}

عماد حجّاج: السخرية تقزّم الديكتاتور وتنال من سلطته

غسان مفاضلة 22 مايو 2023
حوارات عماد حجّاج: السخرية تقزّم الديكتاتور وتنال من سلطته
عماد حجاج

كأنه يمشي في حقل ألغام. هذا ما يكاد ينسحب على واقع حال رسام رسام الكاريكاتير الأردني عماد حجّاج وهو يواصل مسيرته منذ أكثر من ثلاثة عقود، عابرًا التخوم المتحركة بين الفن والسياسة والصحافة، والتي أودعته قبل عامين خلف قضبان السجن بسبب رسم سياسي ساخر. لا لشيء، فقط لأنه تجاوز واحدة من المحظورات التي يحوزها النظام الرسمي العربي، ويشرعنها وفق مقتضيات الاستئثار بالسلطة والتغوّل على حرية التعبير.
مسيرة حجّاج (1967 ـ عمان) بما ابتدعته وراكمته من إنجازات قلّ نظيرها، وما صاحبها من مكابدات ٍوتقلبات عرفها وتعايش مع تفاصيلها طوال تلك العقود، جعلت منها علامةً فارقةً في مشهدها النقدي، الساخر، العابر للأنظمة والحدود. إنها المسيرةٌ التي شكّلت في طيفها الواسع والمتنوع، سجلًا بصريًا، متفردًا، حافلًا بالنقد اللاذع للقمع والاستبداد، ومناهضًا، على الدوام، للدكتاتوريات التي تتناسل من رحم البؤس والخراب.
ظلّت رسوماته بفرادتها الساخرة، منذ ابتدع شخصية "أبو محجوب" مطلع تسعينيات القرن الماضي، نصيرة البسطاء والمهمشين والفقراء الذين أطلّوا معها على مظاهر الزيف والخواء في واقعهم الاجتماعي والسياسي. الخفة والبداهة والألمعية التي توفّرت عليها تلك الشخصية في اشتباكها مع قضايا الواقع والمعيش اليومي، جعلت منها مصهرةً لتذويب المسافة بين السخرية والمأساة على ذلك النحو الذي يمتزج فيه السهل مع الممتنع، ويتقاطع في ثناياه المكشوف مع المحجوب.
كل ذلك، وغيره من سمات الشخصية وتعبيراتها البصرية النافذة، تُفيد بأنّ جميع المعاني الممكنة التي تنطوي عليها وتستبطنها في مشهدِ ما، هي معان محجوبة ومستترة خلف المشهد؛ لكنها واضحةٌ وجليّةٌ في ما تبثّه من إشارات وإيماءات سرعان ما يلتقطها الجميع. وضوحٌ يسحبُ معه "المحجوب" ويخترقه بصمتٍ رصين.
وعلى الرغم من تعامله مع فن الكاريكاتير بوصفه مزيجًا ما بين الفن والسياسة والصحافة، إلا أنه ظلّ محافظًا على تلك المسافة التي نأت برسوماته عن الاصطفافات والتجاذبات العابرة، باستثناء تلك التي تتطلب انحيازًا واضحًا وصريحًا لم يعرف معها الحياد، أو الوقوف في المنطقة الرمادية، خاصة المتعلقة بمناهضة التطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي، والمناوئة لأنظمة القمع والاستبداد. ولأنه يدرك أنه ليس مطلوبًا من الفنان أن يكون جزءًا من الاصطفاف السياسي، وليس مقبولًا من السياسي استقطاب الفنان، أو تكميمه؛ جاءت إنجازاته الكاريكاتيرية بمثابة سجلِ بصري أسس من خلاله سياقات فنية رفيعة المستوى في تعبيراتها وتوجهاتها النقدية.
ولأن براعته في التقاط المفارقات الناقدة والساخرة، لا تشبه سواها، استحق مؤخرًا جائزة محمود كحيل "إنجازات العمر" في نسختها الثامنة التي ينظّمها مركز رادا، ومعتز الصواف لدراسات الشرائط المصوّرة العربية، بالشراكة مع الجامعة الأميركية في بيروت. وجاء منحه الجائزة "تقديرًا لمعاناته جراء رسوماته المثيرة للجدل في محطات عديدة من حياته، والتي اضطرته إلى تغيير عمله مرارًا بحثًا عن سقف أعلى للتعبير"، بحسب منظمي الجائزة التي تمنح تقديرًا لمن أمضى أكثر من ربع قرن في خدمة فنون الشرائط المصوّرة، والرسوم التصويرية، والكاريكاتير في العالم العربي.
عمل حجاج رسامًا في عدد من الصحف، منها "القدس العربي" اللندنية، و"الغد" و"الرأي" الأردنيتان، وموقع "سكاي نيوز عربية"، وصولًا إلى صحيفة "العربي الجديد" حاليًا. وكانت له معارض عديدة وثقت أعماله في بيروت، والمغرب، وفرنسا، وغيرها. كما نال عشرات الجوائز، منها: جائزة الحسين للإبداع الصحافي 2001، جائزة دبي للصحافة 2006 و2010، وجائزة ملتقى مونبلييه للكاريكاتير العالمي في فرنسا العام 2012. ومُنح مؤخرًا جائزة المركز الثالث في مسابقة بينالي السخرية الكوبي عن فئة الكاريكاتير السياسي عن رسمُ يتعلق بقتل الأميركي جورج فلويد.
في هذا الحوار القصير، نتناول أبرز المحطات التي ساهمت في تشكيل معالم تجربة حجّاج الكاريكاتيرية، والوقوف على التحديات التي أحاطت بمسيرته المتواصلة منذ أكثر من ثلاثة عقود.






(*) حصلت مؤخرًا على جائزة محمود كحيل "إنجازات العمر"، كما حصلت قبل ذلك على عدد من الجوائز العربية والعالمية في مجال الرسوم الكاريكاتيرية. في رأيك، ما هي الأهمية التي تنطوي عليها هذه الجائزة، أو سواها من الجوائز، وما الذي يمكن أن تضيفه لك؟
جائزة محمود كحيل التي أعتز بحصولي عليها، تعد بالنسبة لي تتويجًا لمسيرتي التي تجاوزت ثلاثين عامًا مع فن الكاريكاتير، فهي بمثابة حجر زاوية في مسيرتي التي هي جزء من إرث بدأه فنان الكاريكاتير اللبناني محمود كحيل، الذي بدأت بمتابعة رسوماته وأنا على مقاعد الدراسة، وها أنا اليوم أكمل ما بدأه كحيل.
الجوائز بشكل عام، تعد من الحوافز التي تشدّ من أزر فنان الكاريكاتير، وترفع معنوياته، خاصة في ظل الأوضاع المحبطة التي نعيشها. فقبل سنتين فقط كنت في السجن على خلفية رسم ناقد لوضع سياسي، أما اليوم فيتم تكريمي بجائزة أراها بمثابة ترضية لي عن تجربة صعبة عشتها في السجن. فالجائزة تأتي لتشجيعي على الاستمرار في الكاريكاتير، هذا الفن الذي أرى أنه الأكثر شعبية وحضورًا في الشارع العربي. وهو بسبب لغته الواضحة والمختزلة يُعدّ الفن الأقرب إلى نبض الشارع من الفنون التشكيلية الأخرى. كما أنه في اعتقادي مؤهل للحفاظ على فاعليته وتأثيره في ظل التحولات الكبرى في وسائط الإعلام والاتصال.


(*) دخلت قبل عامين السجن بسبب رسم سياسي ناقد، ما جعل منظمات حقوقية دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" تطلق حملات مطالبة بالإفراج عنك. في رأيك، كيف تستقيم رسالة الكاريكاتير ودوره الناقد والساخر، إذا كان رسام الكاريكاتير نفسه عرضةً للبطش والتنكيل إذا ما اقترب من المحظورات والخطوط الحمراء، خاصةً في راهنها العربي؟
ما حصل معي حصل مع عدد من رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، وبعضهم دفع حياته ثمنًا لمواقفه، مثل رسام الكاريكاتير السوري أكرم رسلان، الذي قتل تحت التعذيب بسبب رسوم ساخرة، والفنان علي فرزات الذي كُسرت عظام يديه للسبب نفسه، وقبلهما الرسام الفلسطيني ناجي العلي، الذي اغتيل بسبب رسوماته. فرسام الكاريكاتير الحقيقيّ لا يعترف ولا يقرّ بالخطوط الحمراء، ولا بالرقابة التي تكتم الأنفاس، لهذا غالبًا ما نجده غير محبوب من قبل الديكتاتور الذي غالبًا ما تتناوله الرسوم الكاريكاتيرية بطريقة ساخرة لا تتوانى عن تقزيمه والنيل من هيبة سلطته.



(*) في اعتقادك، إلى إي مدى يستطيع رسام الكاريكاتير التحايل على الرقابة من دون أن يؤثر ذلك على سوية رسوماته نتيجة للمراوغة في تمرير الفكرة وطريقة التعبير عنها؟
أولًا، دعني أؤكد أن النكتة السياسية والكاريكاتير اللاذع لا ينتشران على نطاق واسع إلا في الأجواء التي تنخفض فيها مستويات حرية التعبير، وحيث تزدهر الأجواء القمعية والتعسفية. هنا، لا أجد مناصًا من التحايل على الرقابة ومراوغتها بشتى السبل حتى أتمكن من الإفلات من مصائدها بأشكالها المتنوعة، سواء أكانت رقابة سياسية، أم رقابة الثقافة السائدة، وكذلك الرقابة المسيرة "رقابة الذباب الإلكتروني"، ورقابة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي. فأنت ضمن هذا الفيض من أشكال الرقابة، تجد نفسك كمن يمشي في حقل ألغام. وهي رقابة تستنزف الوقت والجهد، لكنها لا تنال من سوية الرسم الكاريكاتيري بتوجهاته الناقدة والساخرة.


(*) أحرز عدد من رسوماتك شعبيّة وانتشارًا في غير بلد. ففي نيودلهي رفعت نسوةٌ تظاهرْن تنديدًا بقتل شيرين أبو عاقلة رسمًا كاريكاتيريًا لك عن الجريمة، وكذلك رفع أهل مصراتة في ليبيا رسومًا لك عن جرائم حفتر، وأيضًا في سورية والسودان. كيف تنظر إلى رفع رسوماتك في التظاهرات والاحتجاجات الشعبية وانتشارها العابر للبلدان؟
ربما تلعب صدقية التعبير ووضوحه، بعيدًا عن المناطق الرمادية، دورًا في هذا الإنتشار. إضافة إلى أن اللغة البصرية القصيرة الخالية من العسر والتقعير في طرح القضايا، تساعد الناس على التقاطها. فأنا أتعامل مع الكاريكاتير بوصفه زفرةً حقيقية تُعبر عن مكنونات الناس، وعن آمالهم وتطلعاتهم، بعيدًا عن الزخرفات والمجاملات.
أما رفع رسوماتي في التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية في أكثر من بلد، فأعده أمرًا في غاية الأهمية. فهو مؤشرٌ على نجاح الكاريكاتير في إيصال رسالته العابرة للحدود والجنسيات. إذ إنّ الأهمية التي ينطوي عليها فن الكاريكاتير تكمن في إمكاناته المفتوحة على توسيع آفاق الإنسان نحو التحرّر من القيود التي تكبله.






(*) في ظل عصر الإعلام الجديد، أو الإعلام الموازي بمنصاته المتنوعة، هل يواجه فن الكاريكاتير تحديات جذرية من شأنها أن تطاول فاعليته وانتشاره؟

في اعتقادي، فن الكاريكاتير يُعد من الفنون الناجية، إذا صح التعبير. فهو حاضر في مشهدية التغيرات الكبيرة التي يشهدها الإعلام والصحافة الورقية، ويتفاعل بمرونة مع تحدياتها التي أفادته كثيرًا، بسبب خصوصية رسالته، وسهولة انتشارها. فهو يحمل رسالة بصرية مكثفة وسريعة تتلاءم مع وسائط الإعلام الجديد. وهذا ما لمسناه وشاهدناه في فترة الثورات العربية، أو ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فالشعوب العربية لم تنتظر رسامي الكاريكاتير حتى يعبروا عن مطالبها وآمالها، بل رسمت كاريكاتيراتها بنفسها عبر "السوشيال ميديا"، وبالتالي ظهر رسامو كاريكاتير من الناس العاديين. إضافة إلى انتشار ظاهرة "الميمز" التي لم تتوقف عند حدود الصورة، بل ذهبت مباشر نحو الفكرة، أو الكلام المكتوب الذي يرافق الصورة، بعيدًا عن المواصفات الفنية. هذه الظاهرة أثرت في عدد من رسامي الكاريكاتير، وأنا من ضمنهم، لجهة ابتكار شكل كاريكاتيري جديد أقرب إلى شكل "الميمز"، واجتراح أشكال جديدة أكثر عملية وتوافقًا مع عالم "السوشيال ميديا".


(*) جمعتك مع الكاتب الساخر الراحل محمد طمليّة علاقة وطيدة في بداياتك الأولى، أقمتما معًا، ثم أصدرتما كتابًا مشتركًا بعنوان "يحدث لي دون سائر الناس" جمع بين رسوماتك ونصوصه. ما هو الأثر الذي تركه طمليّة في تجربتك الكاريكاتيرية؟
عشت مع طمليّة في بيته لمدة عامين قبل تخرجي من كلية الفنون في جامعة اليرموك في مطلع تسعينيات القرن الفائت، وكان أول من شاهد رسوماتي، وهو الذي شحن موهبتي وجعلني أفهم معنى السخرية. كان يملك حسًا عاليًا تجاه فن ﺍﻟﻜﺎﺭﻳﻜﺎﺗﻴﺮ، ما ساهم في تشكيل مرحلة نضوجي الفني قبل مرحلة "أبو محجوب". كانت أهم رسوماتي تلك التي نشرتها بمعيته في صحف أسبوعية، خاصة في صحيفة "الرصيف"، التي كان يصدرها آنذاك. كانت أجواء الصحيفة نفسها أجواء كاريكاتيرية تفيض بالدفء والحميمية والسخرية من كل شيء؛ من الحياة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كنت أرسم من دون رقابة أو خطوط حمراء، ولم يكن للسقف من وجود.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.