في أول دروسه معنا، نحن طلاب الدراسات المسرحية، طلب منا زياد عدوان أن نُسقِط الألقاب الأكاديمية بيننا: "لا تنادولي دكتور، أو أستاذ، أنا اسمي زياد". سندرك لاحقًا أن تلك لم تكن معلومة هامشية تتعلق بتقارب أعمار الطلبة وأستاذهم، بل هي آلية أكاديمية رحبة، ستؤسس لعلاقة علمية ستدوم طويلًا. لذلك وجدتني أكرر عبارة أستاذي أمام طلابي في الصف ذاته، والمادة ذاتها، بعد سنوات، في محاولة لبناء علاقة أكاديمية صحية في مكان أكاديمي حر، مثل المعهد العالي للفنون المسرحية.
رغم مرور عقد على تلك الدروس في المختبر المسرحي وفنون الأداء، إلا أن الأسئلة التي سادت في محاضرات عدوان بقيت حاضرة، أسئلة حول الأداء وأشكاله المختلفة، حول التلقي والجمهور، حول الهويات الثقافية المتعددة، أسئلة حضرت في الانفجار السوري، وما تبعه من شتات وتيه، وأثر ذلك في فن السوريين وأدبهم.
عن تلك الأسئلة، وعن تجربة زياد عدوان في العمل المسرحي (تدريس وبحث وإخراج)، كانت هذه المحاورة، محاورة ارتأينا فيها شكل الحوار المسرحي القائم منذ ألفين وخمسمئة سنة حتى يومنا هذا.
المسرح وخطيئة تجمُّع الغرباء
(*) أكاديميًا، وعمليًا، لطالما عملتَ على مفهوم الأداء، فنون الأداء الحية وتشعباتها، كيف تنظر إلى التحولات التي أصابت الأداء الحي اليوم في ظل الوباء وشبكته الوقائية، لاسيما أن القوانين الوبائية استهدفت مفهوم (التجمّع) الأساس الذي يقوم عليه فن المسرح؟
دفعني الوباء، وتوقّف العالم كله، إلى سؤال "ضرورة المسرح"، بمعنى هل المسرح ضروري أم لا؟ سابقًا، لم أكن مكترثًا لتلك المسألة. الزمن يمر، والمسرح يعمل، وله جمهوره وعالمه، تحديدًا في مكان مثل أوروبا، حيث للمسرح حضور كبير (وربما ذلك كان أحد أسباب عودتي للعيش هنا)، حتى أنه في بلد مثل ألمانيا، يفوق جمهور المسرح جمهور لعبة كرة القدم. في لندن كذلك الأمر، هنالك مئات المسرحيات التي تُعرض يوميًا. ولطالما سُئل المسرح خلال القرون الأخيرة هذا السؤال، مع صدور الرواية، سُئل المسرح عن وجوده. مع ظهور الكهرباء وتطورها أعيد سؤال المسرح. مع السينما، كذلك الأمر، لكن المسرح استمر. يطول الحديث في شبكة قوانين الوباء ومازال مستمرًا، لكن أشعر أننا نعيش اليوم أول تجربة بشرية يتفق عليها الجميع. يبدو ما نعيشه اليوم من تجربة معولمة، حيث تنطبق قوانين واحدة في العالم كله (الأقنعة كمثال)، وكأنه النفَس الأول من عصر العولمة Global Age. وأجد نفسي أحيانًا كثيرة متخوفًا وقلقًا حيال موضوع استقلالية العلم ونزاهته، متأملًا عدم ارتباطه مع القوى ذاتها التي تدأب على تضييق الحريات، طامعة نحو مزيد من التحكم والسيطرة. وحضور المسرح في هذه اللحظة من التاريخ، خلال الوباء (العالمي) يفرز العديد من الأسئلة عن الأساسيات التي يقوم عليها النشاط المسرحي.
(*) وبالطبع، تبقى هنالك أهمية للمسرح في الحياة الاجتماعية، أو ضرورة كما أسميتها.
دعنا نقلْ إن هنالك أهمية مختصة بالمسرح، فالمسرح هو مجموعة غرباء اجتمعوا ليكوِّنوا معنى ما، ويعرضوه لغرباء آخرين اجتمعوا ليشاهدوا هذا المعنى، هذه العلاقة انتفت مع غياب التجمّع، وتقيَّد العالم بالفرجة الفردية في البيوت. وأحد مساوئ هذه الفرجة أنها فعل فردي أناني، فرأيي سيبقى لي فعليًا، ولن أشاركه مع مشاهدين آخرين، ومهما حاولت البرامج الافتراضية تحقيق هذه المناقشة عبر منصاتها لا يمكنها نقل حالة النقاش اللاحق للعمل مسرحي بين جمهوره فور خروجهم منه. كذلك هنا غياب مزاج الصالة عن العروض المسرحية المبثوثة على الإنترنت، فرد فعل الجمهور المتنوع وأثره على العرض وعلاقته بما يُعرض غائب تمامًا في مثل هذه الحالة.
(*) بالإضافة إلى غياب الحضور الحي للممثل على المسرح.
يبدو المسرح من الأماكن القليلة التي يتلاقى فيها المنتج والمستهلك وجهًا لوجه، يبني المسرح في مساحة اللقاء هذه شبكة آداب عامة، بمعنى أن حضور المسرح يفرض مجموعة سلوكيات. ليس الممثل وحده المراقَب، المتلقي أيضًا حاضر ومكشوف. في العرض الحي، الجميع تحت الأضواء، والجميع في الظل، فكرة البقعة السوداء لدى الممثل (حينما ينظر إلى مكان الجمهور دون أن يراهم) ليست مرتبطة به وحده، بل المتلقي متورط في هذه العلاقة أيضًا، حينما يسعى لأن لا يُرى هو بدوره أيضًا. يعي متلقي المسرح أنه في المسرح، مهما تطور العرض وسعى إلى الإيهام، لا يمكن أن يلغي وعي المتلقي بأنه موجود في المسرح، دائمًا يعي المشاهد بوجوده في هذا المكان (المسرح)، وفي هذه التجربة الخاصة (مشاهدة العرض المسرحي).
(*) مع مجيء الصيف، بدأ تخفيف بعض القوانين، وبدأ الناس يخرجون إلى الفضاء العام. ألا يبشر ذلك بعودة حركة المسرح؟
قد يجيبنا المسرح على سؤال أساسي في حياتنا اليوم، وهو: ما هو الفضاء العام؟ هل هو الفضاء الفيزيائي؟ أم الفضاء الافتراضي الإلكتروني؟ على سبيل المثال، في إمكانك النظر إلى لعبة كرة القدم وملاحظة كم التحول الذي أصابها. كرة القدم اليوم هي أقرب لألعاب الفيديو، يأخذ فيها المدرب دور المتحكم باللاعبين، ويرسم أداءهم، ويحدد شكل الأداء الذي سيقدمونه. يمكن جعل المسرح معيارًا نقيس من خلاله الفضاء العام، وكم تغيره وتحوله، فإذا خطا المسرح هكذا خطوة، وانتقل من الفضاء العام الفيزيائي إلى الفضاء الإلكتروني لن يعود مسرحًا، سنجد له مسمى آخر (مسرح متلفز، أو مصور). تبدو فكرة الفضاء الافتراضي والمسرح الإلكتروني هي عتبة جديدة في تاريخ المسرح الطويل، لكن لا أظنها ستمس بنيته، فالمسرح منذ 2500 سنة إلى اليوم، ومع مرور عشرات العتبات المرتبطة بتغيير المجتمع، بقي كما هو، النص المسرحي من أسخيلوس إلى اليوم مكتوب بالطريقة نفسها، تتغير الإرشادات وتتطور، لكن الحوار والشخصيات مكتوبة وتكتب بالطريقة نفسها، ويُشاهد بالطريقة ذاتها. من جهة أخرى، أثناء الإغلاق الكبير، أصبح همُّ الجميع الحديث عن ميادين الفضاء العام الأخرى، المقاهي والحدائق ودور السينما وصالات الرياضة، بينما لم يتكلم أحد عن المسرح (وذلك يعيدنا إلى سؤال ضرورة المسرح).
في الحراك الإعلامي على السوشيال ميديا لم يتم التطرق إلى المسرح إلا من قبل العاملين فيه، كذلك يبدو لنا سؤال (الفرجة) كبيرًا في لعبة الفتح والإغلاق الوبائية. هل سيخرج الناس من الإغلاق وهم تواقون للفرجة الحية؟ لا أظن! الناس تتوجه بعد نهاية الإغلاق إلى الحدائق والمقاهي والأماكن المفتوحة. لم يذهبوا إلى السينما، أو المسرح، سئموا فعل الفرجة بعد أشهر من الإغلاق، أشهر قضتها البشرية أمام الشاشات (تتفرج).
الأكاديمية الفنية ولعبة المكرّس المقدّس
(*) عشتَ تجربة أكاديمية مزدوجة، درّست في المعهد العالي للفنون المسرحية لسنوات عدة، ودرّست في جامعات أوروبية، وبنيت علاقة مختلفة مع طلابك.
لم أقم بالتدريس في أوروبا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنني عملت في مركز أبحاث "تنمية المسرح"، وهو مركز أبحاث مرتبط بقسم المسرح في جامعة ميونيخ، نعمل في المركز على دراسة المسرح كمؤسسة (دور المسرح، معاهد التعليم، المهرجانات ... إلخ)، أما في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية فدرّست أربع سنوات لحين خروجي من سورية عام 2013.
(*) منذ تدريسنا في المعهد، كانت لديك ملاحظات على الآلية الأكاديمية فيه، كيف تنظر إلى وضع الفنون في سورية اليوم، وسريان العملية التعليمية هناك؟ وما هي ملاحظاتك وأسئلتك حول المعهد العالي للفنون المسرحية، المكان الأكاديمي الفني الحكومي الوحيد في سورية؟
يطول الحديث عن المعهد العالي للفنون المسرحية. بداية، يمكنني القول إنه كان "واحة" في المساحة الأكاديمية السورية. بمعنى أن المعهد كان يحوي فضاء حرية أوسع من باقي المؤسسات الأكاديمية. كان، إلى حد ما، خارج الطاعة البعثية العمياء، وبعيدًا عن استفحال الفساد الإداري الجامعي. بنى المعهد مناهج تعليمية متينة، وقدم خريجين وكفاءات على مستوى العالم العربي والعالم، في شقيه المسرحي والموسيقي. بالنسبة لي، هنالك مرحلتان لعلاقتي بالمعهد، المرحلة الأولى في التسعينيات، حيث كنت طالبًا، المرحلة الثانية بعد عودتي عام 2009، حينما عملت فيه مدرسًا. لاحظت أن هناك أمورًا ما ضربت المؤسسة، ولاحظت اختلافًا كبيرًا طرأ على المعهد، توسّع في أقسامه (سينوغرافيا، تقنيات، رقص). بقيت العلاقات المرنة بين الأساتذة والطلاب، لكن ضاقت تلك المساحات الرحبة التي كانت تجمع كل المعهد، كان هنالك خنوع من نوع ما لدى الطلاب، لا أعني أنه لا يوجد شغب وتمرد، لكن شعرت أن العلاقة الندية التي تجمع طلاب المعهد بأساتذته لم تعد كذلك، كما ضاقت فضاءات التجمع في المعهد، حتى كادت تتلاشى.
(*) هنالك علاقة أكاديمية مختلفة داخل المعهد، إذ تجمع طلابه وأساتذته علاقة مرنة ومريحة. هل تقصد أن هذا العلاقة تأثرت؟
توجد تقاليد أكاديمية خاصة بالمعهد، ومنها هذه العلاقة المختلفة بين الطالب والأستاذ، لكن داخل هذه العلاقة هنالك تكريس وتقديس. كان لبعض الأسماء كـ(ممدوح عدوان، سعد الله ونوس، ماري إلياس، فواز الساجر، حنان قصاب حسن) قدسية من نوع ما. تلك المسافة بين التلميذ وأستاذه المقدس اتسعت كثيرًا بعدما عدت للتدريس في المعهد، المقدس يزداد قداسة، والتلميذ مُرغم على التبجيل.
(*) ما الذي تقصده تمامًا بالمقدَّس؟
على امتداد إرثنا المسرحي، حضرت كاريزما الفرد كأساس في مسألة التكريس والتقديس تلك، منذ المؤسسين حتى اليوم. وفي نظرة إلى بدايات المسرح العربي، وبدء نشوء الدول القومية العربية، نجد أن المسرح ارتبط بأفراد ذوي كاريزما قوية آتين من طبقات برجوازية ميسورة في المجتمع، وعائدين من رحلة أوروبية اختبروا فيها الفن المسرحي. (وهنا تجدر الإشارة إلى التحول من مصر كمركز للثقافة المسرحية والأدائية حتى أربعينيات القرن العشرين، إلى أوروبا مع بداية الخمسينيات والستينيات) باختصار، تم التعامل مع الأسماء المقدسة والمكرسة على أنها مركز ثقافي، وليس مجرد فرد ثقافي فاعل.
(*) هل اقتصر ذلك على المسرح السوري والعربي؟
لا، هذا ليس مرتبطًا بالمسرح السوري وحسب، بل هو حاضر في الثقافة المسرحية العالمية، ولطالما لعبت الكاريزما الفردية لبعض المسرحيين دورًا كبيرًا في تأسيس المؤسسة المسرحية، بمعنى قيام مؤسسة مسرحية كاملة على كاريزما وحضور فرد، مثلًا "المدرسة الدولية للمسرح" لجاك لوكوك. لكن ما يثار حول هذا النوع من المؤسسات المسرحية هو أنها تغيب مع غياب الفرد.
(*) وهل كان المعهد العالي للفنون المسرحية من هذه المؤسسات التي قامت بكاريزما أفراد؟
بالطبع، ورغم عدم القدرة على تحديد معايير ثابتة اليوم بسبب حالة الحرب الطارئة عليه، لكن يمكن القول إن الكاريزما الفردية للمؤسسين/ المقدَّسين ساهمت في بناء هذا المعهد، وفي حضوره، وربما أكثر من أثّر في بنية المعهد وهزَّها هو غياب هذه المنظومة المؤسِّسِة، تلك الكاريزما الفردية، مع غياب الأفراد واحدًا تلو الآخر.
(*) ألم تؤثر الثورة على هذا المقدَّس وتدمره؟
لا أظن! هذه المقدسات لم يمسّها جيل الثورة، لكن أصيبت بعض الرموز التعليمية من جهة الاصطفافات السياسية مباشرة بعد بدء الاحتجاجات، ولعبَت الاصطفافات دورًا كبيرًا في تغيير نظرة الطلاب إلى مدرسيهم في المعهد. سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، فواز الساجر، بقيت أسماء مقدسة، لأن أصحابها رحلوا، لا رأي سياسيًا حاضرًا لها، لذلك يؤولونها كلٌ حسب رأيه، وتبقى في مكانتها العالية. بينما لعبت مواقف الأحياء في تغيير الصورة حسب الاصطفاف السياسي.
(*) كنتُ واحدًا من طلابك تلك الفترة، وكانت صورتك بالنسبة لنا كمخلص، وربما كنا قد بدأنا نحن طلابك نكرسك ونعيد لعب لعبة التقديس. (في المقدمة ذكرتُ أثرَك، أليس ذلك من المقدس؟).
واحد من المخاوف التي كانت عندي أثناء التدريس هي أن أصبح من المقدسين. بالفعل، كانت هنالك صيغة لتعاملكم معي كطلاب خشيت أن تتطور لاحقًا إلى قداسة، لذلك دائمًا ما سعيت إلى عدم الانجراف نحوها، وحاولت أن لا أدخل في هذه الهرمية، وفي لعبة التكريس تلك. أثناء دراستي في إنكلترا، لاحظت أننا ننادي الأساتذة بأسمائهم، وليس بألقابهم، وذلك ما طبقته معكم أنتم طلابي، كذلك ساهم تقارب العمر في بناء هذه العلاقة المختلفة مع الطلاب (كنا نلعب كرة القدم معًا) كذلك سعيت دائمًا أثناء تدريسي إلى بناء علاقة عملية فعليًا، وليس علاقة سلوكية، وهذا كان يتم أحيانًا مع بعض أساتذتنا في المعهد، وحينها يشعر التلميذ أنه مسموع أكثر، فلست أنا الدكتور الذي يسمع الطالب، بل زياد يسمع علاء، لذلك عندما أجيب أجيب بطريقة علمية، يتبادل فيها الطرفان النقاش، لا طريقة سلوكية تصويبيّة، يُملي فيها المعلم على تلميذه وينصحه. وربما بسبب ذلك استمرت علاقتي مع طلابي إلى اليوم، رغم الانقطاع الفجائي جراء خروجي من سورية.
"تنوين" العمل الفني وإشكاليات مؤسساته
(*) أسست مع الفنانة الأدائية "مي سعيفان" تجمّع "تنوين" عام 2009 في دمشق، وأعيد إطلاق "تنوين" في ألمانيا عام 2013، قدمتم أعمالًا مختلفة منذ ذلك الحين إلى اليوم، اختبرتم العمل المؤسساتي وتعقيداته في سورية، قلتم عن تلك المرحلة: "كنا نختبر عدم الاستقرار والشك في سورية، والفرق الضخم بين صورة البلد المصنعة الساعية للتطور، وبين القمع السياسي والاجتماعي اليومي". كذلك اختبرتم العمل الإداري الفني في أوروبا وبيروقراطيته وتحولاته، وكتبتم عن ذلك: "كنا طلابًا وفنانين في بداية الألفية الثالثة في أوروبا، ولكن في العقد الثاني من هذه الألفية أصبحنا لاجئين"، بماذا أثّرت كل تلك التجربة بماهية "تنوين" وبنيته ومشاريعه اليوم؟
حينما بدأت تنوين في 2009، كان سقف الطموح عاليًا، والهدف هو تنظيم مهرجانات مسرحية وأدائية، كتنظيم مهرجان الرقص المعاصر في سورية، كذلك السعي إلى إنتاج عروض ودعمها، لكن مع بدايات الاحتجاجات توقفت فرقة "تنوين". لاحقًا في (2013) قررنا إحياء الفكرة، لكن وجدنا أنفسنا بمكان مختلف. أنت هنا في ألمانيا، نظام عمل مختلف، ودورة اقتصاد مغايرة، لذلك اقتصر "تنوين" على إنتاج العروض، ولم تعد هنالك إمكانية لتنظيم مهرجانات، مع ما يستلزم ذلك الفعل الثقافي الكبير من تحضيرات وتجهيزات.
(*) عملتم في "تنوين" على مشروع ضخم تم فيه الاشتغال على تدوين منامات بعض السوريين وأرشفتها وتحويلها إلى عروض مسرحية. منذ متى بدأتم بتدوين الأحلام، وما هي نتائجه المسرحية؟
عملت مي سعيفان منذ 2011على جمع وتدوين أحلام السوريين، وفي عام 2013 قررنا أن يكون أرشيف المنامات مادة لمشاريعنا المسرحية والفنية، ودائمًا ما وجدنا أنفسنا أمام كم هائل من أحلام السوريين ومناماتهم التي شكلت مادة غنية جدًا تكاد لا تنتهي، وتولد أفكارًا فنية لا تنضب. استثمرنا في أرشيف الأحلام هذا، وأنتجنا في تنوين مجموعة أعمال هي: "التخريب للمبتدئين Destruction for Beginners" ثلاثية مسرح حركي صُممت من قبل مي سعيفان (ميونيخ 2013، 2014، 2015)، وقدمنا تجهيزًا فنيًا بعنوان "قيلولة Siesta" (2017)، وفيلمين قصيرين (شرنقة Cocoon)، و(الحالمون بالأخبار News Dreamers)". وعملت مي سعيفان بشكل خاص على العديد من الورشات حول موضوع الأحلام والصدمة وربطها مع مناهج علمية تتعلق بالأحلام.
(*) انتقل عمل تنوين من ميونيخ إلى برلين، مكان إقامتكم اليوم، هل ولّد ذلك مشاكل مؤسساتية؟
وجدنا مساحات جديدة للتشبيك مع فعاليات أخرى في برلين، لكن المشكلة الأساسية ليست هنا، بل هي في اتفاق كامل صناديق الدعم المسرحية والحكومية على موضوعة واحدة ودعمها، وتلك مشكلة تواجهنا كلنا كمسرحيين، لا يوجد تنوع في المعايير بين ممول وآخر، وليس مفهومًا هذا التكرار، ووجود فكرة واحدة (موضة) في سوق الإنتاج المسرحي. إن لم يتوافق مشروعك مع الفكرة/ الموضة، ستصبح فرص تمويله صعبة، وخاصة مع الاهتمام الآن بسياسات الهوية، تجد الاهتمام وكأنه أمر ملزم لجميع الجهات الإنتاجية. يخطر لي، ماذا لو قام مسرحي بتقديم عرض عن الهوية الجنسية في 2012؟ هل عليه الانتظار إلى أيامنا هذه كي يقوم بعمله المسرحي، لأن الاهتمام حينها كان بموضوعة اللاجئين، أما الآن فقد حان وقت الهويات الجنسية؟ رغم ذلك، ليس أمامنا في "تنوين" إلا أن نطمح إلى تنظيم المهرجانات مرة أخرى، وأن نمتلك مكاننا الخاص، وفرقتنا الخاصة، بالرغم من كل التعقيدات الإدارية والمالية التي تواجهها الفنون عامة اليوم.
الخطأ على المسرح وخصوصيته
...Pleas repeat after me
(*) الخطأ في المسرح ليس كغيره، هوامش الخطأ فيه مختلفة عن باقي فنون الفرجة، وذلك كان موضوع رسالتك للدكتوراة في لندن. ما هو الخطأ على المسرح، وأين تكمن خصوصيته؟
إحدى تحديات العمل المسرحي أن الممثل سيقدم ساعة، أو ساعة ونصف، من دون أي خطأ، وهنا نعود إلى فكرة الأداء الحي وخصوصيته. في التلفزيون والسينما يمكنك إعادة اللقطة، وتصحيح الخطأ، بينما في المسرح ذلك غير متاح. من الأماكن التي يمكن من خلالها فهم الخطأ على المسرح هو عروض السيرك والأكروبات، حيث حدوث الخطأ يعني انهيار العرض (المشي على الحبل مثالًا). سلّم الخطأ يختلف من عرض مسرحي لآخر، ومن نوع لآخر، لكن دومًا حينما يحدث خطأ في المسرحية، يتم خلق لحظة خاصة مرتبطة بين الممثلين وبين الحضور، الخطأ حصل في اليوم المحدد، ومع الجمهور الحاضر في هذا اليوم بالذات، لذلك تبقى لحظة الخطأ لحظة حاضرة وشخصية في ذهن المؤدين والمتلقين على حد سواء. مقاربتي للخطأ هو "انزياح العملية المسرحية، أو الفرجة، من المساحة اللعبية إلى واقع الحياة اليومية". وهذا التعريف هو الذي تبنيته في بحث الدكتوراة، علمًا أن مفهوم الخطأ في المسرح لا ينطوي تحت المعايير الإيجابية والسلبية لمفهوم الخطأ بشكل عام. بالطبع، هنالك كثير من الحوادث الطريفة عندما يحصل هذا الانزياح، ولكن يصبح الموضوع أكثر إشكالية عندما ينتقل الحديث عن الخطأ في المسرح من الأفعال الصغيرة المضحكة، أو المحرجة، إلى مستويات التلقي التي تستقبل الفضاء المتخيل على المسرح على أنه الواقع (كأن يعتقد متفرج ما أن الممثل الذي يلعب دور عطيل قد قتل حقيقة الممثلة التي تلعب ديزدمونة).
(*) هل تطالب بأن يكون في كل عرض مسرحي خطأ ما؟
لا، أبدًا، على العكس. العرض الأجمل هو العرض من دون أخطاء، لكن الخطأ من جنس العمل المسرحي، وتحدي هذه الأخطاء من قبل العاملين فيه، على اختلاف مجالاتهم، هو تحدٍ لذيذ، في عروض الأونلاين لا توجد لذة تحدي الأخطاء، كما في العرض الحي، حينما يتحدى الممثل نفسه على تقديم أداء من دون أخطاء. انهار التحدي، وأصبح التمثيل المسرحي يقارب الأداء أمام الكاميرا، حيث لا وجود لخطأ، وبعبارة أدق، هامش الخطأ ضيق جدًا.
(*) في عرضك الأخير "Pleas repeat after me" (ميونيخ 2018، برلين 2019)، أخذ الخطأ دورًا كبيرًا في بناء المسرحية. بعبارة أخرى، المسرحية مبنية على خطأ، ما إن يحصل هذا الخطأ حتى تنقلب المسرحية رأسًا على عاقب، نحن نشاهد بداية عرضًا عن اللاجئين، عرضًا مُنمطًا، ويقدم هويات منمطة، ويحاول تحصيل اعتراف ثقافي وإنساني من المتلقي، فجأة يحدث خطأ تقني، تتحول المسرحية من عرض اللاجئين إلى عرض مفتوح على المتلقي، كيف بنيت هذا الالتباس، ولعبت على مفهوم الخطأ؟
ركّزنا كثيرًا في العرض على الالتباس، وعلى الخطأ كمفتاح لهذا الالتباس. هل هوية الشخصيات المقدَّمة هي كذلك بالفعل؟ هل الممثل هو لاجئ بالضرورة؟ تورط الجمهور في البداية بالتعامل مع الممثلين على أنهم لاجئين، وهذه قصصهم الحقيقية، دخلوا إلى لعبة ممثل/ لاجئ، احتفلوا بعيد ميلاد إحدى الشخصيات، وتفاعلوا بدايةً على هذا الأساس. لكن بعد الخطأ تبدأ المسرحية بالتحول، ويبدأ العرض بالكشف عن نفسه. حينما يحدث خطأ على المسرح أول ما نسأله لأنفسنا، كمتلقين، هل هو خطأ حقيقي، أم خطأ مقصود؟ أم أنه ليس بخطأ؟ هذا اللغط والالتباس كان مدخلي إلى قلب العرض، وتكوين علاقة مختلفة مع المتلقي.
(*) كان العرض مدهشًا لبعض المتفرجين، يورط المتلقي في مسرحية فيها كل الكليشهات عن اللاجئين، يضخمها جدًا، ومن ثم يخرّبها، ويقلب مفاهيمها. الشخصيات المؤطرة تخرج فجأة من إطارها وتتوجه إلى الجمهور، وتدمر كل الاستعطاف الذي بنته في بداية العرض. كانت هنالك مستويات مختلفة من الأداء، وربما هي جديدة أيضًا، أو هكذا رأيتها.
قيل لي ذلك في العرض الأول في ميونيخ، وكانت إجابتي على عنصر الدهشة والجدة أننا لم نقدم في عرض "Pleas repeat after me" أي عنصر جديد على المسرح، كل ما قدمناه من تحطيم العلاقة مع المتلقي واللعب معه موجود سابقًا، غناء الجمهور وإطعامه وتحريكه كلها عناصر موجودة قبلًا في المسرح وفي أنواعه المختلفة.
(*) لكن، أيضًا، كانت هنالك علاقة مختلفة مع الجمهور؟
يقول شيشنر عن جمهور المسرح: "لا يوجد جمهور مسرح، هنالك فقط متفرجون"، وكل العروض التي تسعى إلى تهديم العلاقة الكلاسيكية مع المتفرجين تستند على هذه المقولة بشكل أو بآخر، وتُعامِل المتلقين كمتفرجين متمايزين، لا كجمهور واحد بلون واحد. وذلك ما أدركناه في مسرحية "Pleas repeat after me". الجمهور ليس كتلة واحدة، بل هم أفراد مختلفون، نعم هنالك أُسس تجعل منهم كتلة واحدة، وشيفرات وكودات، نلعب عليها في العمل، لكنهم في النهاية أفراد متنوعون، وهذا ينعكس على شكل التلقي، واختلاف التفاعل بين متلقٍ وآخر. في عرضنا، نبدأ بخطاب ضحية واضحة، بالإضافة إلى حضور الفلكلور عبر الحكواتي والموسيقى والأغاني. يُستدرَج المتلقي لعلاقات قوة ثقافية اعتيادية في مثل هذه العروض، مجموعة أجنبية تطلب الاعتراف الثقافي من المتلقي الأوروبي، مع الخطأ في العرض تنقلب العلاقة مع المتفرج، يختل ميزان القوة الذي كان بين أجنبي وأوروبي، ليجرَّد ويصبح بين متفرج وممثل، لا بل تصبح القوة الأكبر عند الممثل الذي سيبادر إلى إتمام العرض ويرتجل، بينما المتفرج عاد ليكون متفرجًا عاديًا، وليس متفرجًا أوروبيًا متفوقًا، فهو الآن أمام لعبة تمثيل مكشوفة، وتفضح حالها باستمرار، وذلك انعكس على الجمهور، وردود فعله المتنوعة، بين المشاركة، أو التواري والاكتفاء بالمشاهدة.
(*) أي أنكم أعدتم توازن العلاقة بين المؤدي والمتلقي.
هنالك ندية سعينا إليها في العرض، ندية مع المتلقي، وقلب لعلاقات القوة بين المتلقي الأوروبي والمنتج الأدبي السوري، لم نُشاهَد كمستضعفين، لم تكن العلاقة مع المتفرج من منطق الضحية، كما هي الحال في عروض اللاجئين في المسرح الألماني، وذلك ما يُشعر المتفرج الأوروبي أنه متفوق، لذا سعيت إلى كسره في العرض، والبناء على أنقاضه علاقة قوة مختلفة مع المتفرج، لا يكون هو القوي فيها والعرض (عرض اللاجئين) الضعيف، بل العكس، أي أصبحت نظرة المتلقي أفقية لا فوقية. في الدكتوراة، كنت عملت على ذلك أيضًا، لكن عبر عروض الفولكلور في أوروبا، كيف تُعرض؟ وماذا تريد؟ وكيف يتلقاها الجمهور؟ وجدت أن تلك العروض هي تجمعات أجنبية تحاول أن تحصل على اعتراف من المركز الأوروبي، تلك العروض الفلكلورية تقدَّم كما هي، وكما هي بنيتها ضمن ثقافتها ومجتمعها، لذلك حينما تقدم في أوروبا، تقدم من دون كودات بين المؤدي والمتلقي، ولا تسعى إلى ذلك، هي فقط تسعى إلى الاعتراف، مهما ولّد ذلك من أخطاء (على مستوى خلط اللعبي بالواقع) في الفهم والتلقي.
(*) اخترت اللغة الإنكليزية كلغة للمسرحية. هل لذلك علاقة أيضًا مع المتلقي؟
سؤال الكتابة بالإنكليزية سؤال كبير، ولا يقتصر على العلاقة مع المتلقي. لدي أجوبة مختلفة المستويات، واليوم أكتب بالإنكليزية أيضًا مسرحية سورية عن شخصيات سورية، وتجري أحداثها هناك، وعنوانها HOME WORK. أنا موجود الآن في مكان مَن يشاهد فيه المسرح يتكلم الإنكليزية، في برلين على سبيل المثال أغلب جمهور المسرح يتحدث الإنكليزية، لذلك تعطيك اللغة هنا فرصة للتواصل مع جمهور المدينة التي تعيش وتعمل فيها، بالإضافة إلى علاقتي مع اللغة الإنكليزية التي درست بها، وأعمل وأقرأ اليوم بها. وهي لغة مطواعة جدًا، في الكتابة والقراءة.
(*) هل لذلك علاقة بسؤال الكتابة بالعربية، وثنائية فصيح/ عامي؟
لم ينتهِ سؤال اللغة في المسرح العربي بعد، كلما هممت بكتابة مسرحية بالعربي أجد نفسي أمام سؤال اللغة، ما هي لغة الشخصيات؟ وما هي اللغة المحكية بينهم؟ حينما أكتب بالإنكليزية أتجاوز هذا السؤال. هنالك هوة ساحقة بين الفصحى والعامية لدينا، وربما زاد هذا الشق اتساعًا في السنوات العشر الأخيرة. خذ مثالًا ما حصل في التجربة السورية خلال العشر سنوات الماضية. كانت اللغة إحدى مآزقها، وإحدى مآزق صياغة خطاب سوري جمعي. الكلام بالفصحى جامد وخشبي، والكلام بالعامي مائع، ويسخّف الفكرة التي تقولها. أيضًا، هنالك التباس كبير في علاقة اللغة مع الجمهور، كيف يتلقى جمهور المسرح اللغة العربية بشقيها العامي والفصيح؟ هل هنالك لغة وسيطة؟ وهل وصلت الدراما إليها أم ليس بعد؟ لا أظن، ليس لدينا معجم لفظي للغة وسيطة، حتى في المسلسلات التلفزيونية لم نصل إلى لغة وسيطة، على العكس، عملت المسلسلات التلفزيونية على فصل العامي عن الفصيح، الفصحى تستخدم للتاريخي، والعامي يستخدم للمعاصر، الفصيح المستخدم فيها جاف وثقيل، والعامي عام جدًا ويهتم (وخاصة في الكوميديا ومسلسلات البيئة التقليدية) بالذهاب أبعد بتمييع اللغة، وكوننا شعوبًا تشاهد الدراما التلفزيونية، تأثرنا بها، وتأثرت لغتنا بهذا الفصل. عندما أكتبُ مسرحًا بالعربي أشعرُ أنني أُشغل الشخصيات بأسئلة ليست أسئلتها، سؤال لغتها هو سؤالي عن اللغة، وليس سؤالها.