}

فارس البيل: المشهد الثقافي اليمني لم تؤزمه الحرب وحدها

صدام الزيدي صدام الزيدي 30 يوليه 2023
حوارات فارس البيل: المشهد الثقافي اليمني لم تؤزمه الحرب وحدها
فارس البيل
فارس البيل قاص وناقد وباحث أكاديمي يمني يقيم في القاهرة، أستاذ جامعي مساعد لمواد الأدب والنقد الأدبي والثقافي. حاصل على دكتوراة في الآداب تخصص نقد أدبي وثقافي من كلية الآداب، جامعة عين شمس (2014). وقبلها، ماجستير دراسات أدبية، كلية دار العلوم من جامعة القاهرة (2009)، بعد أن أنهى بكالوريوس اللغة العربية في جامعة صنعاء (2004). يحمل عضوية منظمة العفو الدولية، واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
صدر له: "القصيدة السياسية: الرؤية والفن"، بتقديم الشاعر والناقد الراحل عبد العزيز المقالح (أروقة للنشر ـ القاهرة ـ 2014)، ومجموعة قصصية بعنوان: "وشاية الليلك" (حاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي ـ 2014)، بالإضافة إلى دراسة موسعة في النقد الثقافي بعنوان: "الرواية الخليجية: قراءة في الأنساق الثقافية" (الأكاديميون للنشر ـ عمان ـ 2016). أدار تحرير الموقع الإلكتروني (ابن اليمن) الناطق باسم الطلاب اليمنيين في الخارج بين عامي 2006 و2009. ترأس وفد اليمن الرسمي المشارك في مؤتمر الذاكرة العربية (التابع لجامعة الدول العربية) في بغداد عام 2017، ومهرجان الرباط عاصمة الشباب العربي عام 2016، ومؤتمر الشباب (التابع لجامعة الدول العربية) في الجزائر عام 2018. اختير محكمًا في جوائز ومسابقات أدبية وعلمية (من بينها مسابقات تلفزيونية)، وشارك وقدم أوراق عمل في مؤتمرات (وندوات) ثقافية، وعلمية وحقوقية، بتنظيم عربي، وبتنظيم من الأمم المتحدة أيضًا.
تنشر له أبحاث علمية ومقالات نقدية في منابر ودوريات عربية تهتم في مجملها بالنقد الثقافي، وخطاب مواجهة التطرف الأيديولوجي والإرهاب، وقضايا الكتابة، وقضايا الشباب، وقضايا المرأة، والهجرة، والطاقة، وثقافة العنف والهوية، والنص الإلكتروني، واللغة العربية والتحولات المعرفية، والإدارة الحديثة، وغيرها.
هنا حوار معه:

(*) المشهد الثقافي اليمني الراهن، هل هو بخير برغم ما فعلته الحرب؟
الثقافة دائمًا أشبه بالفعل الكلي لأي مجتمع، وهي كالدورة الدموية بالنسبة للجسد، يتعرض الجسم لأمراض كثيرة، ويبقى الدم يسري في كل عرق منه بانتظام، حتى إذا ما اعتلت تكون النهاية. هي الحامية والحاضرة ساءت الظروف أو حسنت، هكذا يفترض، لأنها توجه العقل والسلوك الجمعي، صحيح أنها تزدهر بالرخاء، لكن لا يتوقف العقل عن الإنتاج حتى لو انهارت المجتمعات.
هذا من ناحية الفعل الثقافي الحضاري ككل، لكن من ناحية تفاصيل الأداء الثقافي، كالفنون وفاعلياتها، فهي تتأثر بالحالة المجتمعية من ناحية الأداء والجودة والانتشار، لكني أومن أن الفعل الثقافي لا يتوقف عند ظرف، بل إن كثيرًا من الأعمال والإنجازات الثقافية في التاريخ نشأت بفعل الظروف السيئة... أو كانت فترات الخراب هي البيئة الأخصب لها، لأن الفعل الثقافي هو تقويمٌ دائم الحضور، وتفكيك وتحليل ومعالجة لكل ما حوله من ظروف.
في اليمن، المشهد الثقافي في الأساس ضعيف، وهامشي، ولم يحظ بكثير اهتمام، ونخبته لم يكونوا أصحاب مشاريع كبيرة كي يرقى ويشيع، ولذلك أتصور أن المشهد الثقافي اليمني يعاني أزمات ذاتية عديدة قبل أن تؤزمه الحرب.

الرواية الخليجية
(*) الفترة بين 2006 و2010 هي الفترة التي تؤطر فضاء دراستك النقدية (الثقافية): "الرواية الخليجية: قراءة في الأنساق الثقافية"، اخترت 6 روايات، بواقع رواية واحدة من كل بلد (وحرصت على أن تساوي الدراسة بين الجنسين)، ومعلوم أن الرواية في دول الخليج، وإن كُتبت متأخرة كثيرًا عن نظيرتها (العربية)، إلا أن روايات كتبت قبل منتصف (وعلى امتداد ما بعد منتصف) القرن العشرين المنصرم. لماذا اخترت روايات كتبت بعد العام 2000، متجاوزًا كل ما قبل ذلك؟
اختيار الروايات جاء بناءً على معايير موضوعية ومنهجية للدراسة، لا زمنية. الكتاب في الأساس هو دراسة من جهة نظرية النقد الثقافي، وهذا النقد الجديد يُعنى بما وراء النص ودلالاته، من جذوره ونشأته، إلى انعكاساته وآثاره، ويتجاهل جمالياته البنائية التي يختص بها النقد الأدبي.




لذلك فالكتاب تحليل لأنساق هذه النصوص الثقافية: لماذا نشأت هذه النصوص بهذه الرؤى، وحملت هذه الدلالات الثقافية؟ كيف انعكست على المجتمع ثقافيًا وأثارته؟
وهذه الروايات الست التي انتخبتها كانت من وجهة نظري، بعد استقراء، هي الأنسب لقراءة الظاهرة الثقافية في كل مجتمع خليجي، والأكثر صخبًا ثقافيًا حينها، وما أثارته من ردود فعل ثقافية، وبالتالي استطاعت الدراسة رصد الظاهرة الثقافية بمفهومها الواسع، عبر هذه النصوص.

(*) ما أهم ما خلصت إليه الدراسة؟
خلصت الدراسة حينها (كتبت عام 2014) إلى أن المجتمع الخليجي، تبعًا لاضطرابه بين الموروث والتطور المادي، يعيش حالة من التحول والتمرد على السلطة الثقافية (الدينية والمجتمعية)، وتنبأت الدراسة بأنه سيشهد تغيرًا قادمًا، وهو ما يحدث الآن. هناك انفتاح ثقافي ومعرفي واجتماعي مهم، وتطور في الثقافة والوعي. من جهة أخرى، هنالك تململ لقبضة السلطة الدينية، وسينتج عن هذا التداخل وعي جديد بثقافة أوسع وأكثر إبداعًا.

(*) أين هي الرواية الخليجية التي تُكتب اليوم؟
حاضرة بشكل لافت عربيًا. وتكاد تكون الرواية في الخليج، في السعودية على وجه الخصوص، الأكثر تدفقًا واهتمامًا مجتمعيًا الآن، مقابل الرواية في مصر، أو دول المغرب العربي.
ولعل الرواية الخليجية مهدت لهذا التحول الثقافي المهم الذي يجري الآن. لقد كانت الوعاء التعبيري الذي رصد الحالة الثقافية المقموعة من قبل، وكانت المحرض على الوعي والتمرد على الانغلاق والقمع الثقافي. ودورها الثقافي في الخليج يكاد يكون الأهم من بين كل الأدوار الثقافية والسياسية في التحول الثقافي والمجتمعي، تشبه بذلك دور الرواية والفنون في التنشئة والتمهيد للثورة الفرنسية الأثيرة، مثل نصوص "حلاق إشبيلية"، و"زواج فيغارو" الشهيرين.

(*) لنتحدث عن الرواية اليمنية، ألا تتفق أنها شهدت في الآونة الأخيرة نقلة لافتة، من حيث العدد، وانتشارها بلغات أخرى أيضًا... كيف نقرأ هذه الطفرة في ضوء مجريات الحرب، أو بعيدًا عنها؟ وماذا عن المستوى الفني لما يُكتب اليوم بهذا الزخم؟
تلقى الرواية عالميًا وعربيًا اهتماما جيدًا الآن، ساعد في ذلك كثير عوامل، منها وسائل التكنولوجيا التي يسرت استمتاع الإنسان بالحكي والسرد بطرق أمتع... ولأنها فن شهي، والإنسان في العموم مولع بالحكاية؛ ذاعت الرواية الآن، وسهل إنتاجها، وصار العالم منفتحًا على بعضه، فيتأثر هذا بذاك... ومنه الرواية التي يتجه الشباب الآن لكتابتها، شغفًا وتقليدًا، ولأجل الحضور أو التميز الذاتي أو المساهمة في الفعل الثقافي.
في اليمن أنتجت في السنوات العشر الأخيرة روايات أزيد مما أنتج في السنوات الخمسين السابقة. هنالك اهتمام بالرواية، وهنالك جوائز ومكانة، وهنالك نقد وجه العقل والذائقة نحو الرواية، كل ذلك حرض الجيل على الكتابة، وهذا أمر جيد.
لكن على المستوى الفني والموضوعي، ما تزال الرواية اليمنية ضعيفة فنيًا وتقنيًا، وكثير من النصوص السردية التي تصدر رديئة في الأداء السردي وممكناته.
وما تزال الرواية اليمنية ـ مع تميز لبعض النماذج القليلة ـ في مرحلة النشوء والتحول. ولكي تنضج وتتمدد تحتاج ويحتاج هذا الجيل لجرعات نقدية عالية، وحضور أعمق وأوعى للنقد، واطلاع واسع وتلاقح من المشتغلين بها مع عالم الرواية المبدع في كل العالم.

(*) كيف يبدو السرد النسوي في اليمن، وهل وجد مكانًا له في ظل الهيمنة الذكورية.. وما مستقبله؟
السرد النسوي في اليمن كان مفقودًا إلى زمن قريب، ثم بدأ خجولًا، وها هو الآن يحضر ويتمرد على السلطة الذكورية وثقافتها. هنالك أصوات نسوية مبدعة، لكنها ضمن المشهد الإبداعي والسردي اليمني لا تزال في مرحلة التكون والنشوء والبداءة الفنية.
هنالك رغبة في قراءة السرد النسوي من فئات المجتمع والانفتاح عليه، لأسباب مختلفة، لكنه إقبال جيد بالعموم، بيد أنه ينقص السرد النسوي اليمني ومبدعاته، ومن يبدعه من الذكور ـ لأن النسوي في الإبداع لا تعني النوع البيولوجي بقدر ما تعني الموضوع والفكرة ـ ينقصه إجادة التقاط القضية والفكرة والحدث، لدى المجتمع اليمني ومجتمع المرأة. هنالك آلاف القضايا التي يمكن أن يتناولها الإبداع الروائي وينتجها سرديًا، آلاف المشاهد والوقائع والعادات التي يمكن أن يترجمها السرد، لكنْ هنالك عجز في التنقيب عنها وإصدارها فنيًا.



كما ينقص السرد النسوي فنية الخطاب، وبراعة التوجيه ومركزية الرؤية. لا يزال السرد النسوي ينافس الذكوري على قضايا مشاعة وأساليب مستهلكة، وفي إمكان السرد النسوي أن يتفوق على قرينه السرد العام بمراحل كبيرة، لكنه في حاجة لاطلاع أوسع من المبدعة/ المبدع، والتسلح بثقافة سردية عالية، واسترشاد كثيف بالنقد، وهذه مشكلة المبدعين الآن، يشعرون أن النقد غريم وخصم لهم، وأن عليه أن يمدحهم وحسب، أو يتجنبوه، بينما النقد هو الميزان العادل والمرشد النبيه والقاضي النزيه لنجاة النص وبراءته الفنية والعلمية.

النقد الثقافي
(*) ماذا عن النقد الثقافي في اليمن، وفي المحيط العربي، أين حضوره وما مستقبله؟
النقد الثقافي في العموم جديد الحضور، نشأ في تسعينيات القرن الماضي، ومن رواده ليتش الأميركي، وخلاصته أنه يذهب إلى أبعاد النص ودلالاته ويدرسها من مختلف الجهات، بالاشتراك مع العلوم المختلفة، من علم النفس، حتى الرياضيات البحتة.
بينما النقد الأدبي مجاله جماليات النص ولغته وإيقاعه وصوره وأساليبه.
والنقد الثقافي يتفوق على الأدبي بأنه يحتوي أي نص، الجيد والرديء، النزيه والقبيح، الشعبي والنخبوي، القصيدة الفصحى والنكتة العامية... لأنه يرى في كل هذه النصوص، بصرف النظر عن شكلها، إنتاجًا ثقافيًا له دلالة، أنتجته فكرة ثقافية وجذر ثقافي، ويريد هذا النص أن يعبر عن ظاهرة ثقافية، وهنا تأتي مهمة النقد الثقافي في رصد هذا الجذر وتلك الغاية، وتحليلها ثقافيًا بعمق منهجي.
في اليمن، يكاد النقد الثقافي ينعدم، أو لم يحضر حتى الآن كما ينبغي، حسبما اطلعت، ولعل كتابنا "في الرواية الخليجية" يكاد يكون من أوائل الدراسات الثقافية حول الفن الروائي عربيًا، لكنه للأسف لم يتطرق للثقافة والابداع في اليمن.
على أني بدأت في محاولة لقراءة بعض الظواهر الثقافية اليمنية من وجهة نظر النقد الثقافي، وأنشأت سلسلة بعنوان "دوائر التخلف اليمني"، بدأت أولى مقالاتها بعنوان "الآباء العصاة"، أو سوسيولوجيا الأبوة المعيقة، وهو نقد لنصوص تقديس الأبوة في المجتمع اليمني، الأبوة المعطلة التي تتخذ من الإبن مجرد خادم لها، في دائرة لا تنتهي من تبادل الأدوار.
لم أكمل هذه السلسلة بعد، وربما يشملها كتاب مقبل.
وفي العموم؛ يحتاج مجتمع محافظ مثخن بالعادات والظواهر الثقافية والدينية والعادات والقبيلة والعاطفة كاليمن لحضور كبير وعميق للنقد الثقافي، لأن هذا مجاله الخصب، لمعالجة كل هذا الكم الهائل من الظواهر السلبية، أو إبراز الإيجابية منها.
ومثل اليمن عربيًا، لا يزال النقد الثقافي يحبو، باستثناء حضور معين في السعودية، والشام، ودول المغرب العربي، ومصر.
والنقد الثقافي ذاته يحتاج تطورًا عربيًا، لأنه في الأساس منتج غربي، وإذا ما تطور عربيًا بما يلائم، ونضجت مجالاته ومساراته، وتعمقت أدواته واشتغالاته؛ سنصير إلى نقد مهم وفاعل سيؤثر في الوعي العربي، والثقافة العربية، ويمنح المجتمع بصيرة أوعى وأدرك.

(*) "في محيطه السكنيّ، لا يعرف أحدًا، لا يسلِّم على أحدٍ، وليس بحاجة إلى محادثة أحد، وحدها حواسيبه وأجهزته التي ترتعش بين يديه كل حين، كان واقفًا أو جالسًا أو مارًا بالطريق، من تستنفد طاقته الاجتماعية"، ذاك هو بطل قصة "like"، من مجموعتك القصصية "وشاية الليلك" (جائزة الشارقة للإبداع ـ 2013)... زمن كتابة هذه القصص كان مبكرًا جدًا على ما نحن في خضمّه الآن، وهنا نسأل: بحسب متابعاتك وقراءاتك، كيف ينعكس تفاعل الأدباء العرب الآن مع المنصات والحياة الجديدة (التي تخطت مسألة الافتراضية: الافتراض صار واقعًا) في سياقات إبداعية يكتبونها؟
يتردد الإبداع كثيرًا في مجاراة الحياة وتطوراتها، ويظل يرتقب، لكنه يسير على الأنماط التقليدية، ذلك لأن الإبداع في بعض جوانبه السلبية يُؤخذ بالتلقي والتتلمذ، ولذلك يلتفت المبدع إلى رواده، من دون أن يقتحم مستقبله هو.
ولعلنا نلحظ كيف أن الحركات التجديدية في كل فن إبداعي تولد بصعوبة، وتظل غريبة زمنًا طويلًا.
من ذلك أن المبدع يعيش بين خطين؛ تسارع في الحياة من حوله، وتباطؤ في الخط الإبداعي المتأثر به، فيبقى في حالة من ضعف المعالجة للواقع المتطور، ويشعر أن ذائقة المتلقي قد لا تتقبل الجديد، لذلك يَثقل عن إدماج الإبداع بتحولات الحياة.




بيد أنه لا بد من إجادة التحول، والبراعة فيه، حتى لا يصير مثل كثير من تطورات الحداثة التي تحولت إلى فنون مغلقة الفهم، مبهمة المعنى، والجيد من يستند إلى الموروث ويبرع في الحديث.

(*) هل تعطلت روح الكائن المتماهي مع الناس من حوله، وهل ينتظرنا اغتراب أكثر فداحةً وانعزالًا؟
تفرض التكنولوجيا والتقانة الحديثة عزلة بين الناس، وإن كانت في ظاهرها أكثر تواصلًا واندماجًا، ففي إمكانك الآن أن تعيش مع صديقك في أقصى الأرض تفاصيل يومه وأنت في مكانك، لكن هذا التواصل الظاهري أورث انعزالًا نفسيًا. القول الشائع أن العالم تحول إلى قرية، لكن هذه القرية الصغيرة أنشأت غربة عميقة.
سابقًا، كان الخيال يؤنس الإنسان في فضائه الخالي، عبر الخيال يمكن أن يتواصل مع أحبابه والعالم البعيد عنه. الآن، ضَعُف الخيال، وصارت الآلة هي الخيال، فضعفت حيلة النفس، وقل سرورها وشغفها، وهذا الانخفاض النفسي يؤدي إلى الضمور والانعزال.
فليس هذا التشابك التكنولوجي، وإن بدا اقترابًا بين البشر أكثر، فإنه خلق متاهات للشرود والغربة أشد قسوة. هنا يأتي دور الإبداع والفنون في منع تحول الحياة إلى مادية صرفة، والإبقاء على حالة الشعور والنشوة والخيال في مستويات جيدة تحمي العقل من التكلس، والنفوس من التحول إلى صخور.
الإبداع هو العلاج لمواجهة المادية والحياة المتسارعة، لكن عليه أن يحضر بشكل أجود وأوسع.

(*) على الصعيد الشخصي، هل ثمة جديد في القصة القصيرة، وهل راودك هاجس الرواية؟
"وشاية الليلك" كانت التجربة الأولى لي في القصة القصيرة والسرد عمومًا، ولأنها نجحت مباشرة، وحصدت جائزة، هذا الأمر تحول عندي بشكل عكسي، إذ من المفترض أن أنتج أكثر، لكن حدث أني اكتفيت. وبقيت في حالة النقد.
ربما أغامر ثانية في اجتراح إبداع جديد، لكن المتهم الأول في التوقف هو النقد، فهو يكبلني بقواعده وصرامته وعمقه، ولا أصعب من أن يكون الإنسان ناقد نفسه، فهو الخصم والحكم في آن، لذلك تتراخى يد الإبداع عن المضي في عمل جديد.

(*) إذا ما تحدثنا عن الأغنية اليمنية، أي جديد يمكننا القول إنها اجترحته الآن مستفيدةً من نافذة التواصل وسرعة الانتشار؟
الصورة المحسنة، والصوت المعالج... فقط، أما التطور على مستوى الكلمة واللحن والأداء، فما ينتشر الآن من غناء هو رديء، وأقل جودة في المجمل من الأصل.
يفترض أن تقفز الأغنية اليمنية تبعًا لهذه التسهيلات التقنية لموقع راقٍ ومتقدم، لكن العناصر الأساسية للنجاح تكاد تكون مفقودة، فالكلمة تفتقر إلى صانعها البديع، صانع الكلمة الراقية الأنيقة، لأن ما يحضر الآن كلمات شعبوية بالنسق المستهلك والرديء ذاته.
كما تفقد الأغنية اللحن المبدع، إذ إن جل ألحان اليوم هي متحولة من لحن أو لحنين تراثيين على الأكثر.
أما الأداء فالتكنولوجيا تجمل القبيح، وإلا فإن أغلب الأصوات ليست مدربة فنيًا، ولا مثقفة موسيقيًا، ولا تجيد النطق والتطريب، أداءات تسترها التقنية، لكنها بلا جودة ذاتية. ولكي تتطور الأغنية اليمنية لا بد لها من هذه العناصر وغيرها، وإلا فإنها ستخفت، وتتحول إلى مستويات شعبوية فقيرة فنيًا.

نزيف الهجرة
(*) في عام 2012، قدمت ورقة عمل ضمن ندوة رعتها الجامعة العربية في تونس العاصمة، تقف فيها على ظاهرة هجرة الشباب من بلدانهم.... الآن، ما مدى اتساع هذا النزيف؟ وفي رأيك، ما الذي ينبغي على العالم أن يفعله؟
كان النزيف محدودًا، صار الآن متسعًا بفعل الجرح العربي الكبير، منذ 2011، والوطن العربي ينزف بلا مدى، وهذه الهجرة الكبيرة للعقول والطاقات أخطر من الحروب التي نشهدها، وأشد ضررًا منها، كما لو أن بيتًا سُرقت منه أثمن موجوداته، يصبح خاويًا. هكذا هي دولنا بفعل الهجرة، هذا الخواء سيتبعه تخلف طويل المدى، وتراجع مخيف، وضمور ثقافي وتنموي لعشرات السنين.
هب أن الإنسان يفقد ذاكرته، أو عقله وصحته... كيف يصير؟ هذا ما نحن عليه بفعل نزيف الكفاءات.

النص الإلكتروني
(*) قبل نحو عقد من الزمن، تحدثت ضمن ملتقيات عربية في القاهرة عن "النص الجديد"، و"النص الإلكتروني"، إلى أين تذهب هذه التفاعلات وما مستقبل الكتابة الورقية والتقليدية في ضوء ذلك؟
كنا نرصد تحول الإبداع، واندماجه مع عصر الآلة، والتفكير المقنن، ونحاول قراءة كيف يبدو عليه النص الإبداعي في ظل ذاك، لكن يبدو أن تسارع التطور التقني لا يمنح الإبداع فرصة لالتقاط أنفاسه.
وقناعتي أن الإبداع سيبقى، يبطئ، أو يسرع، لكنه حالة إنسانية لا تموت. صحيح أن المادية تصرع الخيال، الذي هو أساس الإبداع، لكن على الإبداع أن يوازن بين طاقته التقليدية واستخداماته العصرية، والجودة في الفكرة قبل الأداء، وفي المعنى قبل الصورة. وفي الدلالة قبل اللفظ.
حاولت النصوص الإلكترونية أن تواكب التحول، لكنها تعود إلى النبع غالبًا، أما الكتابة الورقية، فستبقى الأجدى لتفاهمها مع الخيال، قد تختفي الورقة، وتأتي اللوحة الإلكترونية، لكن كلاهما وعاء، وإنما يُعتبر بما يلقى فيهما.

(*) بوصفك كشافًا سابقًا، ثمة مشروع كتاب لك يرصد منهجية ومهارات الحركة الكشفية. هل يقتصر الأمر على اليمن؟
في مرحلة الإعدادية والثانوية، اندمجت في نشاط كشفي متقدم، وتطورت فيه، حتى صرت قائدًا كشفيًا على مستوى العاصمة صنعاء حينها، ولأن النشاط الكشفي عندنا لم يكن مجرد تنظيم للطلاب في الطابور والساحات، بل كان تطويرًا للفرد الكشفي بشكل منهجي، إذ اتخذنا من المناهج الكشفية العالمية عملية تعليمية كاملة، واكتسبنا مهارات، مثل التخييم بكل تفاصيله، والرحلات عالية التدريب بدنيًا وسلوكيًا، والتعامل مع أدوات الطبيعة ومواردها، ومع المخاطر اليومية، حتى التأثير على السلوك الشخصي للفرد وبقائه طوال يومه في أحسن حالات التصرف والاستعداد والإيجابية في كل شؤونه. وحينها كتبت مسوّدات كثيرة كانت عبارة عن محاضرات كشفية منهجية كنت أقدمها عبر الدورات المختلفة والمخيمات الكشفية، وارتأى بعض الزملاء أن أضمنها في كتاب للنفع العام، والحقيقة أني أعددته بشكل شبه نهائي، لكن عجزت عن طباعته حينها، لذلك أسندته إلى الرف.
هذا لم يكن موجهًا للحركة الكشفية اليمنية وحسب، إنما يفيد أي كشاف عربي، وهو خلاصات معينة لكثير من المناهج الكشفية المعتمدة والمتعددة عالميًا.

(*) "النقد والذاكرة... قراءات واتجاهات" كتاب ينتظر النور، أيضًا. حدثنا عنه باختصار؟
أريده أن يجمع شتات ما قدمته من مقاربات نقدية، ومقالات، أو أبحاث قصيرة، فكثيرًا ما يكتب الإنسان ثم يُفاجأ أن مادته هذه ضاعت واقعيًا، أو فقدت على شبكة النت حتى، لذلك آمل أن يكون الكتاب مَجمَعًا لكل هذا النشاط النقدي خلال العشر السنوات الماضية، وما ينضاف إليه مما يليق وينفع. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.