}

آلاء حسانين: لا أؤمن بالحدود بين الأساليب الأدبية

جمانة دحمان 12 يونيو 2023
حوارات آلاء حسانين: لا أؤمن بالحدود بين الأساليب الأدبية
آلاء حسانين

آلاء حسانين شاعرة وكاتبة وممثلة مصرية ولدت في السعودية عام 1996. درست الأدب الإنكليزي في السعودية لمدّة عامين، ثم غيّرت التخصص فور عودتها إلى مصر لتدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية.
صدرت لها مجموعة "يخرج مرتجفًا من أعماقه" عام 2018، و"العهد الجديد كليًا" عام 2019 ومجموعة قصصية بعنوان "حكايات السأم" عام 2021.
فازت بجائزة اليونسكو في باريس عام 2015. كما ترشحت مجموعتها "يخرج مرتجفًا من أعماقه" لجائزة يوسف زيدان.
في هذا الحوار، تحدثنا آلاء عن الشعر كبطلٍ رئيسيّ، وعن البحثّ الدائم عن الذات والهويّة من خلال الكتابة.




(*) دعينا نبدأ الحديث عن قرارك الرحيل عن مصر، ولجوئك إلى فرنسا. كيف اتخذت هذا القرار؟ وكشاعرة، ماذا أضافت لك تجربة الهجرة؟  
في الحقيقة، هاجرت مرتين، هجرة صغيرة، وهجرة كبيرة. الأولى عندما انتقلت مع عائلتي إلى مصر بعد سنوات طويلة من العيش في السعودية، ثم استقليت في المسكن لمدة خمس سنوات. في هذه الفترة، بقيت على مسافة من كل شيء: العائلة والماضي والهوية والألم. لم أكن داخل حياتي، كما لم أقفز خارجها أيضًا... بدأت أتلمس حياتي الجديدة في القاهرة، أتغير، وأنمو، وأخطئ، أفشل وأنجح، فيما حياتي القديمة تنظر إليّ من بعيد. حياتي القديمة شكلت هاجسًا كبيرًا، أحيانًا هاجمتني بشراسة، وأحيانًا هادنتها... واحتفظت بذلك الماضي، زرته في الأعياد، خبأت بقاياه تحت السجاد، وفي الرف الأخير في الدولاب، وما إلى ذلك.
أما هجرتي الكبيرة، وهي هجرتي إلى فرنسا، فلم أخطط لها كثيرًا، علمت في مرحلة ما في حياتي في القاهرة بأنني يجب أن أقفز خارج كل شيء، يجب أن أحقق حلمي القديم والطفولي بأن أذهب بعيدًا جدًا، إلى حيث لا أدري... ثم خرجت، أقمت حفلة في منزلي دعوت إليها جميع أصدقائي، ودعتهم وودعوني، ثم نظفت الشقة، وجمعت الملابس من على حبل الغسيل، ورميت القمامة... تركت كل شيء في منزلي على حاله، اللوحات معلقة على الجدار، الكتب في المكتبة، وملابسي في الدولاب. ذهبت إلى منزل عائلتي، وسلمت عليهم في عجالة، ثم ركبت السيارة واتجهت إلى مطار القاهرة، وحاولت ألا أنظر إلى الخلف بحنين، أو خوف. لم أكن حزينة، أو قلقة، أردت فقط أن أغادر. وبعد وصولي إلى فرنسا، بدأ الماضي يخرج من كل مسامي، تقيأته كما أتقيأ طعامًا فاسدًا، من جسدي ومعدتي وذاكرتي وأحلامي... هاجمتني كل الأشياء، كل الذكريات، كل شيء ظننت بأني هادنته وصالحته، عاد لينبح قرب سريري. شعرت بأني قفزت خارج اللوحة، وبدأت أرى كل شيء على حقيقته، مررت بأيام صعبة للغاية، لكن تعاملت معها، عشتها من دون أن أنتظر أن تنتهي، فأنا أعرف بأن الحياة هي مزيج أشياء، مزيج أيام وناس... لكنها هدأت الآن على كل حال، وأشعر أني أستطيع التنفس بشكل أفضل، وما سيأتي سأتعامل معه أيضًا. إنها رحلة قررت القيام بها، حتى وإن كانت صعبة وخطرة، حتى وإن كنت خرجت بجسدي المجرد وقلبي المجرد ويدي المجرد، من دون شيء سوى صوت عميق في داخلي دفعني إلى المغادرة، سوى إيماني العميق بأني سأعتني بنفسي، وسيعتني الكون بي.

(*) خلال السنوات الأخيرة، كانت لك تجارب متنوعة في الكتابة، أبرزها كان كتابة الشعر، وكتابة القصص القصيرة. هل وجدت اختلافًا كبيرًا بينهما؟
لا أؤمن بالحدود بين الأساليب الأدبية، ولا ألتزم بها... كتبت القصة بروح الشعر، وكتب الشعر بهيئة القصص، وكتبت الشعر نفسه بهيئات مختلفة. حتى عندما قفزت على إطار الكلمة ولونت، كان هذا شعرًا أيضًا، وعندما انخرطت في صناعة الأفلام، فعلت ذلك بروح الشعر. في الحقيقة، أنا أعيش الحياة كلها بهذه الروح، روح الشعر... وأحيانًا لا أفرق بينهما. أما عن التصنيفات الأدبية فلا تهمني ولا أفكر فيها.

(*) ذكرت في أحد منشوراتك على صفحتك في فيسبوك أنّك بدأتِ منذ عام بكتابة ما أسميته بالشعر المتخفف من الشاعرية؟ هل يمكن أن تشرحي أكثر عن هذه اللغة الشعرية؟
بدأت بتلك المجموعة بعد أسابيع من وصولي إلى فرنسا، كنت أجلس في ساحة سانت بول في باريس ضجرة وتائهة وسعيدة أيضًا. حينها، نهضت في اتجاه متجر واشتريت دفترًا أسود ضخمًا وقلمًا أزرق، ثم عدت وجلست على المقعد ذاته وبدأت أكتب، قلت: أريد أن أكتب شعرًا يشبه الكلام. ثم التفت حولي وكتبت، عن الناس والأيدي، وعن السكران الذي جلس بجانبي على المقعد ذاته، عن الأحضان المرافقة للتحايا، وعن صباح الخير التي تتداولها بلطف مع الجميع. أردت أن أكتب عما أراه وأعيشه، من دون مجاز، أو مواربة. بوضوح شديد، لم أرد أن أحمل شيئًا، أو أن أكتب شعرًا رائقًا، لم أهتم بالشعر، لم أرد أن اهتم به، أغاظتني دومًا فكرة الشاعر الذي يكتب شعرًا عذبًا يتسلى به الناس، قلت: لا، سأكتب شعرًا وقحًا، وسأقول كل شيء بفجاجة، وسنرى من سيتسلى! أردت أن أهتم أكثر بهذه المصيبة القابعة أمامي المسماة الحياة، بكل ما فيها من رداءة وتيه وعذوبة أيضًا. أردت أن أعرف وأحلل، وأشرّح نفسي وماضيّ والناس، كتبت عن الهجرة والوطن والعائلة والبيت، وعني بكل الأشخاص الذين كنتهم. بدأت هذه المجموعة يوم 1 نوفمبر، ولم أعرف وقتها أن هذا الدفتر سيرافقني في رحلتي، في الموج الذي رميت نفسي فيه ولم أعرف إلى أين سيحملني، فقد دعوت أن أصل بسلام، كتبت عن هذه الرحلة، داخل نفسي خارج نفسي، داخل العالم خارج العالم.. كتبت عن باريس، وسانزاغ، ونانت، وأنجيه، وجميع المدن التي عشت فيها، والناس الذين تفاعلت معهم. ولم أرد أبدًا أن أكتب عن القاهرة، جعلت ذلك واضحًا في أول قصيدة في المجموعة: لا أريد أن أكتب عن القاهرة مرة أخرى.




ولم تنته رحلتي مع هذا الديوان بعد، لكنها شارفت. كتبت ما يفوق 120 صفحة من هذا الديوان خلال أشهر. وسأقول ما قلته دومًا؛ بأن الشعر ساعدني على النجاة، فلا أظن أبدًا أني كنت سأنجو من رحلة مجهولة كهذه، لو لم يكن الشعر حاضرًا، ليعلمني، ويفهمني، ويطبطب عليّ، الشعر عائلتي.

(*) ما هي المراحل الشعرية التي تمرّين بها منذ اندلاع الشرارة، أو الفكرة الأولى، لكتابة قصيدة، انتهاءً بخروجها إلى الضوء؟
الشعر يأتي وحده. لقد كان هكذا دائمًا. في البداية، كان يأتي جارحًا ومؤلمًا، وكنت أشعر بأني على حافة الجنون. لكن مع السنوات فهمنا بعضنا، صرت أشعر به ينمو في داخلي، والآن صرت أخرج لأكتبه في المقاهي، عندما أشعر بأني جاهزة كفاية لكتابة قصيدة، أتأنق وأبحث عن مقهى أكتب فيه. أحيانًا أمشي كثيرًا بحثًا عن "المقهى"، ثم أجلس وأشرب القهوة وأكتب. الشعر قادني دائمًا، لكن كلما كبرنا أكثر، صرنا نسير معًا، تفاهمنا أكثر. أرافقه ويرافقني.

(*) دعيني استخدم تعبير "دغدغة خاصرة الشاعر"، لأسألك عن المدن. أيُّ مدينة دغدغت خاصرة الشاعر لديكِ أكثر، باريس، أم القاهرة، أي بما معناه، أيُّ مدينة من هاتين المدينتين تستحثُّك أكثر على الكتابة؟
لم أكتب في القاهرة كثيرًا. كتبت مجموعة واحدة خلال خمس سنوات، هي مجموعة "الحب الذي يضاعف الوحدة"، التي ستنشر قريبًا. عدا ذلك، الحياة الطاحنة في القاهرة نحّت الشعر بعيدًا، جاء فقط عندما احتجت إليه. قسوة القاهرة جعلتني أقسو لأتمكن من العيش فيها، وتلك الصلابة والقسوة والخوف لم يقدموا الكثير للشعر، كان شعري خائفًا أيضًا. في مجموعة القاهرة الوحيدة تلك ستجدين الخوف ظاهرًا بشدة، والحب المجروح، والوحدة... كما ستجدين بعض الأمل أيضًا... هي عمومًا مجموعة تشبه القاهرة، التي صقلتني وقوتني، كما جرحتني كثيرًا أيضًا، أقول بأنها جهزتني للعالم.
لكن في فرنسا، ورغم أن الهجرة صعبة، والابتعاد صعب، وما إلى ذلك، رغم أني شخصيًا وجدته رائعًا؛ أن تبتعد عن كل ما تعرف وتتوه في العالم! رغم ما لهجرتي إلى فرنسا من صعوبة، غير أني أجد أنها أحن عليّ من القاهرة، أنا أعيش وأستمر في فرنسا لأني أردد: ليست مثل القاهرة! نعم، كل شيء هنا أسهل بالنسبة لي، لأنه لا يشبه القاهرة!
في باريس، كتبت كثيرًا، لم أكتب بهذه الغزارة طوال عمري، وأنا أكتب منذ عشرين عامًا، أكتب منذ كنت في السابعة تقريبًا، لكن هنا في فرنسا، في باريس، ونانت، وأنجيه، جاء الشعر إليّ بخفة وعذوبة وسهولة، جاء رفيقًا ناعمًا منسابًا، عوامل كثيرة هنا تجعل الشعر لا يجيء محملًا بالأتربة.

(*) لدينا فكرة نمطيّة عن الشعراء، ساعدَ التلفاز والسينما في العقود الأخيرة على انتشارها أكثر بين الناس، وهي أنَّه على الشاعر بطبيعة الحال أن يظهر كشخصٍ فوضويّ مضطرب السلوك في كثير من الأحيان، تتلبسه شياطين الشعر أينما وجد، غير مرتب، وميّال إلى العزلة، وإلى ارتداء الملابس ذات الألوان الباهتة. هل تزعجك هذه الفكرة، وكيف تدافعين عن نفسك كشاعرة؟
 لا أشعر أني في حاجة إلى أن أدافع عن نفسي ضد أي شيء، على الرغم من أن هذه الصورة تخيفني كثيرًا، لأني ولدت كشخص حالم يطفو فوق العالم، وكنت أقول دائمًا: أريد أن أعيش كشاعرة، ولا أريد أن أموت كذلك! وأحببت هذه الخفة التي تعيش بها روحي الفطرية، وهذه الفوضى أيضًا، لكن أخافتني قصص الشعراء الذين يموتون مفلسين على حواف الطريق! هذه الفكرة وحدها جعلتني أستمر في الجامعة، رغم كراهيتي لها، لأتخرج منها بمعدل جيد، وأبتعد عن مرافقة الشعراء. رافقت أناسًا عكسي تمامًا، تجارًا مثلًا، ولديهم عقلية عملية للغاية. أردت أن أتعلم منهم ما ينقصني، أن أطور مهارات ليست لديّ، فأنا ولدت كشاعرة وفنانة، وهذا ليس عيبًا، لكن قد يكون خطيرًا للغاية... لهذا لم أقبل أن أكون شاعرة وحسب، أردت أن أنخرط في أعمال أخرى، وأن يصبح لديّ عمل ينفق عليّ، وصحيح أن الأعمال التي اخترتها تحوم كلها حول الشعر، مثل صناعة الأفلام والصحافة، لأني لا أقدر فعليًا على أي عمل آخر، أعني: عملًا ليس فيه فن... واختياري لأن أعمل أعمالًا اخرى لا ينبع من كوني أقلل من الشعر، على العكس تمامًا، الشعر هويتي، هو الحقل الذي نشأت فيه، لكن شعرت أن في استطاعتي أن أزور حقول فنون أخرى.




على كل حال، تلك الصورة عن الشعراء ليست مزيفة تمامًا، وقد أزعجتني كثيرًا لأني أعرف أن فيها جزءًا كبيرًا من الحقيقة، لدرجة أني تعمدت "قتل الشاعر" في قصائد كثيرة، وفي الحياة هربت منه أيضًا، حتى تعلمت مهارات جديدة وعلمتها إياه، علمته كيف لا يخرج كاشفًا قلبه للعالم، ويتقبل الشر في العالم وفي نفسه، وأن يبقى على مسافة للحماية، لأنه يحب جميع الناس، ويرغب في احتضانهم، علمته أن يفكر مثلما يفكر الآخرون، لا ليصبح مثلهم، بل ليتنبأ بتصرفاتهم، علمته كيف يعيش في المجتمع حتى لا يموت على حافته من دون انتباه من أحد... لكن لم تمحُ أناقته وارتداؤه لألوان صاخبة تلك الذات الفوضوية في داخله، الميالة للعزلة أيضًا... لم تخف شياطينه التي تتلبسه منذ الأزل، وإنما هذبتها قليلًا وحسب.

(*) أخيرًا، هل ثمّة نصيحة في الشعر؟ وإذا كان الجواب نعم، ما هي نصيحتك لشاعر/ة في بداية مسيرتهما؟
درويش قالها مرة، قبلنا كلنا: "لا نصيحة في الشعر، إنها التجربة"...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.