}

القائد العربي سينمائيًا وتلفزيونيًا.. المثال والمحاكاة.. الجنرال المصري نموذجًا

استعادات القائد العربي سينمائيًا وتلفزيونيًا.. المثال والمحاكاة.. الجنرال المصري نموذجًا
أحمد زكي في فيلم "ناصر 56"

تكاد بعض القراءات السوسيولوجية الانفعالية أن تحصِر العسكر والعسكرتاريا في المنطقة العربية وحسب. وفي ذلك بعض حق، لما فعلته المؤسسات العسكرية في البلاد، مذ تصاعدها في الخمسينيات إلى يومنا هذا. إلا أن صورة الجنرال، بمعناها المعاصر للكلمة، ليست حكرًا على قومية من دون أخرى. في كل جيوش العالم، وعلى امتداد تاريخها الحديث، حضرت شخصيات الجنرالات والقادة العسكريين، القوميين والاشتراكيين وغيرهم، المنتصرين والمهزومين، بما هم بالأساس أبطال قوميون، حاربوا دفاعًا عن البلاد، القومية، الأمة، الملّة. وبالطبع، لعبت الفنون والآداب دور تجسيد هذه الشخصيات، وإعادة تقديمها، لا بوصفها فاعلة في سياقها التاريخي، بل بوصفها شخصيات درامية بسِمات بطولية. والأمثلة في حالتنا العربية تكاد لا تحصى بسبب كثرتها، ولا يمكن الإحاطة بها في نص واحد. لذلك يقف هذا المقال عند صورة الجنرال المصري المعاصر، وتطورها، في الواقع، وفي المحاكاة الفنية لها.


عبد الناصر.. الصورة الكلاسيكية للجنرال الحاكم

أحمد زكي في فيلم "ناصر 56"


منذ استقلال البلاد العربية إلى اليوم، هنالك مئات من الشخصيات العسكرية التي تصدرت المشهد السياسي العربي. منها مَن وصلَ إلى السلطة، ومنها من قضت عليه الصراعات السياسية، وأحالته إلى اسم في كتب التاريخ. ومنها من لم يذكر في تلك الكتب مطلقًا، وصار طي النسيان. على رأس تلك الشخصيات العسكرية، وأقدمها، شخصية الجنرال المصري جمال عبد الناصر، ومن حولها شخصيات الضباط الأحرار الذين اختلفت مصائرهم لاحقًا، وأفلَ نجمها أمام نجم الضابط القومي الأوحد، أو زعيم القومية العربية، كما كان يطلق عليه محبوه.




رسم عبد الناصر الملامح الكلاسيكية للجنرال العربي القائد. ببنية جسمانية فارعة، ووجه كبير، في منتصفه شارب خفيف، وابتسامة دائمة. ومع لغة عربية مطواعة، بنى عبد الناصر كاريزما القائد العربي القادم من العسكر. ولو خلع القائد زي الجنرال، بأوسمته، وارتدى زي الساسة الرسمي، تبقى ملامح العسكري المنضبط واضحة عليه، من تموضع جسده وحركته المدروسة. بمعنى آخر، أظهر عبدالناصر أن شخصية القائد العسكري ذاتها يمكنها أن تصبح شخصية قيادية، مدنيًا، من دون أن تؤثر على هالتها، وحضورها.
أعيد تجسيد شخصية عبد الناصر مرارًا في السينما المصرية، كلها كانت بعد وفاته عام 1970. وكان أبرزها فيلم "ناصر 56"، من إخراج محمد فاضل، وإنتاج عام 1996. لعب دور ناصر الممثل العربي الراحل، أحمد زكي. لم يمتلك زكي البنية الجسمانية لناصر. لم يكن له ذات الطول، وافتقد المنكبين العريضين اللذين يميزان شخصية جمال عبد الناصر. لكنه استلهم من كاريزما القائد، وحاول محاكاتها عبر تفاصيل صغيرة متعلقة بنظْم الكلام، ومقاربة التحولات الانفعالية للشخصية الحقيقية. أُعيد تجسيد ناصر بعد ذلك في أكثر من عمل سينمائي وتلفزيوني، ربما كان آخرها مسلسل "صديق العمر"، الذي تناول حياة المشير عبدالحكيم عامر، وعلاقته برفيق الدرب، جمال عبدالناصر، الذي أدى دوره في العمل الممثل السوري جمال سليمان.


السادات.. كيف يمكن تجسيد شخصية قطّ فرعوني؟

أحمد زكي في تقمصه شخصية الرئيس أنور السادات في فيلم "أيام السادات" 


ربما كانت شخصية الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، أحد أكثر الشخصيات العسكرية التي عاشت التحول إلى السياسي بالمعنى الواضح للكلمة. لا على صعيد الخطاب والقول، بل على صعيد شخصية الرجل ذاته، وكاريزميته، طريقة حديثه ومضغه للكلام، ودبلوماسيته التي تتحول، بلحظة، إلى عنف مفاجئ، وكأنه قط سيامي فرعوني، كثير الحركة والمراوغة.





إن التحولات التي عاشتها شخصيات السادات كثيرة ومختلفة، من فلاح آتٍ من قرية نائية، إلى معتقل عند الإنكليز، وبعد ذلك أصبح عسكريًا أساسيًا في ثورة الضباط الأحرار على الملَكية، نائب عبدالناصر، ومن بعده رئيسًا لمصر. بطل حرب أكتوبر العسكرية، ورجل الدبلوماسية المصرية الحديثة المدنية في كامب ديفيد. كان على الممثل ذاته الذي لعب دور ناصر؛ أحمد زكي، أن يحاكي شخصية السادات أيضًا، مع البون الشاسع بين الشخصيتين.
في فيلم "أيام السادات"، استفاد زكي من التشابه الشكلي مع أنور السادات. لون البشرة، وسحنة الوجه. الطول والنحالة، والصلع المفتعل. كلها عناصر مهدت لزكي ليؤدي دورًا قارب فيه السادات حتى اختلطت الصورة على الأجيال اللاحقة، التي شاهدت الرجلين على التلفاز؛ الحقيقي، والممثل. إلا أن أداة زكي الألمع في تمثيل الرئيس المُغتال هي طريقة الكلام، ونظم اللغة، تقطيع الكلمات، ونبرها. هو لم يُجِد الخطاب فقط، بل أجاد هيئته وبنيته. وأمسك بالشبكة الانفعالية للسادات، وتحكم بإيقاعها. بسبب كل ما سلف، كانت شخصية السادات السينمائية تلك إحدى أقرب الشخصيات التمثيلية تقاربًا مع الواقع، وأدقها، على المستوى الدرامي النفسي.


مبارك.. الناجي المخلوع
ستبقى تلك اللقطة المصورة عام 1981 لنائب الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، وهو يهرب هلعًا بعد إطلاق النار الموجهة للمنصة الرئاسية، أساسية في أي عمل سينمائي يصور حياة الرجل ومسيرته. مات السادات وقتها. نجا مبارك. وأصبح رئيس مصر لثلاثة عقود. تنفجر ثورة يناير 2011، يخلع الشعب مبارك، غيابيًا، من دون أن يظهر في لقاء أخير كرئيس.
رغم رحيل مبارك، بعد خلعه بسنوات، إلا أنه إلى الآن لم تقدم فنون الصورة المصرية أي تجسيد لشخصيته. وللدقة، لم يتم تقديم عمل يتناول سيرته على شاكلة سالفيه العسكريين، واقتصرت محاكاة سيرته على تلفزيون إذاعي لم يلقَ رواجًا.


السيسي.. حينما تتفوق المحاكاة على المثال

الممثل ياسر جلال في دور الرئيس عبد الفتاح السيسي في الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار"


ليس بجديد على أجهزة المخابرات المصرية تقديم ودعم أعمال فنية سياسية تنطق برؤى هذه الأجهزة، وتروي التاريخ كما دونته. الأمثلة السالفة خير دليل، فكلها أعمال مرت على أجهزة الاستخبارات المصرية قبل عرضها، كعرُف في كل البلاد ذات الحكم الشمولي. ولعل المثال الأبرز على هذا النوع من الأعمال في مصر هو مسلسل "رأفت الهجان"، الذي تناول شخصية الجاسوس المصري ومسيرة حياته الاستخباراتية، لا كما هي في الواقع، بل كما رواها جهاز المخابرات المصرية نفسه، وفي ذلك حديث يطول.



آخر بِدَع المخابرات المصرية كان سلسلة "الاختيار"، وهو مسلسل بُدئ بإنتاجه منذ سنوات قليلة. بوضوح، ومن دون مواربة، يروي الحكاية المصرية المعاصرة من وجهة نظر النظام المصري المنتصر. ساهمت أجزاؤه الأولى في إثارة ردود أفعال مختلفة في الشارع المصري، لكن من دون جدوى، لأن العمل مستمر منذ سنوات ثلاث، ويجتمع فيه جل نجوم التلفزيون والسينما المصريين.
لم يكن مفاجئًا كيف روى المسلسل تاريخ مصر بعد ثورة يناير، وكيف قدّم فترة حكم محمد مرسي، وكيف تعامل مع لحظات ملتبسة، مثل اعتصام رابعة، وغيره من الأحداث حينها، بيد أن المفاجئ فيه، في جزئه الثالث المعروض مؤخرًا، أنه جسد شخصية الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، والأخير ما زال على قيد الحياة، وعلى رأس عمله كرئيس للجمهورية. لا يتناول العمل سيرة حياة السيسي، بل يقف تحديدًا عند الأيام الأخيرة قبل انقلاب 2013، ويتابع حركة السيسي ودوره في ما حصل. وبالطبع، يظهر كبطل وحامي العرين المصري، وحامل صمام الأمان، الذي "لولاك يا سعادة الفريق، لراحت البلد"، كما يرددها الممثل جمال سليمان، الذي لعب دور مدير المخابرات المصرية العامة، اللواء عباس كامل، "كاتم أسرار الريس" بعد أن كان لعب سليمان سابقًا، وللمفارقة الساخرة، دور جمال عبد الناصر!




لعب الممثل ياسر جلال دور السيسي. في مرحلته العمرية تلك، قبل عشر سنوات تقريبًا. وجد جلال مفاتيح لتجسيد شخصية حيّة. أصاب نبر الكلام، وطريقة قول السيسي، وابتسامته الدائمة. لكن ماذا عن باقي التفاصيل التي تبني حاكم مصر اليوم؟ قبل قراءة أداء جلال، وجبت قراءة أداء السيسي نفسه، وكيف يبني صورته كقائد لأمة عريقة وبلد كبير. لا يوجد أداء بروتوكولي واضح للسيسي. يجلس وظهره لقومه، يلقي الدعابات دومًا، ويجادل مهندسي مصر ورجال أعمالها بمنطق التاجر لا القائد. زد على ذلك أنه ليست للسيسي شخصية كاريزمية مثل تلك التي كانت عند ناصر والسادات، أو حتى عند مبارك. رغم أنه آت من السياق العسكري نفسه، حيث الشدة والبأس، والشخصية القوية، كأساس للحكم.
الشخصية القيادية التي افتقدها السيسي، قدمها ياسر جلال في المحاكاة. لا يوجد أي نقاط شبه بين الرجلين. جلال فارع القامة، واسع الصدر، قوي البنية، بينما السيسي متوسط الطول، ومن دون ملامح جسدية تُظهر القوة العسكرية وراءها. البنية الجسمانية لجلال هي أقرب في الواقع إلى ناصر منها إلى السيسي. وذلك ربما كان العلة في اختيار جلال لهذا الدور. إذ أضاف المؤدي إلى الشخصية بدلًا من أن يستقي منها. ظهرت شخصية السيسي السينمائية على قدر من الحضور والكاريزما القيادية أكثر من السيسي نفسه! وكأن الغرض من العمل كله تدعيم الصورة القيادية لرئيس يحكم مصر قرابة عقد كامل، ولم يجد صورته بعد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.