}

فينوس فائق: النص الشعري الأصيل والجيّد يفرض نفسه دائمًا

حوارات فينوس فائق: النص الشعري الأصيل والجيّد يفرض نفسه دائمًا
فائق: الحرب أخذت منا أجمل أيام الصبا
تتطرّق الشاعرة والإعلامية والمترجمة الكردية المقيمة في هولندا فينوس فائق، في هذا الحوار، إلى راهن وتحولات النص الشعري قبل وبعد طفرة العصر الرقمي، مجيبة عن أسئلة مختلفة تتصل بتطورات حياة الأديب وقناعاته تجاه قضايا الغربة والوطن وجدلية الصراع بين الرجل والمرأة، وفضاء تجربتها الشعرية.


(*) بداية، كيف أثرت طفرة العصر الرقمي على النص الشعري؟ وماذا منحته؟
التطور التكنولوجي السريع ألقى بظلاله على جيل الشعراء والأدباء وجمهور القراء، وصار من الممكن أن نصنف الشاعر والمتلقي، حسب حقبة ما قبل وما بعد التكنولوجيا، فهناك شعراء وقراء لم يجربوا أصلًا النشر الورقي، ولم يقرؤوا كتبًا ورقيّة، بل قرأوا نصوصًا ضوئية بصور سريعة أوهمتهم بأن ذلك يكفي، وبدا الأمر بالنسبة لهم عُرفًا أدبيًا. أنا أصنِّف هؤلاء تحت خانة "شعراء الإنترنت"، و"قراء الإنترنت"، وهذه الظاهرة رغم جوانبها الإيجابية إلا أنها تعد أيضًا أرضية خصبة لتناسخ النصوص الأدبية، وإعادة نشرها بأسماء أخرى، إما على سبيل السرقات الأدبية، أو على سبيل فوضى التداول. وتبعًا لذلك، فقد انحسر وهَج وسحر النص الشعري، في ظل العصر الرقمي الذي بدأ في تغيير ذائقة المتلقي بطريقة أو بأخرى، وسحبه عنوة من العمق إلى السطح، فنحن اليوم أمام شبكة عنكبوتية تجبرنا على الانخراط في متاهاتها التي صارت تتحكم بتفاصيل حياة الشاعر. مع ذلك، لا يمكننا إنكار أن التكنولوجيا قدَّمَتْ خدمات جليلة للإنسانيَّة، وسَهّلت التواصل بين البشر، وألغت المسافات.

(*) يرى بعضهم أن طفرة العصر الرقمي والقراءة الضوئية حدت من الخيال... كيف تنظرين إلى ذلك؟ وما الفرق بين كتابة النص الشعري قبل وبعد هذه الطفرة؟
أتفق مع هذا الرأي، والأهم من ذلك أنها غيبت ـ نوعًا ما ـ دور الرقيب الأدبي واللغوي الكفيل بإخراج النص بلا أخطاء لغوية، أو طباعية، تعتور جمال الانسياب التعبيري للنص. كما أنهت الشغف المرافق لمراحل إنتاجه ونشره، كما كان سائدًا قبل الطفرة الرقمية. وأنا هنا لا أحكم بتلاشي واختلاف معايير التقييم الأدبي الموضوعي التي لم يعد يؤمن بها الشاعر الرقمي، بقدر ما أعني أنه في زمننا كانت الموافقة على نشر نص لنا بمثابة شهادة نفتخر بها، وكنا ننتظر النشر بشغف كبيرٍ أصبح اليوم معدومًا لدى الشاعر، الذي لم يعش اللحظة الشعريَّة بكل تفاصيلها، ولم يسهر وهو يتقلب بسبب فكرة تنخر في رأسه لتصبح في النهاية نصًا إبداعيًا له قيمة عالية، ولم يعانِ من مشاعر الشغف وانتظار الموافقة على نشر نصه، والإحساس بالنشوة والدهشة عند نشر النص، ولحظة تصفح الشاعر للمطبوعة التي نشرت نصه، وهذه الحالة لها جوانب سلبية تترك أثرها على المعايير الأدبية والأخلاقية والموضوعية التي تقيم النص وتمنح الكاتب لقب شاعر، وتحفزه على تطوير ذاته الشاعرة.

(*) هل نفهم من ذلك أنك متشائمة تجاه مستقبل النص الشعري في الزمن الرقمي؟
لست متشائمة، ولا أحكم بأن التقنية تهدد مستقبله، فالنص الشعري الأصيل والجيّد يفرض نفسه في أي زمن أو مكان. ما أقصده هو أن الشعر يعيش أزمة غياب الرقيب الأدبي واللغوي، بسبب أدوات ومعطيات السرعة في العصر الرقمي الذي سَهّل نقل لغة ومفاهيم ومعارف العامة البسيطة إلى منصات التواصل الاجتماعي، التي تجمع في الوقت نفسه المبدعين الحقيقيين، وهذا يؤسس لمخاطر حتمية على المبدع وعلى القِيَم الجماليّة والإبداعيّة لإنتاجه وعلى اللغة نفسها. ولعل من أبرز تلك المخاطر إفساد الذائقة الأدبية للأجيال الصاعدة، وترويضها على تعريف أي كلام يخلو من الروح والخيال الشعري والعمق المعرفي بأنه "شعر"، حيث تجد جيلًا بكامله يفتح عينه على هذه الظاهرة، ومع الزمن سيؤمن بأنها الحالة المثالية.

(*) ما هي رسالتك للمبدع والناقد والقارئ في هذا الخصوص؟
رسالتي للجميع تتمثل في التأكيد على القاعدة الأصيلة في تقييم النصوص، والتي تفيد بأن كل إنتاج أدبي خارج قوانين وأعراف النشر يكون ناقصًا، ويفتقر لأهم عوامل إشباع الذائقة الأدبية.

(*) "غربتي صارت وطني، والقصيدة خطاياي الجميلة التي أرتكبها على أوراق بيضاء، والحرب أخذت أجمل أيام الصبا". هكذا قلت في حوار صحافي قبل سنوات، هل لا تزال هذه القناعات قائمة، أو ثابتة، لديك؟ أم أن القناعات تتغير؟
القناعات تتغير، أو يجب أن تتغير مع نضوجنا ثقافيًا وأدبيًا وفكريًا. فأنت قد تقول شيئًا عن قناعةٍ في مرحلة ما من مراحل مسيرتك الإبداعية، فتتغير هذه القناعة مع تغيير أفقك الفكري، وتطور أدواتك المعرفية والإبداعية، وبعد أن تقطع شوطًا في مشاريعك الحياتية وإنتاجك الأدبي، وحتى عندما تتعلم أكثر وأكثر عبر محطاتك الحياتية.
ورغم أنني ما زلت أعيش الغربة مجازًا، فأنا أعيشها جغرافيًا وروحيًا، لا أقول هذا تشاؤمًا، بل حقيقة، فنحن كمغتربين لا سبيل لعودتنا كما كنا مواطنين أصليين، في بلداننا، ولن نكون مواطنين أصليين في بلد المهجر. نبقى نتخبط ذهابًا وإيابًا بين وطن صار منفىً، ومنفىً صار وطنًا، ولا نستقر على وطن نرضى عنه ويرضى عنا، وهذه هي المأساة التي سيظل يعيشها شعراء المهجر.
أما عن الحرب، فهي حقًا أخذت منا أجمل أيام الصبا، وقضت على أجمل فترة عمرية من حياتنا، والقصيدة ـ أيضًا كما كانت ـ لم تزل أجمل خطيئة أفضُّ بها بكارة الأوراق البيضاء. أقول كل هذا، وأنا اليوم أنظر إلى الحياة بمنظار أكثر اتساعًا من الماضي، وأرى العالم من حولي بعين أخرى. القضية هي أن تتأقلم بين دروب حيواتك المختلفة عبر محطات لم تختر أن تمر بها، أو محطة اختارتك لتقيم فيها.






(*) في هذا السياق، يقول الأديب والروائي العربي واسيني الأعرج عنك بأن "عيشك بعيدًا عن وطنك الأم منحك فضاءً شعريًا جميلًا ما كان لكِ بلوغه، لولا المنافي وقلق الفقدان". ماذا يعني لك هذا القول؟
أن يكتب ذلك عني الروائي والأديب واسيني الأعرج، فهذه شهادة أعتز بها، وأرى فيها مكسبًا يفوق أي جائزة أدبية، وذلك يعني أنه قرأ إنتاجي الشعري بعمق. وكونه يعيش في المنفى كمبدع كبير، فقد فهم ما أشرت له في سؤالك، لأنه جرّب قلق الفقدان، فغاص بعمق في نصوصي التي تشكلت بين كل المنافي التي مررت بها، وعرف كيف تحولت تلك التجربة إلى نصوص شعرية صادقة.

(*) كشاعرة مهاجرة تنقلت بين بلدان متعددة، وشاركت في الفعاليات والمهرجانات الثقافية الدولية، ماذا منحتكِ هذه الأسفار؟ وماذا أخذت منك؟
هذه الأسفار منحتني كثيرًا ولم تأخذ مني شيئًا، الحروب هي التي تأخذ وتلتهم أجمل وأغلى ما نملك، لكن مثل هذه الأسفار تمنحنا القوة وروح التحدي الثقافي، وتلقي بنا في عوالم جميلة، وإن كانت قصيرة العمر، إلا أنها تحجز مكانًا كبيرًا في عمق الذاكرة والوجدان.





(*) في مجموعتك "سأرزق برجل من ضلعي الأيمن"، وتحديدًا في القصيدة التي تحمل اسم الديوان، تبرز جدلية تاريخية تفترض أن ثمة صراعًا دائمًا بين الرجل والمرأة. من وجهة نظر فلسفية، لماذا تحاول المرأة الشاعرة تمثل دور الضحية، أو تحاول ترويض الرجل ليكون وفق ما تريد؟
القضية ليست كذلك، إنما هي محاولة لإحداث تغيير في رجل قريب منها، ومن خلاله نقل التغيير إلى رجال آخرين. نحن لا نستطيع تغيير العالم، لكننا قد نترك أثرًا على من حولنا. أما في خصوص أن المرأة تمثل دور الضحية، فهذا ليس صحيحًا، بل تعيش الدور نفسه، فهي أصلًا ضحية، والأمر يتعدى كونه تمثيلًا، علينا أن نعيد النظر في نظرتنا للآخر لنحقق أقل قدر من التقرب من بعضنا بعضًا، وأن نفهم أنفسنا أولًا، وأن نحاول أن نفهم الآخر، لنصيغ علاقتنا به في سياق إنساني بحت بعيدًا عن فكرة من يسيطر على مَن! ومَن هو القوي! ومن هو الضعيف! أنت إنسان، وأنا إنسان، لا تستضعفني، حتى لا أرى فيك شيطانًا.

(*) أخيرًا، يلمس القارئ دفقًا من الكتابة التصويرية الميالة إلى سجال الألوان، فهل كانت فينوس مشروع فنانة تشكيلية؟ وما أجمل الألوان في نظرك؟
قد أكون ورثت شيئًا من والدي ـ رحمه الله ـ الذي كان مدرسًا وفنانًا تشكيليًا، ويمتلك تاريخًا غنيًا بالإبداع في مجال الفن التشكيلي كرسام، وكنحات، غير أنني وظفت ما ورثته عنه في الشعر ورسم الصور الشعرية بالحروف... أما بالنسبة لأجمل الألوان في نظري، وأكثرها ارتباطًا بذاكرة الطفولة، فهي البنفسجي الغامق، وكل الألوان الغامقة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.