطر للعمل بمنجم كبير للفحم الحجري. في حين ترك معظم الفلاحين فلاحة الأراضي للالتحاق بهذه المناجم التي أنشئت بعد اكتشاف الفحم في هذه القرية في سنوات الخمسينيات، لتصديره إلى أوروبا، عبر سكة حديدية أنشئت لهذا الغرض. ويبدو أن الطفل الذي بقي داخلي لا يزال عاتبًا على أبيه، وعلى التقدم التكنولوجي الذي دخل قريتنا، والذي جعل أبي يترك الحياة التقليدية، وقرض الشعر، وراح، بدلًا من ذلك، يدخل كل مساء شعثًا مغبرًا ومُتَّسِخًا من عمله في المنجم. حصل ذلك تحت ذريعة التقدم، واستنزاف الأراضي، من دون مُراعاةِ خصوصية القروي القريب إلى أرضه، وعادات أسلافه.
أُحبّ أن أقول إنني شاعر الأرض، أتأملها وأعمل على ترويضها. ربما ما يقربني من قريتي هو تعلقي بالأرض، وبالبساطة، والبحث عن جوهر الحياة في البساطة، وتأمل المتصوف للمعجزات التي يزخر فيها كوكبنا. أصبحت فلاحًا مسنًّا الآن، وأتمنى أن يُحالفني الحظّ والصحة كي أعود يومًا إلى قريتي، وأن أُنفِذّ برامج زراعية في الجزائر، كما فعلت في تونس، والمغرب، وفلسطين، وبلدان أفريقية كثيرة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.