}

جوشوا كوهين: "آل نتنياهو" ولدت من سؤال أي تاريخ؟

لودويك فردوين 18 يوليه 2024
حوارات جوشوا كوهين: "آل نتنياهو" ولدت من سؤال أي تاريخ؟
جوشوا كوهين (Getty Images)
ترجمة وتقديم: عماد فؤاد

تقديم
الروائي الأميركي جوشوا كوهين (مواليد 1980) ليس دخيلًا جديدًا على المشهد الحالي للأدب الأميركي، فقد عاش يكتب في الظل لسنوات دون أن يعرفه أحد، ولأنه كاتب طموح، لم يلجأ إلى ورش الكتابة أو الجامعة، بل إلى أوروبا الشرقية، حيث عمل لسنوات كمراسل لصحيفة "جويش ديلي فورورد"، وناقدًا أدبيًا في مجلة "هاربر". ظهرت كتبه الأولى في منتصف التسعينيات، ورغم أنها لم تفتقر إلى الإشادة النقدية، إلا أنها لم تكن كتبًا ناجحة، وكما قال كوهين لصحيفة "نيويورك تايمز": "كنت مفلسًا تمامًا لمدة عشر سنوات، نشرت كتبي لدى دور نشر صغيرة ولم يقرأني أحد".

تغيّر ذلك كلّه بعدما أصدر الناشر الشهير راندوم هاوس رواية جوشوا كوهين "كتاب الأرقام" Book of Numbers عام 2015، والتي تتناول التأثير المتصاعد للإنترنت واقتصاد تكنولوجيا المعلومات على حياة الناس، قفزت الرواية الطموحة والمعقدة بكوهين إلى صدارة المشهد الأدبي، واختارته مجلة Granta  ضمن "أفضل الروائيين الأميركيين الشباب"، وتلقّى الإشادة من الكتَّاب والنقاد بمن فيهم الناقد الشهير هارولد بلوم (1930 - 2019)، والذي أصبح كوهين مُقرّبًا منه، وذات مرة روى بلوم لكوهين عن مناسبة جمعته بالمصادفة مع بنتسيون نتنياهو Benzion Netanyahu (1910 - 2012)، المؤرّخ المثير للجدل والمتخصّص في محاكم التفتيش الإسبانية، ووالد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو.
كانت تلك الحكاية بداية لأن يكتب جوشوا كوهين روايته السادسة "آل نتنياهو" والتي صدرت عام 2021، في البداية رفضت دار راندوم هاوس نشرها لأسباب تجارية، ثم رفضت المخطوطة من قبل 24 ناشرًا آخر في الولايات المتحدة الأميركية كما في بريطانيا وكندا، قبل أن تختارها NYRB، دار النشر الصغيرة التابعة لمجلّة "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، وصدرت الرواية في 2021 لتحتل سريعًا قوائم أفضل المبيعات، ثم تكلّل نجاحها بالحصول على جائزة البوليتزر عام 2022، ما فتح أبواب الترجمة إلى العديد من اللغات أمام أعمال جوشوا كوهين... وبمناسبة ترجمة الرواية إلى الهولندية مؤخرًا، أجرى الناقد الهولندي لودويك فردوين هذا الحوار الموسّع مع الكاتب الأميركي:


(*) لم يفلت ظهور "آل نتنياهو" من العائلة نفسها، فقد انتشرت صورة لبنيامين نتنياهو وهو يحمل نسخة منها، وتردّدت شائعات عن دعاوى قضائية في انتظارك، هل فاجأك الرد السياسي من إسرائيل؟
"السياسي"! هي في النهاية مجرّد رواية وليست إعلان حرب أو هجومًا إرهابيًا؛ لهذا أعتقد أننا نتحدث عن تأثير محدود، ويرجع ذلك جزئيًا إلى المكانة المهضومة للكتاب، أو قل الإهمال الذي ربما يكون مفيدًا، لأنه يتيح لنا ككتَّاب مزيدًا من الحريات، لكنه بالتأكيد إهمال يضمن تجريد تحدّي الكاتب للنظام من مضمونه وتحويله إلى "فضيحة" عابرة، لهذا السبب لا أعرف ما إذا كانت الرواية قد لاقت تجاوبًا سياسيًا بالفعل أم لا، ما أعرفه هو أنها أشبعت لفترة ما نهم المحتوى "الفضائحي" على مواقع السوشيال ميديا والتي تلتهم باستمرار الأخبار المستفزة يوميًا لتجترَّها في اليوم التالي. هل تفاجأت؟ لا أعرف، هذا هو الجواب، بطريقة ما، أنا مندهش من كل شيء ولست مندهشًا لأي شيء، علينا ألّا ننسى أن التأثير السياسي أو الجمالي لعمل أدبي أو فنّي ما، يستغرق وقتًا طويلًا، وخاصة عندما يتعلّق الأمر بالأدب، على الكِتَاب أن "يعيش"، أو بالأحرى على القرّاء أن يتأكّدوا من أن الكتاب يعيش بما يكفي ليتغلغل في الوعي الثقافي للناس، وثانيًا، عندما يتعلّق الأمر بعمل يأتي إلى بلد ما من لغة أخرى، فنحن في الحقيقة نتحدّث عن ظاهرة تؤثّر - أيًّا كان البلد الذي نتحدّث عنه - على بضع عشرات من الناس، وفي البلدان الكبيرة ربما على عدة مئات أو آلاف في أقصى تقدير، يشكّلون طبقة أو مجموعة من القرّاء، وعندما نتحدّث عن بلد صغير مثل إسرائيل، فإن الأمر يتعلّق أساسًا بما إذا كان كتابك قد أثّر على بضع عشرات من الناس في بلد صغير، ومن ثم فإن ردي حول ما إذا كنت قد تفاجأت بأن الرواية بهذا المعنى قد أثرت على عدة عشرات من القرّاء في إسرائيل، فإجابتي هي "لا" بالطبع.

(*) على الرغم من أن "آل نتنياهو" تدور حول عائلة مشهورة وسيئة السمعة في إسرائيل، إلّا أنّها أيضًا رواية عن الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة علاقتها المعقّدة بالماضي، تدور أحداث الرواية عام 1960 تقريبًا، لكن مخاوف شخصياتك بشأن "التحريفية" وزوال "التاريخ الواحد المشترك الذي يمكن الاتفاق عليه استنادًا إلى الحقائق" يمكن أن تكون قد جاءت من سنوات حكم ترامب، ما الذي جعلك تقرّر مقاربة تلك اللحظة الثقافية من منظور تاريخي و"تأريخي" بهذا الشكل؟
ليس لأنني لم أستطع الكتابة مباشرة عن سنوات ترامب، ولكن لأن الكثير من الجدل السياسي يتم اليوم دون الرجوع إلى دروس التاريخ، كأن السياسيين يملكون ذاكرة البعوض، فيتصرف بعضهم كما لو أن التاريخ اختُرع بالأمس، في حين أن الفضائح ليست فريدة من نوعها، ليست "فارقة" أو "مزلزلة" أو "عاتية" أو أي كلمة تريد أن تستخدمها لوصفها، بل هي ظواهر معزولة. تعتمد الصحافة اليوم اعتمادًا كبيرًا على هذا الاقتطاع، الذي يعطي أهمية كبيرة لأحداث بعينها لأنها جُرّدت من السببية وأُخرجت من سياقها الأكبر، فمن الذي لا يزال لديه الوقت والحضور الذهني لتتبّع أصولها؟ الأمر نفسه ينطبق على الزعماء: من السهل جدًا أن نقول "ترامب هذا" أو "نتنياهو ذاك"، دون أن ندرك أنهم مجرد تعبيرات عن ظواهر أخرى، رموز تتجمّع فيها بعض الاضطرابات والطاقات والأيديولوجيات والعنف، إنهم مغناطيس لمثل هذه الأشياء.





ولكي أكتب عمّا لاحظته في عشرينيات القرن العشرين، والمعروف أيضًا بتعبير فضفاض هو "تشويه الليبرالية" وانهيار "المعايير الديموقراطية" - وهذا مصطلح لطيف يمكن أن نصف به أثاثنا - كان عليّ أن أعود إلى الوراء بقدر ما تسمح لي به مخيّلتي، إلى النقطة المحورية بين لحظة الانتصار الأميركية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والصورة المبتذلة التي غالبًا ما كانت تتّسم بالامتثال والرضا في الخمسينيات، والتي أخفت العديد من التوترات الأخرى، بما في ذلك "النسبية والمراجعة" التي ظهرت مع الثقافة المضادة، لقد رأيت أن تلك اللحظة التاريخية مهمّة من منظور أميركي، وبالتأكيد من منظور إسرائيلي؛ فهي في النهاية الفترة التي تأسست فيها إسرائيل، وهذا ما يجعلها مثيرة للاهتمام من منظور يهودي؛ فالكتابة من هناك تذكّرك دائمًا بأن الجذور تمتدّ إلى أبعد ممّا هو ظاهر، وأنّ كلّ ما تعيشه في الحاضر له أصل، كانت تلك العلاقة بين "لحظة معاصرة محدّدة" و"بداية نشأتها" هي ما أثار اهتمامي؛ وهذه العلاقة هي ما نسميه أيضًا بـ"التاريخ"؛ لقد ولدت "آل نتنياهو" من سؤال جدلي تقريبًا: أيّ تاريخ، وأيّ طريقة لكتابة التاريخ، هي التي شكَّلت حاضرنا؟




(*) تتناول في الفصول الأولى من الرواية قضايا مثل: السياسة والهوية وتسييس الهوية بشكل مباشر تمامًا، وتنظر إلى النقاشات في الحاضر من خلال عيون بطل روايتك المؤرخ روبن بلوم والمولود عام 1922، هل كان اختيار هذا المنظور السردي مثمرًا أيضًا في الابتعاد عن الحاضر؟ هل منحك تبنّي وجهة النظر هذه أفكارًا جديدة حول ما يُطلق عليه غالبًا، وبشكل غامض، "سياسات الهوية"؟
لا أشعر أنّي بعيد كل البعد عن شخصية بطلي المتخيّل روبن بلوم، على الرغم من أنه ولد قبل أحداث "آل نتنياهو" بأكثر من 50 عامًا، إلّا أنه كان يملك رغبة دائمة في أن يقبله الآخرون بينهم، رغبة في الاستيعاب والاندماج، لم يطمع في شيء بقدر أن يتمّ قبوله وتركه وشأنه، وكأن القبول لا يأتي بشروط معينة، إنه شخص قام بكل شيء "بشكل صحيح"، ومع ذلك ظلّ يرتدّ إلى أصوله اليهودية بسبب التشابكات التاريخية التي عاصرها، تحت هذه الرغبة الغربية في الاندماج يكمن تفاؤل جوهري حول المجتمع؛ فالمرء يقايض الهوية بالثروة المادية أو الراحة والشعور بالوطن، وبصراحة كنت مهتمًا بهذا التفاؤل، الذي شاركني فيه العديد من الأميركيين الذين عاشوا الكساد الكبير، لقد كان تفاؤلًا يتحدّى كلّ التطورات السياسية، حيث كان الإيمان بالديموقراطية وبأن حرية التعبير ستؤدّي إلى ثقافة متسامحة ومنفتحة دائمًا - كانوا مقتنعين بذلك كما كان الفاشيون مقتنعين بالفاشية، ولطالما أثار هذا الأمر فضولي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنني لم أملك أبدًا مثل هذا اليقين، ناهيك عن ذلك التفاؤل، أمّا عن سياسات الهوية، أحب أن أصف الصدام بين جيل كان لديه هذا التفاؤل الأساسي وانخرط في عملية تبادل لهويته بهوية جماعية رأسمالية، وبين جيل قاوم عملية سلب هويّته لأنه يعلم أن هذه الصفقة تنطوي على محو كيانه، كان هذا صراعًا عظيمًا للغاية بالنسبة لي لتصويره، خاصةً لأن هذه مفاهيم متعارضة للذات، ولكن أيضًا لأن هذه المفاهيم متوارثة بين الأجيال، وكان من المثير استكشاف هذه القضايا من منظور يهودي، حيث واجه اليهود العديد من أسئلة سياسات الهويّة لقرون: مَنْ أنتَ؟ ومَن تناصر؟ وتحت أيّ راية تقف؟ وكلها علامات استفهام غرضها إمّا الاعتراف بك أو رفضك من قِبل النظام الذي تعيش في ظلّه.

(*) أهديت "آل نتنياهو" إلى "ذكرى هارولد بلوم"، حتى أننا نستطيع قراءتها بوصفها تكريمًا لشخصه ولأعماله وخاصة أفكاره حول التأثير الأدبي، لذلك تبدو الرواية على المستويين الأسلوبي والموضوعي وكأنها تحاور أقطاب الأدب اليهودي الأميركي أمثال سول بيلو وفيليب روث وبرنارد مالامود، ورواية نابوكوف التي كتبها في أميركا
(1957) Pnin، هل اختبرتَ كتابة "آل نتنياهو" كصراع مع من سبقوك أم كشكل من أشكال اللعب الأدبي التحرّري؟
نظريات هارولد بلوم الأدبية ممتعة للقراءة، لكنها لا تساعد على كتابة رواية، وعندما مات فيليب روث شعرت أني ربما أعيش عمري كله وأنا أسمع عبارات مثل: "أنت تذكّرني بروث"، وحينها أدركت أن هذه هي لعنتي، أن أعيش تحت وطأة صرامة روث الأدبية، فأردت أن أفعل شيئًا لأحرّر نفسي منه، وكانت 1959 هي السنة التي صدر فيها عمل روث الأول "وداعًا كولومبوس"، وقررت أن أكتب عملًا تدور أحداثه في العام نفسه، على أن يكون مضادًا لما كان روث يكتب عنه تمامًا، أو ما تجاهله جميع الكتّاب اليهود تقريبًا في ذلك الوقت، وهو الحالة اليهودية الأميركية نفسها، لقد استغرق الأمر حتى سبعينيات القرن العشرين تقريبًا قبل أن نرى انعكاس الهولوكوست في الروايات التي كتبها اليهود خارج نطاق اللغة اليديشية، وهي فترة زمنية طويلة، ما يدلّ على فداحة المأساة، ولم تبدأ إسرائيل في لعب دور في أعمال اليهود الأميركيين إلّا في الثمانينيات، وهو أيضًا تأخّر ملحوظ، لذا بدا لي أن كتابة رواية عن الأيام الذهبية في خمسينيات القرن العشرين، هو السبيل إلى تصحيح أدب تلك الفترة بطريقة ما، باختصار؛ كان هنالك كثير من الصمت والفراغ الذي يمكن ملؤه.

(*) ألا يمكن أن يكون استحضار ذلك الماضي أيضًا وسيلة للهروب من الحاضر، لقد أعربت في عدة مواضع عن خيبة أملك من تقلّص الأهمية الثقافية للأدب، وعن إحساسك بالخيانة، بل ورغبتك في الانتقام، وصرّحتَ لمجلة إسكواير عام 2015: "أعتقد أن الأحمق فقط هو من يكتب بدافع شيء آخر غير الانتقام"، بمعنى أنك تريد الانتقام من ثقافتين: ثقافة كانت تروّج لقيم معيّنة لا يكتمل البيت فيها دون كتب، وثقافة أخرى كانت قد بدأت بالفعل في الوقت الذي بلغت فيه سن الرشد في محو تلك الفكرة، روايتك ويتزWitz  (2010)، والتي تقع في 800 صفحة، اعتبرها البعض مستفزة بسبب تعقيدها، كيف تندرج "آل نتنياهو" في مشروع "انتقامك" الثقافي هذا؟ وهل كانت كتابتك عن تلك "الأيام الذهبية" للأدب بمثابة هروب إلى الأمام أم أنك أردت أن تحرك أدب الحاضر عبر الماضي؟
إذا لم يكن لديّ شيء في العالم الخارجي لأغضب منه، فيمكنني دائمًا أن أغضب من تقصيري أو جهلي وعدم قدرتي على صياغة أفكاري، لذا أعتقد أن هناك دائمًا شيء ما يغضبني إلى حدّ ما، وأعتقد أننا جميعًا نريد أن ننتقم لأنفسنا من شيء ما، لا تبدأ الكتب بالنسبة لي كقصص أو شخصيات أو أصوات أو أيًا كان، لكنها تنمو من الشعور بأن شيئًا ما مفقود في عالمي الخاص، أقضي الكثير من الوقت في البحث عن الكتاب الذي أريد قراءته، حتى أدرك أنه غير موجود، وعليّ أن أكتبه بنفسي، أعتقد أن إحباطي يأتي من عدم قدرتي على العثور على ما يجب أن أصنعه، فأضّطر إلى صنع ما لا أستطيع العثور عليه.





ولا أعتقد أن كتابًا تدور أحداثه في الحاضر، مع الهواتف الذكية والإنترنت والذكاء الاصطناعي وغيرها، هو بالضرورة كتاب عن الحاضر، كما لا أعتقد أن كتابًا تدور أحداثه في عام 1959 هو بالضرورة كتاب عن الماضي، الشكل هو إحدى الطرق التي يقدّم بها الكاتب لنفسه أرضية وآفاقًا جديدة، وبالنسبة لي، فإن الزمن الذي تدور فيه أحداث كتاب ما، والتي أعتقد مرّة أخرى أنها فكرة سطحية قليلًا، ترتبط بكيفية سرد الكتاب، أي المنظور السردي الذي يتمّ اختياره، فكما أن بعض التلاعبات النصية تسمح للكاتب أن يضع نفسه أقرب أو أبعد من القارئ، فإن تحديد الفترة التاريخية يسمح لك بالاقتراب من موضوع ما أو صنع مسافة لخلق تأثير معين ولإيجاد علاقة مختلفة بين الشخصيات والقارئ، لذلك أرى بشكل عام أن الطريقة التي يتمّ بها استحضار الماضي في الأعمال الأدبية التي تتناول الفترة الزمنية سخيفة: فهي طريقة عامة ومحبوكة بإحكام، وبالتالي فهي في الواقع زائفة، إن توخي الدقة التاريخية في إنتاجنا الثقافي يتجاهل الإحساس الأساسي بالزمن، وإحدى طرق استعادة هذا الإحساس بالزمن في الرواية هي وضع التجارب التاريخية فوق بعضها البعض، لذلك أفضّل شكلًا من أشكال الكتابة التي "تنزف" فيها عناصر من فترة زمنية ما إلى أخرى؛ لا أريد إزالة سقالات البناء أو تفاصيل الصنعة من أمام القارئ، بل أتركها وأشير إليها.

ترامب أو نتنياهو  مجرد تعبيرات عن ظواهر أخرى، رموز تتجمّع فيها بعض الاضطرابات والطاقات والأيديولوجيات والعنف، إنهم مغناطيس لمثل هذه الأشياء


(*) بعد روايتين مشهورتين حصدتا العديد من الجوائز هما: "كتاب الأرقام" و"ملوك متحرّكون"، ها أنت تحصل الآن على اعتراف مؤسسي آخر هو جائزة البوليتزر عن رواية ذات إطار تاريخي أكثر وضوحًا وهي "آل نتنياهو"، هل تشعر أن عالم الكتاب الذي يبدو مهووسًا في الوقت الحالي بإعادة اكتشاف كُتّاب وأعمال من حقبة ما قبل العصر الرقمي، يعاني من الحنين الأدبي؟
الحقيقة أني شعرت بارتباط أقوى مع الحرم الجامعي الأميركي عام 1959، حتّى لو كنت أتناوله من خلال عين وتجربة أكاديمي خلال رواية "آل نتنياهو"، أكثر من ارتباطي بعالم وادي السيليكون في السبعينيات، والذي كان مسرحًا لرواية "كتاب الأرقام"، كانت أغلب شخصيات هذه الرواية من محبّي المعادلات الرياضية المعقّدة، أشخاص طليعيّون ومتطرّفون يتسكّعون على حوافّ الواقع، ولذلك كانوا بعيدين عنّي، أما فيما يخصّ مفهوم المعاصرة وتفضيل القرّاء لأدب ما قبل التكنولوجيا، فهناك حجة أجدها مشوّشة لكنها شائعة فيما يسمّى بالنقد الأدبي اليوم، وهي: أن الأدب نوع من "الحديقة المسورة"، وأننا غارقون في كل هذه المعلومات التي تأتينا بسرعة فائقة عبر الشاشات، وأن الأدب هو المكان الذي يمكنك الاسترخاء فيه في نهاية اليوم، وعزل نفسك عن ساحة المعركة في الخارج، أفهم أن هذا هو الحال بالنسبة للكثيرين، وأن الناس لم يعودوا يتعاملون مع الأدب كمستودع للأفكار بل كواحة للانفصال، وفي الوقت نفسه، فإن هذا الانشغال بالانفصال عن الواقع يشجّع بالفعل أشكالًا معينة من الكتابة: إنه يعطي امتيازًا للأدب الذي يُنتج تأثيرًا مخدّرًا، إن رفض الأدب الحداثي وما بعد الحداثي الذي كان في ذلك الوقت مغلّفًا بمصطلحات جمالية وسياسية حتى قيل إنه "صعب" و"نخبوي"، كان في الواقع شكلًا من أشكال النقد: لماذا يجب على الناس الذين يريدون الانفصال عن الواقع الانخراط في قراءة كتب أكثر إرباكًا من حياتهم اليومية؟ بالنسبة لي، هذه ظاهرة مزعجة جدًا.

(*) مجموعة مقالاتك "انتباه. إرساليات من أرض الإلهاء" Attention Dispatches from a Land of Distraction (2018)  تقدّم وجهة نظر متشكّكة في الأهمية الثقافية للأدب بسبب تلاشي القرّاء، وفي ردّك على سؤال حول ما إذا كان لا يزال بإمكان الروايات أن يكون لها أي تأثير سياسي، كتبت قائلًا: "لقد أصبح الأدب فعلًا سياسيًا في حدّ ذاته، الرواية السياسية هي الآن مجرّد رواية"، وتجادل في إحدى المقالات الأخرى بأن البدء في الكتابة في زمن الإنترنت كان في جوهره شكلًا من أشكال الاحتجاج: "أردت أن أكون كاتبًا: أردت أن أكتب الكتب، كان التوحّد مع الكلمة تحت هيمنة "عالم الصور" هو تمرّدي''، هل ما زلت تعتبر نفسك متمردًا؟ وما هي الظواهر والديناميات التي تريد التمرّد عليها ككاتب؟
لم أرَ نفسي يومًا متمرّدًا حقيقيًا، بمعنى أنّي لست قادرًا على منافسة الشركات التي تبلغ قيمتها تريليون دولار والتي تقف وراء وسائل الإعلام الشعبية، قراءة الأدب وكتابته هذه الأيام هي بالتأكيد شكل من أشكال الانسحاب، لكنني لا أراه انسحابًا في خدمة العناية بالذات أو الراحة، بل في خدمة الوضوح، أنا في بحث دائم عن الوضوح، وليس لديّ وسيلة أخرى للتفكير وتوضيح أفكاري غير اللغة. أما تعليقي على السياسة والرواية فهو بالطبع دليل على تضاؤل مكانة الأدب، ولكن آمل أن يكون دليلًا على المستوى الرفيع للقرّاء الذين يستطيعون شم رائحة الرمز من على بعد ميل ولا يضيع منهم إلا القليل، أعتقد أن الروائي المعاصر يكتب لأكثر القرّاء تعلّمًا في تاريخ الأدب كلّه، المشكلة إذًا هي: بقدر ما أريد أن أكتب ضد فكرة الأدب بوصفه "حديقة مسورة للراحة والأمان"، أريد أيضًا أن أكتب ضد الدراسات النقدية لأنها تجرّد الأدب من قوّته التحويلية، لدينا مشكلة عندما تصبح القراءة تخصصًا أو تعميمًا، فكل شيء حولنا الآن صار في خدمة المستهلك، وبالتالي ثمّة فئة من القرّاء لا تريد من الكُتّاب سوى تقديم ما يريدونه كي يبقوا منعزلين عن الواقع، وهذه كارثة.



(*) مَن هم الكتّاب الذين تعتبرهم حلفاءك أو تتمنّى أن تتحاور معهم؟
أصبحت مهتمًا بشكل متزايد بالكتابة التي تفاجئني، تلك التي تُخفي نواياها وراء سطوح تبدو معاكسة لتلك النوايا نفسها، ميخائيل نابوكوف مهم جدًا لي ضمن هذا الإطار، وكذلك أندريه بلاتونوف([i])، رغم أنك لن تجد كاتبًا روسيًا مختلفًا عن نابوكوف مثله. هذان كاتبان أفكر فيهما كثيرًا، لديك نابوكوف الذي كان يكره التحليل النفسي ويصوّر لنا أنه مسيطر على كل جوانب نثره، وربما كان الأمر كذلك بالفعل، فكل شيء يبدو محسوبًا ومتوازنًا في أعماله، فهو يتحكم تمامًا في ترسانة معانيه، ثم لدينا بلاتونوف، الذي كان بالتأكيد كاتبًا رغمًا عنه، فالقناعة السياسية الجادة معروضة في أعماله بطرق تقوّض التعبير عنها تمامًا، وعندما أقرأ له لا أستطيع أن أحكم إلى أيّ مدى كان واعيًا بذلك، وهو أمر مزعج بطريقة ما، أذكر هذين الكاتبين بشكل عرضي لأنهما يبدوان نقيضين مفيدين بالنسبة لي، وهو ما أبحث عنه كقارئ في كثير من الأحيان.

(*) أخيرًا، لنتحدّث عن جائزة البوليتزر، كيف أثرت هذه الجائزة على اتجاه مسيرتك في الكتابة؟ وبصفتك كاتبًا مترجمًا على نطاق واسع الآن، هل أنت على دراية بجمهور القرّاء الدوليين؟ أم أنّ القارئ الداخلي الانفرادي لا يزال هو المتحكّم داخلك؟
أميل إلى القول إن الأوروبيين وحدهم هم من يهتمون بالبوليتزر، هذا البلد بارع جدًا في الترويج لجوائزه في أماكن أخرى دون أن يعطيها الكثير من المتابعة في أميركا، هل تغيّر أي شيء في حياتي؟ لا. ولكني لا أشعر بأني أعيش ضمن السياق الثقافي ذاته الذي يعيش فيه معظم الأميركيين، والذي عادة ما يكون بالنسبة لأقراني هو الأكاديمية، ولأني عشت في أوروبا لسنوات، لم أعد أعرف معنى أن يكون لديك حياة ثقافية ثابتة، إن مفهوم السياق الثقافي القابل للتحديد معقد، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالأدب، وهو شكل فنّي غريب: فمن ناحية، هو الأكثر ضيقًا لأنّ الكتَاب متجمّد في لغته، ومن ناحية أخرى هو الأكثر تحوّلًا، لأنه يمكن إعادة اختراع النص من خلال ترجمته، ومن ثمّ نأمل أن يعيد اختراع اللغة الهدف جزئيًا من خلال مزج عناصر من لغة أخرى مع روح النص الأصلي. ولكن مع تراجع أهمية الأسلوب في الأدب بسبب انفصاله عن التكافؤ السياسي، أصبح سنّ أسلوب في اللغة الإنجليزية صعبًا أكثر من أي لغة أخرى، لأنك إذا كنت تكتب في لغة أصغر كالعبرية مثلًا، فيمكنك أن تصنع أسلوبًا حقيقيًا، أي أن تحاول أن تضفي الكمال على نظام ما، وأن تعبّر عن رؤيتك الخاصة للغة. أما اللغة الإنجليزية فهي من ناحية أخرى مكب نفايات كبير، فيروس يتكاثر في سوق قانون اللغة ويصيب جميع اللغات الأخرى، وأن ترغب في أن تصبح ستايلست Stilist في اللغة الإنجليزية يعني أن تعلن نفسك مديرًا لمكب النفايات، وهي وظيفة دولية بطبيعتها بطريقة ما، وهو موقف غريب للغاية أن تجد نفسك متورطًا فيه، خاصة إذا كنت مثل العديد من الأميركيين لا تتحدث لغات أخرى غير لغتك، وتبدو مسؤولًا عن لغة تؤثّر على العديد من اللغات التي لا تستطيع فهمها، لقد جعلني تعدد لغاتي (يتحدّث الألمانية والعبرية ويترجم عنهما) أدرك الموقف المتناقض الذي تجد الإنجليزية نفسها فيه اليوم؛ فالجميع يعتقد أنه يتقنها، ولكن لا أحد يتقنها بالفعل، وبالنسبة للكاتب فهذا أمر مخيف وامتياز في الوقت عينه؛ لأن الإنجليزية تصبح بهذا المعنى لغة مستأصلة، مشردة تمامًا وبلا وطن، لا يمكن لأحد أن يتفق عليها، ناهيك عن تكوين فكرة عن "النقاء"؛ لذلك لا يوجد أسلوب إنجليزي يمكن تطويره بشكل شفاف تمامًا.

(*) ومع ذلك تستمرّ في المحاولة؟
نعم يا رجل، كل يوم.

****

(*) لودويك فردوين: ناقد وصحافي هولندي متخصص في الآداب الجرمانية، ينشر مقالاته النقدية بشكل مستمر في المنابر الهولندية والبلجيكية المتخصصة، نُشر كتابه "العزلة في صيغة الجمع اللامتناهي"، وهو عمل استقصائي شامل عن حياة الكاتب جيروين برويرز، أحد عمالقة الأدب باللغة الهولندية في أيلول/ سبتمبر 2021. 
[i] أندريه بلاتونوفيتش بلاتونوف (1899 - 1951): روائي وكاتب قصة وفيلسوف وشاعر روسي، كان يعتبر نفسه شيوعيًا، إلّا أن أعماله الرئيسية لم تُنشر في حياته بسبب موقفه المتشكك من السياسات الستالينية، وكذلك بسبب شكلها التجريبي الطليعي المشبع بالوجودية، ومن أهمها روايتيه "تشيفنغور" Chevengur (1928) و"حفرة التأسيس" (1930).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.