}

عبد الله مكسور: أخطأني الموت مرارًا وأصاب آخرين

ربيع عيد ربيع عيد 21 مارس 2023
حوارات عبد الله مكسور: أخطأني الموت مرارًا وأصاب آخرين
عبد الله مكسور

يأخذنا الكاتب عبد الله مكسور في روايته "2003" (نوفل/ هاشيت أنطون – بيروت 2020) نحو تمعنٍ في تاريخ احتلال العراق بالعودة إلى قرن من الأحداث العاصفة في المنطقة العربيّة، تربطها شخصيّات الرواية، طبيب الأسنان الذي يُفاجأ بزيارة صدّام حسين لعيادته في الأيام الأولى لغزو بغداد حيث يشاهد سقوط تمثاله، والجد الذي عاش في ألمانيا إبّان انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة ولعب أدوارًا سياسيّة مختلفة في أوروبا لصالح أكثر من جهة. تختلف الأحداث بين الشخصيتين وتتشابه المسارات، حيث يحضر الموت والتعذيب والألم الشخصي المرتبط بالألم العام وأسئلة المستقبل وتطلّعاته الهاربة من لعنة حاضر الحروب.

عبد الله مكسور روائي وصحافي عربي، ولد في سورية 1983، صدرت له سبعة أعمال أدبيّة، عضو في نادي القلم الدولي ونادي القلم الفلاماني ببلجيكا، وعضو في نقابة الصحافيين البريطانيين، وهو مدرب دولي معتمد في السلامة المهنيّة الصحافيّة وتغطية أماكن النزاع والتوتر من الاتحاد الدولي للصحافيين وشبكة أريج. يعمل حاليًا في شبكة التلفزيون العربي في قطر.

عن عمله السابع في عالم الرواية، كان لنا هذا الحوار معه:

(*) اخترت عام 2003 عنوانًا لروايتك، وهو عام احتلال العراق الذي تنطلق منه أحداث الرواية المثقلة بتفاصيل هذا التاريخ المحفور بالمخيال الجمعي لكل عربي، عام غيّر وجه المنطقة وعامُ سقوط. كيف تقوم بخلخلة هذا التاريخ وتقديمه بمصائر جديدة؟

إن فهم التاريخ يمثل ركيزة أساسيّة لاستيعاب الحاضر، وفي مساحة ما تخيُّل المستقبل، وصناعة الحاضر استنادًا للتاريخ يقوم - في تقديري- على ربط جميع مساراته في خطٍّ واحد، كل أولئك الذين صنعوا لحظة تاريخيّة ما، تشاركوا الزمن والجغرافية، وتقاطعوا في ظروف خُلِقَت أو صنعوها معًا، لكنَّهم لم يتفاعلوا مع بعضهم كما تتفاعل العناصر الكيميائيّة في أنبوب اختبار، ارتكز الحاضر - في مخيالنا- على جانب واحد من التاريخ، هو ما نتج عنه دون الأخذ بأسبابه، ولم يبذل المتلقي جهدًا فيما بعد للفصل بين عوامل نشأته "الدينيّة – السلوكيّة- الاقتصاديّة- الاجتماعيّة"، لذلك تم استخدام التاريخ الذي وصلنا للهروب من الحاضر الذي نعيشه، طريقة لرفضه أو التمرد عليه دون تحقيق أي نتائج، لدينا هنا نموذج حقيقي قريب من التاريخ الأوروبي، يتمثل في سقوط جدار برلين مثلًا. لم تكن تلك الليلة التي سقط فيها الجدار حدًا فاصلًا بين عقليَّتين. وإنما تأسيسًا لما سيأتي بعد، ومن هنا، المخيال العربي الجمعي مهزوم استنادًا لانكسارات عميقة في تاريخه، المخيال العربي الجمعي في تكوينه ينساق للقوي، هذا ينطبق على التاريخ الرسمي والتاريخ الأسطوري المبني على الحكايات الشعبيّة. لذلك فإن هذين المسارين "الرسمي – الأسطوري" لم ينسجما أبدًا في سياق واحد منذ فجر التدوين العربي، لكل حدث هناك روايتان متناقضتان، ولكل رواية أسبابها ودلالاتها ونتائجها، لكن المخيال الجمعي يتبنى – عن وعي أو دون وعي – رواية القوي، لذلك تفكيك الروايتين عبر الأسئلة والاستطلاع والبحث لتأسيس رواية ثالثة – قد تكون غائبة- بهدف الوصول إلى بنية وظيفيّة جديدة للحدث التاريخي، تساعد في وقت ما على إعادة صياغة ما حدث وفقًا لكل النتائج، وصولًا للتأسيس لذهنيّة قادرة على بناء حاضر أكثر استقرارًا، ومن هنا كان التركيز على علاقة الأفراد العاديين الذين عاشوا حياةً تشبه حياتنا وعلاقتنا بالحدث العام، لا دور لهم في صناعة الحدث السياسي، يمارسون السياسة في يومهم لكنهم ممنوعون من صناعتها على المستوى العام. أنطلق في عملية التفكيك من الموقف الجمعي السلبي الذي يحكمه الشعور الآني اللحظي والمتراكم معًا من التاريخ الرسمي، من النظام السياسي والاجتماعي وما يتعلق بأدوار شاغلي المناصب السياسية.

المخيال العربي الجمعي مهزوم استنادًا لانكسارات عميقة في تاريخه، المخيال العربي الجمعي في تكوينه ينساق للقوي، هذا ينطبق على التاريخ الرسمي والتاريخ الأسطوري المبني على الحكايات الشعبيّة

(*) عملت في الرواية على ربط أحداث سياسيّة تاريخيّة تحصل في العراق وسورية وفلسطين وبفترات زمنيّة مختلفة لها امتدادات متشعبة تصل أوروبا، وسابقة لتقسيمة سايكس بيكو، من خلال الشخصيّات وكأن الشخصيّات تربط الأحداث التاريخيّة ببعضها وتجعل منها حدثًا واحدًا مستمرًا. ما هي مقولتك من خلال هذا الأسلوب؟

في التعاطي اليومي مع الأحداث والذاكرة، هناك حالات لامعيارية تجهّز الناس لقبول الواقع، يمكن أن نطلق عليها "بوالين اختبار"، وتقسيمة سايكس بيكو اليوم راسخة في منطقتنا الواحدة بحكم الواقع والجيوش والأجهزة الأمنيّة، لكنها ساقطة في الذهنية العربيّة، ولترسيخها من قبل السلطة تم الاشتغال – في تقديري- على ثلاثة اتجاهات قامت أولها على الثقافة المحليّة التقليديّة التي اتجهت إلى دائرة آمنة حكَمَتها الجغرافية واللهجة المحليّة، وثانيها ثقافة الرعيّة المحكومة المستفيدة من هذا التقسيم وتداعياته، وثالثها إعلاء الثقافة المواطنية الضيِّقة القائمة على التغني بالقيمة الفرديّة لخلق الأسطورة الشعبيّة التي يدعمها النظام السياسي، "أنا سوري، آه يا نيالي، الأردن أولًا، مصر أولًا"، ورافق هذا سقوط في منظومة القيَم وغياب تام وشامل للعدالة الاجتماعيّة.

لكن بعملية بحث شاملة وبالنظر من الأعلى للخرائط القائمة الآن نجد أن خلاص هذه الأمة يكمن في إزالة الخطوط الوهميّة، العودة إلى الصورة الأولى التي كان فيها جدي الأول يسافر لتجارة السجاد من إيران إلى فلسطين، دون أن يضطر لتعريف ضيِّق يسبق حضوره. فرحلة جدي - مثلاً- هي نقطة انطلاق في تاريخي الشخصي مع المكان والتاريخ، واستنادًا إليها بُنِيَت علاقتي مع الجغرافيا وما مُنِعتُ من الوصول إليه فيما بعد، جيلٌ يبني لجيل مساره الجغرافي، وما كان واسعًا فيما سبق صار يضيق مع الزمن، حتى باتت شواطئ أوروبا أقرب لبعض العرب من مضارب القبائل العربية الأخرى، أكثر قربًا من بوابات المدن العربيّة، وهذا قاتل وصادم لكل نقاط الارتكاز مع التاريخ الشخصي للإنسان العربي، لذا ما نحن فيه يتحمل أسبابه جزئيًا أجيالٌ سابقة رسّخت ما نحن فيه، وجاءت أجيالنا – الممنوعة من صناعة السياسة، المُصادَرَةُ آراؤُها إلا ضمن قوالب مسبقة الصنع لتكمِل مسيرةَ ما كان سابقًا، ومع ذلك فإن العربي يعيش في تاريخه أكثر من حاضره، ويشغلهُ الأمس أكثر من المستقبل، وفي هذا كلام كثير.

على المقلب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، هناك أمم مسؤولة عن كل حروب التاريخ، عن جبالٍ من الجماجم التي انتشرت من الصين إلى المكسيك مرورًا بأمتنا العربيّة، تحاول التطهُّر اليوم عبر مواثيق تحمل عناوين حقوق الإنسان ورعايته، ترفض التاريخ الدموي وتبحث عن حاضر أكثر استكانة وتعد بمستقبل أفضل للشعوب، ترى باحتضان ملايين اللاجئين الذين أدارت منطقتنا العربيّة الظهر لهم، بوابةً للتطهُّر من كل آثام الماضي، فإن كان التناظر في مفهومه الضيِّق بين جدي الذي عاش مطلع القرن الماضي وبيني اليوم قائمًا، فإن التناظر ذاته قائمٌ بين جدي ونظيره على الضفة الأخرى من المتوسط، وبيني وبين من هم في جيلي "المتطهِّرين" في الجانب الآخر، كلانا يرفع راية الرغبة في التخلي، جيلي الذي يريد التخلُّصَ من كل الأخطاء التي فعلها ولم يفعلها جيل جدي، والآخر الذي يسعى من خلالي للتخلص من كل الآثام التي اقترفها جده.

"في داخلي مقبرة من الجثث"، هذا لا ينطبق فقط على الطبيب "علي" (الشخصيّة المركزيّة في الرواية) وإنما على كل مَن يقيم على الأرض العربيّة من أقصاها إلى أقصاها

(*) جاء في الرواية "خرجت من العراق حاملًا في داخلي مقبرة جماعيّة من الجثث". يحضر الموت بكثافة في الرواية لكن تحضر أيضًا قصص وأصوات الموتى. من هؤلاء الموتى ولمن هذه الجثث؟

يحضر الموت كما تحضر الحياة، صنعتهما بالتوازي في متن النص والحكاية، "في داخلي مقبرة من الجثث"، هذا لا ينطبق فقط على الطبيب "علي" (الشخصيّة المركزيّة في الرواية) وإنما على كل مَن يقيم على الأرض العربيّة من أقصاها إلى أقصاها، فالحياة والموت سارَا في جسد البطل كما يسير على ساقين، أحيانًا يتكئ على الحياة وطورًا يتكئ على الموت القادم من كل الثغرات، يمكن لمس الموت المجاني في الجغرافيا التي دارت فيها الحكاية، بدءاً من بلاد البلقان وحتى بغداد مرورًا بالعريش وفلسطين التاريخيّة وأوروبا، موتٌ مجاني عبثي يصيب أبناء تلك الجغرافية كما هي الحياة مصادفة تمرُّ بين حدَثين، نحنُ مسكونون بالأموات، وصلت اليوم إلى أبواب الأربعين من العمر، أربعة عقود كاملة عشتها في دول مختلفة، عبَرتُ مطارات كثيرة بجوازات مزوَّرة، وأسماء وهمية، ومهن عديدة، لكنَّ نصف ذاكرتي صارت في السماء أو تحت التراب أو في شتات الأرض، أولئك الذين عشت بينهم، تقاسمت معهم الأبجديّة والسلوك واليوميّات، رحلوا إلى مكانٍ نأمل أن يكون أكثر أمنًا من الحياة التي تشبه كلَّ شيء عدا الحياة. الجثث في رواية 2003 قد لا تكون للأموات فقط، وإنما للأحياء الذين يعيشون بصورةٍ مؤقتة انتظاراً لموت مجاني قادم، يمكن لمس ذلك في كل الثنائيات القائمة بالحكاية، "الجلّاد والضحيّة، الديكتاتور والمحكوم، السجن والحريّة، الأمس والغد"، رائحة الموت تسيطر كما الرغبة في الحياة على ملامح الأبطال على امتداد العمل باختلاف الجغرافيا.

جثث نحيا لاهثين خلف فواتيرنا الشهريّة، جثث نحيا خلف ظلام المعتقلات الممتدة من جبال طوروس حتى المحيط الأطلسي، جثث نحيا في عتمة ليل بقلب قارب يعبر ضفتي بحر إيجة من بودروم التركيّة إلى كوس اليونانيّة، بعضنا يرحل ويترك مساحة الفقد في الجثة الأخرى التي تعيش حياةً تشبه كل شيءٍ عدا الحياة، لكن في كل ما سبق يمكن إيجاد مساحة إضافيّة للحياة الممزوجة بالأمل، فالحريّة وليس الحياة بعد ظلام المعتقلات، والنجاة وليس الفقد بعد رحلة عبور البحر، هكذا يمكن رؤية النقيضين معًا في حياةٍ تحمل رائحة الموت، وفي موت يحمل في تفاصيله شكل الحياة!.



(*) استحضار شخصيّة الرئيس العراقي السابق صدّام حسين في الرواية، كحدث مؤسس في تصاعد الحبكة ورحلة الشخصيّة المركزيّة في الراوية، قد يحمل دلالات مختلفة مع اختلاف وجهات النظر حول صدّام حسين في الواقع العراقي والعربي. إلى ماذا يرمز حضوره في الرواية؟

حين أنهيت المسودة الأولى من العمل بعد أربع سنوات ونصف السنة تقريبًا من البحث والكتابة المتواصلة، راودني السؤال ذاته، صدام حسين شخصية كونكريتية، هناك من تطرّف في حبه، وهناك من تطرَّف في كرهه، حاولت استبداله في المشهد أكثر من مرة، لكن الحكاية كانت بحاجة إليه، إلى هذا التناقض في الموقف منه، كنت أريد للقائد أن يرى سقوط تمثاله، نهاية حقبة تاريخيّة كاملة، وفي ذات الوقت تحوُّل حياة الآخرين، انقلابها بشكل كلي من مساحةٍ إلى أخرى، لذلك حين تمَّت عملية استحضاره كنت أسير على حبل مشدود فوق ضفَّتين، الأولى متيَّمة والأخرى حاقدة، ومن هنا برز جانبان في شخصية صدام حسين خلال ظهوره، الأول كان قاسيًا موتورًا يعيش جنون العظمة ونكران الواقع الماثل في ساحة الفردوس على بعد أمتار من مكان عيادة الطبيب في شارع السعدون ببغداد، والثاني العاطفي الذي حاول أن يبرر كل الأخطاء التي ارتكبها تحت شعار حماية الآخرين، نادمًا في ذات الوقت على كل الأخطاء التي لم يقترفها بعد!، مُصرًّا على أن التاريخ لن يقول بعد 200 عام إن الأشياء التي فعلها كانت أخطاء.

حضور صدام حسين في الرواية كان مفصليًا في الحدث الشخصي للبطل الراوي، لا أشير هنا لشخصيته الذاتية وإنما لحضوره الاعتباري بوصفه غطاء لزمن كامل، عبثَت فيه كل الأسباب التي أدت إلى زواله. وفي لعبة التناظر التي لجأت إليها في البناء السردي يمكن الانتباه إلى شخصيّة الشيخ طاهر في حياة والد البطل، ذلك الذي كان يبحث عمَّن يقف أمامه لتلقي اللوم، ففي حياة الأب الذي عاش في سورية كان هناك أخ أكبر يمارس عليه تأثيرًا دفعه نحو اختيار موتٍ مختلف، وكذلك في حياة الابن مرَّت شخصيّة صدَّام التي كانت سببًا في كل ما سيحدث لسنوات لاحقة رغم رحيله.

(*) هل لنهاية الرواية (التي لا نريد الكشف عن تفاصيلها ولكن تنتهي في سجن تعذيب وإخفاء في دولة خليجيّة) تأثّر أو ارتباط ما بنهاية مسارات سياسيّة حاليّة تشهدها المنطقة العربيّة؟ وهل الحب خيارنا في مواجهة الديكتاتوريات العربيّة؟

أنهيت كتابة العمل في أواسط عام 2020 ولم يكن بعد قطار التطبيع انطلق بين بعض العواصم العربيّة وتل أبيب، لم تكن حينها الرحلات العلنيّة نحو مطار اللد قد بدأت، هذه اللحظة التاريخيّة التي لن ينساها من راقبها وحاول استيعابها، في مسارات الحكاية التي تعبر في جيلها الثاني المعتقلات الأميركيّة في العراق، كانت تل أبيب حاضرة في التفاصيل، يموت البطل على أرض عربيّة بمعتقل عربي وبيد عربي، بينما يموت الجد في معتقل أميركي على أرض ألمانيا بمرض عضال بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة، هذان الحدثان المفصليان في مسيرة كلٍّ منهما – أعني الدخول للمعتقل والنهاية فيه – هي بداية مسار جديد لجيل آخر، وإن تمثَّلَت في مكان ما نهايةُ لمسارٍ شخصي لكل منهما، ارتباط البدايات بالنهايات في حياة كلِّ واحد منَّا، وانعكاسها على كل نقطة بينهما بحيث تصلح أن تكون بداية ونهاية في آنٍ معًا، تعطينا صفة "الناجي" الذي يقول في كل يوم: "لم أعد كذلك"، فيبحث عن جانب يعطيه استقرارًا – قد يكون وهميًا وقد يكون حقيقيًا- متمثلًا بالحب، الحب سلاحٌ للحياة الشخصيّة، ومن الطوباويّة بمكان أن نقول إن مواجهة الديكتاتوريات تكون بالحب، مواجهة الأنظمة القمعيّة يكون بعمل منظَّم شامل متكامل يبدأ من الجيل صِفِر، ليتم الاشتغال عليه ثلاثة عقود قبل أن نرى نتائجه على الأرض، فاليوم نحن نعيش في منظومة اسمها "سيكولوجيّة الإنسان المقهور" وحتى نخرج منها نحتاج كثيرًا من التنظيم في العمل، لا أتحدّثُ هنا عن أيديولوجيات معلَّبة تأتينا من تجارب أخرى، فقد مرَّت انكسارات وهزائم على أمتنا تجعلنا قادرين على إنتاج تجربتنا الشخصيّة الخاصة، لا نكرر أخطاء الماضي ونظن أننا سنصل إلى نتائج مختلفة.

إنَّ لحظة التطابق في مشهديّة الموت بمطلع الرواية وخاتمتها، بين جدٍّ عاش مطلع القرن الماضي، وحفيد مات مطلع القرن الحالي، لم تكن لحظة مصادفة أبدًا، بُنيَت في الحكاية على مسارات انطلقت منها وانتهت فيها، لتفتح أبوابًا لمدارات ثالثة آملُ ألَّا تكرر ذات التجربة، وإلَّا ستصل إلى نفس النتائج.

أتت علاقتي الشخصية مع عام 2003، لحظةُ الاحتلال التي قيل عنها لحظة التحرير، ولحظة التحرير التي وُصِفَت طويلًا بأنها لحظة احتلال، انهيار وعدَ ببناء تتوَّج بأكبر سرقةٍ عبر الزمن للتاريخ والجغرافية

(*) وضعت صورة شخص وهو يدير ظهره لنا (اعتقدنا أنها لك)، رافعًا يديه على حائط يبدو وكأنه في أحد السجون وغرف التوقيف أو التعذيب التي كثر ذكرها في العمل. ما هي علاقة قصّة عبد الله مكسور الشخصيّة مع رواية 2003 وما علاقته مع عام 2003؟

بما يكون إطلاق الاسم على العمل واختيار الغلاف هما المرحلتان الأصعب في عملية إنتاج العمل بالنسبة للكاتب، وكنت بحاجة لصورة ترسم الرواية نظريًا، أمَّةٌ فتية بكامل قوتها وألقها لكنها تقف مصلوبة إلى الحائط بعد أن مشت طريق آلامها الطويل، وفي ذات الوقت هذا الحائط المتصدِّع يحمل في داخله جملة من الخرائط التي تعيق حياتنا وتنغِّصُ يومياتنا، ما حوَّل منطقتنا العربيّة من أقصاها إلى أقصاها إلى غرفة تحقيق أو زنزانة توقيف يحكمها قانون الطوارئ، يلبس الشخص الذي على الغلاف اللون الأسود، وهو لون يصلح لكل المناسبات، للحزن والفرح معًا، فيه من التناقض ما يكفي للقول إننا نعيش اللحظة بوجهين معًا، بإحساسَين متناقضين، الضحك عندنا إشارة لأمل جلل سيحدث فيما بعد، والحزن في ثقافتنا دليل على اشتداد الأمر بانتظار فرجٍ قادم، من هنا أتت علاقتي الشخصية مع عام 2003، لحظةُ الاحتلال التي قيل عنها لحظة التحرير، ولحظة التحرير التي وُصِفَت طويلًا بأنها لحظة احتلال، انهيار وعدَ ببناء تتوَّج بأكبر سرقةٍ عبر الزمن للتاريخ والجغرافية، وبناء وصل إلى انهيار شامل "اثنيًا، عرقيًا، سياسيًا، اقتصاديًا".

كنت أبلغ من العمر حينها عشرين عامًا، واليوم خلال هذا الشهر تكمِل الحرب عامها العشرين، سألت نفسي لحظة الاحتلال الذي صار بالبوابة الشرقيّة لبلاد العرب، أنا من أكون؟ هو ذات السؤال الذي سأله بطل الرواية لنفسه في المعتقل الأميركي، وهو ذات السؤال الذي سأله الجد في الرواية بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، أنا من أكون؟ هل هذا الحدث يتصل بي، يمس خبزي اليومي، يمس استقراري اللحظي؟ وبعيدًا عن الواقع المتعلق بالرواية، تسكنني أسئلة من قبيل: لقد ولدت جغرافيًا في حماه، لكن أحلامي كلها لا تأتيني إلا في عكا، رغم أني لم أزرها في حياتي، هذه الأسئلة إلى جانب ما سبق رافقتني فيما بعد، عشرون عامًا لاحقة حاولت خلالها تأثيث المكان وإعادة بنائه في مخيلتي، استحضار تفاصيل مَن عاشوه على كل المستويات "عسكريًا- سياسيًا- ثقافيًا- اقتصاديًا- اجتماعيًا"، تجميع هذه المسارات تبني المشهد ككل وتعيد إنتاجه وترسم حدود علاقتنا الشخصيّة المباشرة فيه ومعه في وقت واحد.

(*) أنت تعمل في الصحافة منذ سنوات عديدة وأيضًا تعمل مدربًا في الأمن والسلامة المهنيّة للصحافيين في أماكن النزاع. ما هو الترابط بين عبد الله مكسور الصحافي/المدرّب وعبد الله الكاتب؟ وما هو الحد الفاصل؟

عندما أكون في العمل أكون الصحافي الذي يلاحق الخبر ويحاول الإجابة على الأسئلة الخمسة التي تسكن أيَّ متلق "كيف، متى، أين، ماذا، لماذا"، أبحث عن زوايا جديدة للتناول لم يفكِّر فيها أحد، وكذلك حين أدرِّب على السلامة المهنيّة الصحافيّة وتغطية أماكن النزاع والتوتر، أؤمن أن التشارك بالخبرات في هذا المضمار ونقل التجارب بين الميادين المختلفة في العمل الصحافي "الأخبار- الوثائقيات – الاستقصاء – إلخ" كفيلة بتطوير هذا العلم الجديد كليًا على منطقتنا العربيّة رغم أنها منطقة اشتباك وتوتر مفتوح قابل للانفجار في أي لحظة، أخلع الكاتب عن كتفي قبل أن أدخل للمعركة اليوميّة في العمل، ثم أعود لألبسه فور خروجي إلى الحياة، أسرق من الثاني بعض الأبجدية حين تخذل الأول معطيات الخبر، لكن في نهاية المطاف كلاهما يكمل الآخر، في ميدان العمل تكون ضمن مسمى وظيفي يتعاطى معك الجميع بناء على ما تطلبه عملية الإنتاج، أما في عالم الكتابة فميدان آخر أكثر هدوءًا، وإن كانت الرصانة تحكم عمليّة الإنتاج في كلا الحالتين.

الحد الفاصل بينهما هو حين أجلس لأتابع في العمل الروائي الذي أعمل عليه الآن، أو في عملية البحث المستمرة عن مسارات الشخصيّات التي أبنيها ضمن التاريخ والجغرافية الأدبيّة، هو في التقاط قصة خبريّة تصلح كي تكون جزءًا من بناء روائي قادم. يسجِّلُ الصحافي ملاحظات يمررها للكاتب خلال العمل اليومي، ويعود الكاتب للصحافي لاسترداد بعض التفاصيل خلال عمليّة الإنتاج.

(*) رواية 2003 هي العمل الروائي السابع لك. كتبت قبل بضعة أيّام عبر صفحتك الشخصيّة في الفيسبوك مع نشر صورة لأعمالك السبعة: "13 عامًا من الكتابة المتواصلة.. ماذا بعد من الألم؟" ما علاقة فعل الكتابة بالألم الشخصي/ العام بالنسبة لك؟ وهل هناك ألمٌ/عملٌ قادم؟

أنطلق في عالم الكتابة عندي من الخاص إلى العام، وأحيانًا من العام إلى الخاص، يذوب الجمعي بالشخصي والشخصي بالجمعي، كنت في مسار إنتاج عمل روائي تدور أحداثه عبر 300 عام في جغرافيّات وقوميّات متعددة، لكن لحظة الزلزال التي ضربت الجنوب التركي وشمال سورية، كانت فارقة بالنسبة لي، لقد كنت في غازي عنتاب قبل الزلزال بساعات قليلة، مررت إليها قادمًا من أوروبا الشرقيّة، ساعات فقط قبل الزلزال حين انطلقت الطائرة من غيمة إلى أخرى، نجوت مصادفة – كما يحدث عادة – حين يخطئني الموت ويصيب آخرين، حدث هذا في جغرافيّات مختلفة وكانت أقدار الآخرين ثابتة بينما القدر عندي متغير، وغالبًا ما يمنحني فرصة أخرى لنجاة مؤقتة، وهذا ما ينعكس في إنتاج الأدب، فكلُّ أدبٍ لا يخرج من المعاناة تنقصه أجزاء من الحقيقة، لذلك فإنَّ الألم أو الاحساس به "شخصيًا وجمعيًا" هو المعيار الحقيقي لبدء عمل ما، لحظة ذاتيّة فارقة تعيد من خلالها تكثيف ما يمكن تكثيفه عبر الزمان والمكان والأشخاص، بهدف بناء عالم جديد يقول الحكاية بطرق غير مباشرة أو بطرق أكثر مباشرة من رويها شعبيًا.

ماذا بعدُ من الألم؟ سؤال طالما يتردد في مخيالي، يعززه عملي في الأخبار وأنا أتابع يوميًا دمنا العربي مسفوكًا في أكثر من مكان، وكرامتنا الإنسانيّة مهدورة في أزيد من عاصمة عربيّة وغربيّة، لذلك أحاول يوميًا التخلص من هذا العبء عبر الكتابة التي وُصِفَت لي كطريقة للعلاج، وبصورة أخرى لمحاولة استيعاب ما حدث ويحدث في هذا العالم "تاريخًا وحاضرًا" بهدف البحث عن "مستقبل" أكثر أمنًا.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.