}

في حاجتنا إلى فرانز فانون ومواقفه

عبد الكريم قادري 19 أبريل 2024
آراء في حاجتنا إلى فرانز فانون ومواقفه
يعطي فانون للقارئ مهما كان لون بشرته مفاتيح فهم
يعيش العالم حاليًا لحظات صعبة ومعقدة، وغاية في السواد، بعد أن أفرطت بعض الدول العظمى ـ ومن تستظل تحت سياساتها ـ في الظلم والقهر، والدوس على حقوق الشعوب، خدمة لمصالحها وتحقيقًا لمآربها الاستراتيجية. وانطلاقًا من هذا المُعطى المهم، تم سحق بلدان، وإحياء ودعم أخرى، لتنكشف "أقنعتها البيضاء" التي كانت تظهر بها أمام العالم خدمة لحفلاتها التنكرية، كداعمة لحقوق الإنسان، والمساواة والعدل بين الشعوب، وحق الفرد في تحقيق مصيره، وحرية الرأي، وغيرها من الشعارات الرنّانة التي أزاحت بها أنظمة، وأقامت بها واجهات سياسية.
كل تلك التمثيليات المفضوحة انكشفت بوضوح، وأظهرت ازدواجية معاييرها، بعد الهجوم الهمجي وحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وتحديدًا على قطاع غزة، الذي تحول لأكبر كتلة ركام، تختبئ تحتها أعداد غير محدودة من الجثث، يعود أكثرها للأطفال والنساء والشيوخ، ممن يحق لهم العيش على أرضهم بسلام، أو الموت والدفن تحت ترابها بكرامة، ورغم أحقية كل إنسان بهذا، غير أن المُحتل لم يحققه، وذهب أكثر من ذلك، بعد أن ترك الجثث تتحلل، وعمل على إخراج أخرى من تحت التراب، ليُحولها إلى وليمة للقطط والنسور والكلاب الضالة.
حدث كل هذا وغيره أمام العالم "المتحضر"، الذي بات يحمي، وبشكل واضح لا شك فيه، ذلك المحتل الغاشم، ويدعمه بالأسلحة والإعلام والتغطية، رغم اعتدائه على القانون الدولي مرات لا تحصى، حتى أنه استعمل الجوع كسلاح استراتيجي، ووسيلة حرب رخيصة، لهذا وجب على العالم، وخاصة الشعوب المقهورة، في هذا الزمن الذي تغيرت معطياته وذابت قيمه، استدعاء الفكر اليساري وإحياءه من جديد، خاصة الذي صدر من عقول كبرت وتربت وانتمت للغرب نفسه، لأن أصحابها فهموا تركيبة العقل الكولونيالي بطريقة جيدة، لهذا كتبوا ونظّروا وناضلوا ووقفوا في وجهه الآلة الاستعمارية، مثل المفكر والمناضل والكاتب والطبيب النفسي فرانز فانون (1925 ــ 1961)، الذي فهم "العقل الغربي الاستعماري" بطريقة جيدة، لهذا أرسى عددًا من التوجهات، وألف كتبًا سمحت له بتكوين مقاربة مهمة حوله تفيد بضرورة مقاومته والوقوف في وجهه بكل الوسائل، خاصة إذا احتل الأرض، واستباح العرض، وحوّل مؤشر الحقائق صوب وجهات متعددة، ليغطي على جرائمه وفظائعه، وبرك الدماء التي أسالها.

المُستعمِر والمُستعمَر: المنطلق الفكري عند فانون
استحضر فرانز فانون منذ بداية مساره الفكري والنضالي ثنائية "المُستعمِر والمُستعمَر"، حيث استطاع أن يفكك هذا المفهوم إلى أجزاء، وكل جزء يؤدي بالضرورة إلى عملية فهم منطلقات العقل الكولونيالي، خاصة أن فرانز فانون، صاحب البشرة السوداء، اقترب جدًا من المجتمع الفرنسي، الذي يمثل أحد أقطاب الاستعمار الحديث. سمح له هذا الاقتراب، أو الإحتكاك المباشر، بأن يستوعب أحد أقسى مظاهر الظلم والقهر والحيف، وهو العنصرية، أحد منطلقات المُستعمِر، وقد تعددت أركان هذه النظرة الدونية، ليس لتفوق أو لذكاء، أو حتى لإجادة مهارة ما، بل لأنه يملك "بشرة سوداء"، وهو أمر لم يكن طرفًا فيه.




إذ لم يكن ذنبه بأنه ولد بتلك البشرة، والآخر أيضًا لم يكن يملك أي سلطة على بشرته البيضاء التي ولد بها، ولقد استوعب فانون هذا المنطلق القاسي بعد انخراطه في المقاومة الفرنسية عام 1943، وجابه معهم الجيش الألماني الذي احتل فرنسا، وهو القادم من أحد جزر المارتينيك التي ولد فيها، وهي إحدى المستعمرات الفرنسية، وقد جرح في هذه الحرب، وتمت مجازاته، ونال منحة ليدرس في إحدى جامعات ليون، وهناك تحصل على دكتوراة في علم النفس، لكن في تلك المرحلة الفارقة استطاع أن يفهم العقل العنصري لفرنسا، وعليه ألف كتابه "بشرة سوداء/ أقنعة بيضاء" عام 1952، وسرد فيه مظاهر تلك العنصرية من منطلق ذاتي، وكان من المفروض أن يكون ذلك الكتاب المفصلي مذكرة تخرج لنيل شهادة عليا، لكن تم رفض المشروع، نظرًا لموضوعه الحساس الذي عرّى المُستعمِر، وذهب إلى عقله الأسود الذي يداريه بـ"أقنعته البيضاء".

نقل جثمان فرانز فانون من تونس إلى الجزائر بعد استقلالها

وقد صار هذا الكتاب أحد المراجع المهمة التي يتم الاقتباس منها والاستدلال بها في عدد من الخطابات المهمة لزعماء ومنظرين ومناضلين في كل بقاع العالم، خاصة اذا ما تعلق الأمر بمظاهر العنصرية ومخلفاتها على البشر، وما يتعرض له صاحب البشرة السوداء في كل البلدان الغربية، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية التي تملك تاريخًا أسود في هذا المجال، خاصة أن فانون اعتمد على مرجعيته وثقافته الأكاديمية التي أعطته أدوات علمية مكّنته من فهم عدد من المعطيات والظواهر غير العقلانية، من بينها "العنصرية" التي يرى بأنها سلوك غير عقلاني، لهذا حاصرها بالحجج العلمية، ومرجعيات التحليل النفسي، وقدم رؤيته للقارئ بشكل عقلاني مدجج بالحجج الفلسفية. وربما يكون فانون أفضل من تحدث عن كتابه هذا من خلال المقدمة التي وردت فيه بقوله: "هذا الكتاب هو دراسة عيادية، سريرية، وأعتقد أن الذين سيتعرفون فيه على أنفسهم، سيخطون خطوةً إلى الأمام، فأنا أرغب حقًا في أن أقود أخي، الأسود أو الأبيض، إلى أن يُمزِّق بقوة العباءة البالية التي نسجتها عصور عدم الفهم والتّفاهُم".
وكأنه من خلال هذه الكلمات القوية يعطي فانون للقارئ، مهما كان لون بشرته، وانتماؤه، مفاتيح فهم، ليتلقى من خلالها بعض المعطيات التي ربما لم يتعود عليها، ولتأكيد هذا يضيف قائلًا: "تنكب الفصول الثلاثة الأولى على الزنجي الحديث، فأنا أتناول الأسود الرَّاهن، وأحاول تعيين مواقفه في العالم الأبيض، سوف أخصص الفصلين الأخيرين لمحاولة تقديم تفسير من خلال علم النفس المرضي، والفلسفة، لفعل الوجود لدى الزنجي، ويمتاز التحليل بأنه استرجاعي بنحو خاص، فالفصلان الرابع والخامس يقعان على مستوى مختلف جوهريًا".




ويضيف فانون: "سنرى في سياق هذا الكتاب تبلور محاولة لفهم علاقة الأبيض بالأسود، فالأبيض منغلق في بياضه، والأسود منحبس في سواده، ثمّة واقع هو أنَّ بعض البيض يرون أنفسهم متفوِّقين على السود، وثمّة أمر واقع أيضًا هو أن السود يُريدون أن يُظهِروا للبيض، مهما كلَّف الأمر، غِنى فكرهم وتساوي قدرتهم الرُّوحية". 

معذبو الأرض... معذبو غزة
برز في النصف الثاني من القرن العشرين عدد من الأسماء المهمة المحسوبة على اليسار، خاصة من الكتاب والمفكرين، وقد أعطوا أسماءهم وأصواتهم للشعوب المقهورة، ووقفوا ضد دولهم الاستعمارية وهيمنتها، من بينهم المفكر الفرنسي جان بول سارتر (1905 ــ 1980) الذي لم يتوانَ لحظة واحدة عن دعم استقلال عدد من البلدان المُستعمَرة، وكان شوكة قوية دعمت المناضلين واليساريين في معظم دول العالم، وقد جاء ذكر هذا الفيلسوف العظيم والتنويه بثوريته بسبب علاقته بفرانز فانون من جهة، ومن جهة ثانية لأنه كتب مقدمة رزينة وعميقة ومميزة ولاذعة لكتاب "معذبو الأرض" الذي نشر أول مرة عام 1961، وقد كتبه فانون وهو على فراش الموت، بسبب مرض سرطان الدم الذي ألم به وجعله يرحل في أوج شبابه وعطائه، وقد تحول ذلك الكتاب إلى تميمة يتم تعليقها على رقبة كل مناضل في أي زمان ومكان وعلى أي رقعة جغرافية، لأنه قدّم فهمًا واضحًا للعلاقة التي تجمع بين "المُستعمِر والمُستعمَر"، وكشف عن أنياب البلدان التوسعية والمهيمنة التي لا تقتات سوى من أراضي الآخرين وجراحهم وخيراتهم وحتى أنفاسهم.
ومما جاء في مقدمة سارتر: "ليس للمستوطن المستعمِر إلا ملجأ واحدًا يتمثّل في القوة، حين يفقد الأمل، وليس للساكن الأصلي إلا أن يختار بين العبودية والسيادة... إنّ العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين فحسب، وإنما يحاول أن يجرّدهم من إنسانيتهم، لذلك لن يدخر جهدًا من أجل أن يقضي على تقاليدهم، ومن أجل أن تحلّ لغتنا (الفرنسية) محل لغاتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافاتهم بدون أن يعطيهم ثقافتنا، لن يملّ من إرهاقهم نفسيًا".

فانون رفقة أمحمد يزيد، أحد أبرز قادة الثورة الجزائرية، في مؤتمر أفريقي في الكونغو عام 1960

جاءت لغة سارتر حماسية ولاذعة، تماشيًا مع لغة الكتاب وموضوعه المختلف، ويضيف سارتر: "فإذا ظلوا يقاومون رغم الجوع والمرض، يلجؤون إلى سلاح التخويف لإنجاز المهمة: سوف تصوب بنادقهم نحو الفلاح، ويأتي مدنيون فيستقرّون على أرضه، ويكرهونه بالسياط على زرعها لهم، فإذا قاوم أطلق الجنود النار، فأصبح ميتًا، وإذا خضع انهار ولم يعد إنسانًا، لسوف يمزق العار والخوف روحه، ويحطمان كيانه، كلّ ذلك سيتمّ تحقيقه على أيدي خبراء اختصاصيين".  
وكأن سارتر في هذه المقدمة يقصد بشكل واضح ما يحدث حاليًا في غزة، أمام آلة الدمار من أجل إخضاع شعب يبحث عن حريته وأرضه المسلوبة، ورغم موقف سارتر الضبابي من قضية فلسطين غير أنه لم يعارض قيام دولة فلسطين، لكن المنطلق الفلسفي للمقدمة يدعم التوجه التحريري وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ليكون كتاب فانون من بين أبرز وأعمق الكتب التي فسّرت وفككت وفهمت العلاقة بين "المُستعمِر والمُستعمَر"، خاصة أن الأفكار التي جاءت في الكتاب ولدت من المسار الشخصي والتجارب العملية التي خاضها فانون شخصيًا، بداية من دفاعه عن فرنسا في الحرب العالمية الثانية، حيث تم تقسيم الجيش بين السود والبيض، والتعامل معهم بدونية، وعدم إعطائهم نفس الحقوق والواجبات، إضافة إلى عمله كطبيب نفسي في مصحة في مدينة البلدية بالجزائر في الفترة الاستعمارية، وهناك وقف عن قرب على الحالات المرضية التي ولدها المستعمر الفرنسي، ليترك عمله وينضم إلى جبهة التحرير الجزائرية التي كانت تناضل ضد الاستعمار من أجل استقلال الجزائر، وفهم وقتها أن الكفاح المسلح وحده من يحرر الشعوب، لهذا أصبح ممثل الجبهة في عدد من المحافل الدولية، إضافة إلى إشرافه على صحيفة "المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير الوطني، وهناك فهم أبعاد ذلك بعد أن وقف ميدانيًا على أرض النضال، وحقق ما كان ينادي به في كتاباته، ليأتي كتاب "معذبو الأرض" من منطلق هذه التجربة الميدانية والفكرية، وقد وصف الكاتب إيمي سيزير الكتاب بقوله: "إن أعظم كتاب ظهر حتى الآن عن تصفية الاستعمار ومظاهرها ومشاكلها هو كتاب فانون معذبو الأرض".
أحب فرانز فانون أرض الجزائر، لهذا اختار أن يكون مواطنًا جزائريًا، وأوصى بدفنه في الجزائر بعد موته عام 1961، وهذا ما حدث له بالضبط، حين تم استرجاع جثمانه من تونس، ودفنه في منطقة عين الكرمة الحدودية التابعة لولاية الطارف بالجزائر، حيث ما زال يرقد هناك في مقبرة روضة الشهداء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.