}

عيسى ناصري: تقنية تعدّد الرواة علامة حداثية بالرواية الجديدة

عبد الكريم قادري 29 فبراير 2024
حوارات عيسى ناصري: تقنية تعدّد الرواة علامة حداثية بالرواية الجديدة
عيسى ناصري

 

صدرت مؤخرًا عن دار ضمّة للنشر بالجزائر ودار ميسكلياني بتونس رواية "الفسيفسائي" للكاتب المغربي عيسى ناصري، وهي رواية مشبعة بالحبكة، والمفاجآت، لا يمكن مسك خيوطها دون إتمام قراءتها كلها، إذ تعطي الشعور عند بداية قراءتها بأن الكاتب يتذاكى على القارئ، يتعالى عليه بالمعلومات، يستعرض عضلاته في البناء وهندسة الرواية، يتفرع ولا يبرر تلك الفروع، لكن بمجرد التقدم في القراءة فسيتحول ذلك الشعور إلى إعجاب خالص ومتقدم، من هنا تتضاعف لذّة القراءة وتتعاظم، بالتالي يتم تبرير التفاصيل والمعطيات في سياق أحداث الرواية بشكل سلس ومقنع، فتتفرع الحبكة، وتكبر معها أحاسيس الإثارة والتشويق، خاصة من خلال التقاطعات والالتواءات التي تحدث مع كل فصل، ليتحول فعل "الكتابة" وحضورها في الرواية، إلى بطل في النص، ويصبح الكاتب فيها كموضوع تتناقله الأحداث؛ لتكون الرواية متلاعبة ومتخمة بالمفاجآت، منسوجة بأسلوب، لا هو بسيط فيوقع صاحبها في التساهل، ولا هو صعب يذهب سلاستها وانسيابها، مُصممة بعقل مهندس، ويد بنّاء، وفضول باحث.

استعار الكاتب فيها أدوات المخرج وعدسة المصور وكاتب السيناريو الضليع، فأدخل من خلالها المُتلقي لا إلى عوالم الأدب فقط، بل لفضاءات الفنون والبصريات، فجاءت الرواية في مجملها فسيفساء، مشكّلة من حصى التاريخ والمعرفة والهويات والانتماءات المتعددة.

ومن أجل التقرب أكثر من الرواية وعوالم كاتبها عيسى ناصري كان هذا الحوار:

(*) تنويع الأصوات السردية والإكثار منها في الرواية عادة ما يعكس قصر نفس الروائي، لكن في رواية "الفسيفسائي" محوت هذا الطرح أو عاكسته، لهذا أسألك عن القيمة المعرفية التي يمكن أن يخلقها التعدد السردي في الرواية؟ وكيف اخترت هذا المعطى؟

لا أتفق معك في اعتبار البوليفونيةَ تعكس قصر نفَس الروائي. قِصر النفس متروكٌ للقصّة القصيرة وكتّابها. بالنسبة للرواية فمهما تعدّدت أصوات الرواة وتشظّى السرد فالنفس الطويل يظلّ فارضًا وجوده في النهاية. وتقنية تعدّد الرواة علامة حداثية في الرواية الجديدة التي غدت، بتعبير الناقد حميد الحميداني، عبارة عن لقاء أصواتٍ متعدّدة تتناوب في الحكي وتتبادل أطراف الحديث. وأرى أنّ اعتماد تعدّد الأصوات في الرواية رغم أنّه خيار مُتعِبٌ أحيانًا للروائي وللقارئ على السواء، فهو يُحقّق أغراضًا فنّية منها: أنّه يسعف في الوقوف على التفاصيل المتعلّقة بالشخصيات الساردة ودوافعها النفسية وخلفياتها الفكرية. ثمّ إنّ تجاوز الصّوت الأحادي يساعد على رصد الحدث الواحد من زوايا عدّة بعدسات سرّاد ينقلون الحدث، مستعملينَ ضمير المتكلم، كلًّا من موقعه الزماني والمكاني. علاوة على أنّ هذه البوليفونيّة تشدّ انتباه المتلقي لما يجري في الرواية وتستنفر يقظته كي لا يقع ضحية التباس أو تشويش. وأخيرًا هذا التداخل الصوتي، أراه يعمّق من موضوع الرواية ويثريها. واخترتُه، بالإضافة للأغراض المذكورة، لسبب آخر وهو أنّ التعدد في الأصوات يتماشى مع البناء المتشظّي الذي أخضعتُ له روايتي. فقد قمت بتقطيعها إلى وحدات نصّية متعددة تراصفت وتداخلَتْ وتكاتفت وتخاصرت لتشكيل لوحة "الفسيفسائي". وبالتالي فمنطق التعدد الذي أخضعتُ له المحكي غذّى الطابع الفسيفسائي للرواية وأغناه. 

(*) تحوّلت الكتابة من نشاط محصور بالمؤلف إلى حدث أو فعل متشظٍ في روايتك، لهذا نجد بأن "التهامي" مدير المدرسة يكتب، و"نوال الهناوي" تكتب، و"أريادنا نُوِيل" تكتب، و"جواد الأطلسي" يكتب، ومن هنا تحوّلت رواية "الفسيفسائي" إلى وليمة متنوعة للكتاب، أين عيسى ناصري من كل هذا؟ ومن من الشخصيات يعكسك أو حتى يقترب منك؟ وكيف تفسر هذا التنوع؟

راقني تعبيرك أن جعلتَ من الكتابة وليمة. وماذا يكون السّرد الروائيّ إن لم نراه مأدُبةً يشرفُ عليها كُتّاب وتُعَدّ على شرف كُتّاب، عُزومةً يؤمُّها كلّ من حملَ قلمًا مُجيدًا، حفلًا يُحييه عازفون يوقعون أنغامًا لا تَنشُزُ عن لحن الحكاية ونَهْرِها العظيم؟ رواية "الفسيفسائي" مأدُبة كُتّاب، احتفال أمًّهَ كتبَةٌ عديدون. رواية تَقاسَم تَخييلَها كُتّابٌ أربعة. عيسى ناصري كان خلفَ هؤلاء الأربعة، كان حاضرًا بقلمه، بحُصيّاتِه وبمكعّباتِه، مُسهِمًا في رصف القطع الإبداعية الثلاث، أو الأربع بالأحرى إذا أَضفنا إليها مُلحَقَ الفسيفسائي. كنت هناك، مع هؤلاء الكتّاب، حاضرًا في لغتِهم، في حكيهم، في هواجسهم، في طُموحاتهم وفي إحباطاتهم. حملتُ عنهم القلم، استعرت أقنعتهم، وكتَبت نيابةً عنهم. وبينَما كُنتُ أكتبُهُم، كانوا هم بدورهم يكتُبونَ بعضَهم، ويكتبونَني أيضًا من داخِل سُرودهم. ليجد قارئ "الفسيفسائي" نفسه في نهاية كلّ فصل يتساءل: مَن يَكتُب مَن؟ هذه تقنية ميتاسردية، عُرفَت بتقنية الرواية داخل رواية. أنا جعلتُ روايات داخل بعضها، بعضها في بطن بعض، تمامًا مثل دمية الماتريوشكا الروسية التي تختزن في بطنها دُمًى أُخرى متفاوتةَ الحجم ومختلفةَ الملامح والنّقوش. لقد جعلت كلّ كاتبٍ يخرج، بروايته، من صُلب كاتب آخر، مرتَّبِينَ على هذا النّحو: نوال الهنّاوي تكتُب تُهامي الإسماعيلي في مذكّراتها، وتهامي يكتب أريادنا نويل في مُلحَق الفسيفسائي، وأريادنا تَكتُبُ جواد الأطلسي في ليالي وليلي، وجواد يكتُب الفتى الموري.

التعدد في الذات الكاتِبة له ما يُفسّره ويبرره كاختيار جمالي؛ فهو، من جهة، يتماشى مع الطابع الفسيفسائي لبناء الرواية الذي يقتضي التّعدّد والتفكيك والتشظي. وهذا التعدّد، من جهة أخرى، يدعم خاصّية الميتاسرد التي راهنت عليها الرواية جماليًا، باعتبار الميتاسرد كتابة واعية بذاتها تتخذ من السرد موضوعًا لها. أضِفْ إلى ذلك أنّ تعدّد الكتّاب أسعفني، من جهة ثالثة، على طرق تيمة الكتابة الروائيّة. وهي موضوعة هامّة وغنيّة عالجتها الروايةّ بعُمق؛ فهؤلاء الكتّاب الأربعة طغى عليهم همًّ الكتابة الروائيّة، انشغلوا انشغالًا فنّيًّا بشروط الكتابة الروائيّةّ وجمالياتها. اهتمّوا بتحدّيات الكتابة، وكشفوا السرقات الأدبية ووقفوا على دوافع "كُتّاب الظلّ" النفسية. كما تجلّى طرْق تيمة الكتابة، أيضًا، في تتبّع السّرد لمسار تخلُّق هذه الروايات قبل أن تستوي، فَتُسرق أو تُقدّم للنّشر، ثمّ تُتابَع بعد النشر بالتعليق والمساءلة. ومن ثمّ فتعدّد الذات الكاتبة أسعفني كثيرًا في وضع النصوص الروائية الضمنية في مرايا بعضها، بحيث تُضيء بعضَها، وتستكمل تفاصيل بعضها.

وبخصوص سؤالكم عن أيّ هؤلاء الكتّاب يعكسني أو أيّ الشخصيات هي الأقرب إليّ، فالإجابة يجدها القارئ في نهاية الرواية، حيث ذكرتُ مؤلَّفَينِ من مؤلّفاتي، ونسبتُهُما لاسمٍ مستعارٍ قريبٍ لفظيًّا من اسمي، وذلك لأوهم القارئ بأن هذا المؤلِّف الضمنيّ فيه شيء من المؤلِّف الحقيقي.

 (*) التلاعب بالزمن إحدى السمات الأساسية في الرواية، خاصة وأنها تربط العديد من الحقب ببعضها، خاصة بين الحاضر المرتبك والماضي الذي يمثله العصر الروماني، ومن خلالهما عكست صراع الهوية، بين المستعمر والمستعمر، وما يفرزه هذان المفهومان على العديد من الأصعدة، والسؤال هو التالي: هل تعتقد بأن عملية رفض الآخر المحتل لأبناء الأرض والنظرة لهم بدونية هو أحد أسباب عدم الاندماج بينهما؟ أو أن المشكلة ثقافية وحضارية قبل أن تكون مشكلة عرقية؟

التلاعب بالزّمن في السّرد الروائي يطاول زمن الخطاب، أي زمن التخييل الذي يتصرّف فيه الرّوائي. "الفسيفسائي" أخضعتها لتداخلات زمنيّة بصورة متكرّرة ومتواترة، وذلك انسجامًا مع البنية الفسيفسائية التي شكّلتُ وفقَها النّصّ. إذ عمدتُ إلى تحريفاتٍ زمنية تتراوح بين التسلسل والتضمين (إدخال قصّة في أخرى)، والتناوب بين الاسترجاع والاستباق والتّقطيع. ورغم هذه التحريفات والتداخلات التي قد توقع للوهلة الأولى في التشويش، فإن القارئ سرعان ما ينتظم لديه الزمن، فمع تقدّمه في القراءة لا يجد عسرًا في ترتيب الأزمنة وفكّ تداخلاتها.

هذا عن زمن الخطاب، أمّا بخصوص زمن القصّة (الزمن الذي حدثت فيه القصّة كما حدّده تودوروف)، فقد جمعتُ بين زمن قديم بعيد (القرن الثاني) وزمنٍ حديث قريب (تسعينيات القرن الماضي). وكانت الصعوبة كامنة في مدّ جسرٍ منطقيّ بينهما. جسر يمتدّ لمسافة زمنيّة تقارب ثمانية عشَر قرنا. وكانت الفسيفساء الرومانية هي الجسر الذي ربحت به هذا الرهان. وقلتُ عن هذه الفجوة الزمنية رهانًا لأني لم أجد ولو رواية تاريخية عربية واحدة اقتحمت الماضي الرّوماني بالأرض العربية أو المغاربية لترسو بأحداثها وأبطالها على مشارف القرن الميلاديّ الأول أو الثاني. وهو عكس ما نجده في روايات غربية كثيرة سافرت بأبطالها إلى عصور ما قبل الميلاد وبُعَيدَه، كروايات: سبّارتاكوس، المعلم ومارغريتا، باراباس، مذكرات هادريان، وغيرها.

هذا الربط الصّعب بين الزّمنيْن، الماضي الروماني والحاضر المرتبِك، كما أسمَيتَه، مكّنني من وضع الإصبع على ثيمات قديمة/ جديدة، ثيمات تشكّل بطبيعتها ثنائياتٍ ضدّية، من قبيل الحرّية والاضطهاد، الانتماء والاستلاب، الوطنيّة والاستعمار، صراع الأنا والآخر، حوار الشّمال والجنوب، ولقاء ثقافة الداخل بثقافة الخارج. هذه الثنائيات الموضوعاتيّة تجسِّد ذلك الصراع القديم الذي دارت رحاه على أرض المغرب (وعلى أراضٍ مغاربيّة أخرى) بين الدّخيل الروماني والمحلّيِّ الموريِّ، وبين المستعمِر الفرنسي والمُستعمَر المغربي. صراع اتّخذ تمظهراتٍ وأبعادًا عرقية وثقافية وهوياتيّة فامتدَّ بتبعاتِه إلى حاضرنا. وهو ما كرّس تلك النظرة الدّونية عند الآخر الذي استعمرنا ولا يزال يستعمرنا بثقافته ولغته واقتصادياته. نظرة دونية ارتبطت بتفوّق استعماري وتقدّم حضاريّ كاسح. وأرى هذا التفوّق التاريخي والحضاري، إن لم يَكن عُقدة تفوُّق، لا يمنع أبدًا من إقامة حوار حضاريٍّ بين الشّمال والجنوب، وتحقيق اندماج بين ثقاقة الأنا والآخر. وهو ما انتَصرتُ له في الرواية. إذ أعليتُ من صوت التسامح والانفتاح والإندماج. أقمتُ علاقة إنسانية حميمة بينَ موريٍّ ورومانية، ومتّنتُ صداقاتٍ بين أميركيين ومغاربة، وجّهتُ العدالة للقبض على مغربيٍّ أجرم في حقّ كاتبة أميركية، ووقفتُ عند القيمة الحضارية والجمالية للآثار المغربية التي نهبها المستعمر الفرنسي، بدون أن أسقط في شَرَك الإدانة والمحاسبة العقيمة، أو أعزف على وتر الضعينة أو أُأجِّج نار النزاع العرقي الموروث ضدّ الآخر. وفي الأخير رفعتُ من قيمة الكتابة والفنّ باعتبارهما أداة مثلى لإعلاء صوت التسامح وإقامة هذا الحوار والاندماج.  
  


(*) لماذا ذهبت صوب الشخصيات "المُثقفة" في روايتك، وهل للأمر علاقة بك وبمرجعيتك كمثقف، أو أن الخيار لا يعدو
أن يكون مجرد اختيار فني؟

استدعاء شّخصيات مثقّفة فرضته عليّ ثيمة الكتابة التي شغلت مساحة هامّة في الرواية. وظّفتُ هذه الشخصيات لتَطرق هذه الموضوعة. وظّفتُها لتُسهم، مِن مواقِعها، في تنمية الأحداث والسير بها في الاتجاه الذي يخدم حبكة الرواية ورهانها الفنّي والجمالي. أمامك هنا شخصيّات تقرأ، وأخرى تنخرط في تسويد رواياتٍ. هؤلاء يحكون رحلتهم الشاقة في عوالم الكتابة، يأتون على دوافع الكتابة وحيثياتِها وهوَسِها وتحدياتها ولعنتِها أيضًا. يستعرضون عناوينَ وقراءاتٍ، وينقدون نُصوصا ويستدعون سِيَر كُتّابها. يلتفتون إلى الآداب والتاريخ والفنون ليدلوا بآرائهم فيها ويعربوا عن رُؤاهم وأذواقهم. وهي في المحصّلة رؤيتي وذوقي وآرائي الخاصّة التي أسرّبها على ألسنتهم وعبْر أقلامهم. فجلّ الشخصيات المثقفة في الرواية، إن لم نقل كلّها، تمثلني بشكل أو بآخر، تحمل ثقافتي وذوقي وقراءاتي وتعكسها. إذًا فاختيارها اختيار وظيفي لخدمة البناء الفنّي للرواية، وفي الآن ذاته هو اختيار لا يخلو من وَعي بقدرة الشخصية الروائية على ترجمة ثقافة الكاتب ورؤيته للعالم.

(*) قمت في روايتك بتفكيك وتركيبٍ لعديد من علاقات "الحب"، مثل علاقة جواد بسعاد، وعلاقة تُهامي وزهرة، وعلاقة أيدمون وسيلينا، وكأنك تريد أن تقول بأننا بحاجة إلى الحب لنستمر، هل تعتقد بأن المجتمع العربي أو القارئ العربي ما زال يهتم بفكرة الحب والعلاقات بين المرأة والرجل؟ وهل ما زلنا ننظر للحب كخطيئة يجب معاقبة أصحابها؟

ما دامت الرواية مشغولة بالحياة، والحبّ أحد مكوّنات هذه الحياة وأحد أهمّ مقوّماتها، فإنّه سيحضُر بقوّة في الرواية، وإن حدث وغابَ فسيكون غيابه دليلًا عليه. في ثقافتنا العربية تبوَّأ جنسان أدبيان مقدّمة الفنون في التعبير عن الحبّ هما الشعر والسّرد. الغزل أخذ حصّة الأسد في الشعر العربي، والسّرد الروائي حذا حذْو الشعر في الاحتفاء بالحبّ. حضَر الحبّ بوفرة في جنس الرواية إلى حدّ يمكننا القول إنّ أيّ رواية عربية لا تكاد تخلو من الحبّ بأنواعه رومانسيًّا كان أو عذريًّا أو حتّى صوفيًّا. وحضوره في الرواية علامة على أهمّيته وقوّة فعّاليته وتأثيره. أنا بدوري احتفيتُ به في "الفسيفسائي". شغّلته محرّكًا للحياة والسرد. كانت شخصياتي بحاجة إليه لتستمرّ في اجتراح حيواتِها؛ فمن أجل الحب وبسببه صار أيدمون فسيفسائيًّا، وبسبب غياب الحب أو موتِه غامت سماء تهامي و"ذَبُلَتْ" زهرة واغتربت سعاد في وحدَتِها وعانَقت أريادنا لعنَة الكتابة بديلًا وتعويضًا. وهذا الاحتفاء بالحب في الرواية له ما يبرّره على مستوى التلقّي، فما من مؤلِّف قديم أو حديث تطلّع إلى التأليف في الحبّ إلا وهو يطمح إلى اكتساب أكبر قدر من القرّاء، إذ يعرف، عن سبْق وَعيٍ ويقينٍ، ما للحبّ من منزلة في النفوس وتأثير في الشعور واللاشعور. القارئ العربي يبحث عن الحبّ فيما يُكتَب من روايات. والحبّ، فكرةً وشعورًا، أرّقَ هذا القارئ لردح طويل من الزمن، ولا يزال. القارئ العربي ما زال بحاجة إلى المزيد من الحبّ فيما يَقرأ، حتى يستطيع الخروج، بقلبٍ سليمٍ، إلى عالم سريع سلَّعَ العاطفة وميّعَ المشاعر، عالم محموم تحكمه المادّة. أما عن إمكان النظر إلى الحبّ كخطيئة، فلا أعتقد، ونحن في زمن الحرّيات والحقوق والانفتاح، أنّ هناك من لا يزال ينظر إلى هذه العاطفة الإنسانية النبيلة كخطيئة تستوجب الإدانة والعقاب، حتّى الجماعات الأكثر محافظة، غدتْ تحتفي بالحبّ وتحتفل به، وتُظهره في أرقى وأنبل صُوَره، تمجّد وفاء المحبّين، وتدعو إلى اعتناق دين الحبّ والإخلاص فيه.

(*) تحتفي روايتك بشكل أساسي بفن "الفسيفساء" وقد قدّمت الادوات المعرفية والفنية لتقدم هذا الفن بشكل جمالي، أي أعدت إحياء قيمته الكبيرة المغيّبة في العصر الحديث، في رأيك ما هي الأسباب وراء اختفاء هذا الفن الذي صنع مجد العديد من الحضارات لقرون؟ وهل يمكن إحياؤه من جديد؟

فنّ الفسيفساء لم يختفِ. لا زالت أوراش الفسيفساء بالمغرب، وفي الجزائر، وفي سورية وفي دول عربيّة أخرى، تعتني بفنّ فسيفساء المكعبات القديمة وتحافظ عليه. إذ ثمة محلّاتٌ يعرض فيها فنّانون حِرفيّون لوحاتٍ بديعة تحاكي الفسيفساء الرومانية. وثمة أوراش ومُحترَفات أخرى في بلدان المغرب العربي تعكف على ترميم الفسيفساء الرومانية القديمة بشمال أفريقيا. وأشير هنا إلى أن ثمّة فسيفساء مغربية استبدَلتِ الحصيّاتِ والمكعبات بقطع "الزلّيج البلدي". في الرواية جعلت "تهامي" يمتهن هذه الفسيفساء المغربية "البلْدية" المستحدثة، فجاءت على لسانه تفاصيلُ هذه الصّنعة التي تبدأ باختيار نوعيّة الصّلصال، مرورًا بعجْنه، وتجْفيفه، وصبْغه، وحرقه في الأفران، وصولًا إلى تقطيعه على شكل مثلّثات صغيرة أو مربّعات أو سداسيّات تُصفّف على قوالب لتشكيل تُحفٍ فنّيّةٍ تزيَّن بها الجدران والأرضيات. وكنتُ مُدركًا أنه لا يمكن أن أتحدّث عن فسيفساء المكعّبات الرومانية القديمة دون أن أقابلها بالفسيفساء المغربية المستحدثة. وفي المحصِّلة، كإجابة عن السؤال الأخير، أرى فسيفساء الزليج المغربية تُمثِّل تطويرًا بل تجاوُزًا لفسيفساء المكعّبات القديمة.

(*) القالب أو الشكل الفني المختلف للرواية أحد العناصر الأساسية في بناء الرواية الجيدة، هل تعتقد بأن المدونة الروائية بحاجة إلى أشكال بناء جديدة أو عليها الالتزام بالعناصر القديمة؟ وكيف ينظر النقاد العرب لهذا المعطى؟ وهل يساهم هذا الأمر في قلب الموازين في المسابقات الأدبية؟

الرواية العربية اليوم تواصل بحثها عن قوالب جديدة قادرة على استيعاب أحداث مستجدّة وتجارب إنسانية مؤثرة. غير أنّ هذه العناية بالشّكل كما أراها، ويراها النقاد، لا ينبغي أن تكون هدفًا بحدّ ذاته، بل من اللازم أن يكون القالَب مَرِنًا وملائمًا للمضمون الفكري والقيمي الذي تحمله الرواية. في "الفسيفسائي" مثلًا، عمدتُ إلى كسْرِ البنية التقليدية وتجاوُزِها إلى نصّ سردي يتّسم بالتعدّدية والتّشظّي والتشابك الحدثي والتداخلات والقفزات الزمنية. إذ أردتُ أن أعكس بمنطق التّشتّت هذا واقعًا انهارت فيه المضامين الإنسانية الكبرى وتفكّكت فيه المعاني السامية. أردتُ أن أعكس التشتّت الجماعي وأعبِّر عن التشظّي الذي طاول منظومة القيم، وأصوِّر تلك الهشاشة التي طاولت العلاقات الاجتماعية والإنسانيّة التي ما تفتأ تؤول في نهايتها إلى الشّات والتّيه والضّياع.

ومن المؤكد أن لجان المسابقات الأدبية لا تغفل عن معطى الشكل الجديد في ترجيح الكفة لنصوص على أخرى.

(*) ما هي العناصر الضرورية التي يمكن توفيرها لكتابة رواية جيدة؟ وما هي أهم المنطلقات حسب تجربتك الشخصية في الكتابة/ لدخول عالم كتابة الرواية برأس مرفوع؟

أعتقد أن الكتابة الروائية الجيّدة اليوم هي التي تتوسّل بجمالياتٍ قائمة على تقويض الشكل التقليدي بقوانين عملٍ ووسائل فنّية جديدة أكثر استجابة لتناقضات الواقع وأكثر تمثيلًا لجماليات الحياة المعاصرة. ولتحقيق ذلك أرى أهمّ منطلق في الكتابة هو الأرضيّة القرائية الغنية التي تأخذ من كل مجالٍ معرفي بسهمٍ. مع الانفتاح على المنجز الروائي العربي والعالمي والإفادة من تَقاناتِه. إضافة إلى الاشتغال الجادّ والدؤوب على فكرة الرواية ودراسة أبعادها. ثمّ مراعاة القارئ واستحضاره فيما نكتُب. في الرواية سأل تُهامي أريادنا عن سرّ نجاح روايتَيها فأجابت: "السرّ في اعتقادي، هو أنّني أتخيّلني قارئةً وأنا أكتُب. إذ أضع نصب عينيّ قارئًا ذكيًا مغرمًا بالمتعة، وأحرص على أن أكتُب له وليس لي". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.