}

احتراق

علي لفته سعيد 12 مارس 2018
قص احتراق
لوحة الفنان رضا عبد السلام

في كلّ مساء يبحث المتشابهون عن أنفسهم.. كلّ يمسك بطرفٍ من شيئه ويصرخ، إنه وجد ضالّته.. فيعرضها عليهم فيجدون أنها متشابهةً مع ضالّاتهم.. فيبقون في مرحلة بحثٍ جديدةٍ لعلّهم يجدون ما يغيّر قناعتهم بأن هناك ما هو غير متشابه في الظنون والأقدار فيوزّعونه لعلّهم يتخلّصون من المحن الكثيرة.. في كلّ مساء يأوي كلّ منهم إلى جزءٍ من هذا الكون.. بعضهم يأخذ مكانه في الحلم، وآخر يراقب المدى، وثالثٌ يتأمّل الغسق، ورابعٌ في لجّة الضباب، وخامسٌ يطارد السراب، فيما ينتظر سادسهم الفجر.. إلّا واحدٌ منهم ظلّ في مكانه بين الجدران.. يضع يديه على السطح الأملس المعتّق بلونه الرمادي والمنفوخ مثل مصابٍ بالنكاف.. يدفع ويصيح بأعلى صوته.. لا بد أن يتحرّك ليمضي إلى الأمام.. ويقول أيضا.. إن المتشابهين مثله سيأتون إليه.

لكن الوقت مضى.. وضاق المكان بهم حيث تجّمعوا للبحث عن الحلول.. والمساءات تشابهت والحيلة تشعّبت ولم يجد أيّ منهم ما يغنّون به ليشتركوا معا في تلحين الكلمات.. قال الذي يمسك بالحلم إنه رأى ما لم يره الآخرون.. فأنّبوه أنه نام مخالفًا شروط التشابه.. وحين ضحك الذي وقف في المدى أجابوه أنه يتأمّل كثيرًا في زمن لا معنى للتأمّل.. حينها انبرى من أخذ مكانه في الغسق واضعًا صوت الغروب وما يليه من راحة الاستماع لترتيلٍ وتكبيرٍ ليسود الصمت الجميع، ولم يستطع أحدٌ منهم أن ينبس بكلمةٍ، وراحت العيون تراقب ارتجاف الأجفان، والأيادي تحنّط المكوث.. غير أن همهماتٍ صدرت سمعها المغسوق، فانبرى يحملق في الوجوه. قال لهم.. إنه يعلم ما يقصدون وإن لسانهم مجبولٌ على صناعة الخيال، فلا يستسيغون التوق إلى الجمال، والسواد يافطة المكوث في الخديعة حيث ينهال منها التكبير.

ساد الصمت كلّ المكان الذي يفضي إلى سماءٍ مغبرةٍ وقمرٍ شاحبٍ وبردٍ يقرص أطراف الآذان، ويبلل أرنبة الأنوف بما كانوا يرون من بعيدٍ تطاير ألسنة النار من جمرٍ متوقّدٍ تحت أحد جسور المدينة.. فيضرب الضوء على النهر فلا يرون غير محنة الصمت. ينبري لهم المتضبّب في رؤيته محاولًا جرّ الجميع الى حديثه واستكناه معرفته التي يريد لها أن تستقيم في تشابهات الآخرين.. فقال لهم إن عينيه قد تعمّقتا في الأمام، وإن عليهم أخذ الحيطة والحذر.. أشاروا له بالصمت معلّلين أنهم أمضوا أعمارهم في الحيطة والحذر ففرقّتهم المحن، ولم يكن واحدٌ منهم يلاقي ذات القدر.. فكلّ له حصاده من الخوف.

لحظات مرّت كأنها دهورٌ من شجنٍ يسمعون فيه غناءً حزينًا مثل نايٍ لا يعزف إلّا مواويل الجنوب.. ثم يسمعون تكبيرات تأتي من علوٍ ينبثق من جهاتٍ أربع.. فاختلط عليهم صوت الحابل بنشيج النابل، وتضبّب الغسق وضاق المدى ولم يعد للحلم مكان.. إلّا ذاك الدبيب الذي لم يقترب منه القدر، حين جعل السراب هو الوحيد الذي بإمكانه أن يتغوّل عميقًا من تحت الجسر.. فيرى كلّ شيء أمامه لاصقًا.. سقف الجسر والماء والمدى والسماء التي لا تغلّف سوى انبهارات السديم. كان يضحك كثيرًا وهو يشير الى جهاته الأربع، ويقول لهم بصوتٍ أعلى من الخفوت وأقلّ من الصراخ.. إن كلّ شيءٍ مرهونٌ بمثلي.. وأنا الوحيد الذي لا أجعلكم تتشابهون فلا يتيسّر منكم فعلٌ ولا ردّته.. كان قوله قد نزل نزول الغضب، فأحاطوه من كلّ الجهات ودفعه الذي كان يدفع بالجدار ليسقط في لجّة النار ويحترق.. قال الحالم إن عددهم نقص وهذا سهّل عليهم الحلول.. فتوسّعت عيون الجميع بلغةٍ مفهومةٍ وجدوها في تقاسيم الوجوه، لتعلن عن مخطّط جديدٍ يتلو عليهم أقاويل الحيل وما تنابز من الخديعة.. تحرّكوا بدائرةٍ تكملها النار ورائحة شواء صاحب السراب.. قال صاحب الأفق إنه لولا الحلم لكنا متشابهين.. فدفعوه الى النار ليتطاير الشرر الى سقف الجسر ولا يذهب الرماد الى النهر.

ظلّ الآخرون ينظرون لبعضهم.. وثمة اعتقاد أنهم الآن يتشابهون في التصرّف والحياة.. لكن المغسوق نظر إلى صاحب الأفق ليرسم له علامة تخوّفه من دافع الجدار.. ففهم منه أنه مضى عمره ولم يستطع فعل شيءٍ يجعلنا نرى ما خلف الجدران.. حكّ صاحب أرنبة أنفه، وتقدّم مع الآخرين ليسقطوا دافع الجدار باتجاه النار في حفرةٍ النار التي تكوّرت جدرانها على لهبٍ لا يشبه جوف بركانٍ، لكن سعيرها أقوى من أفران صهر الحديد.

ومض من خلف الطريق الموازي للجسر ضوءٌ يشبه انفجار سيارةٍ مفخّخة.. ثم تبعه صوت رصاصٍ يلعلع ونساءٍ لاطمات وأطفالٍ خائفين وصفير سياراتٍ مختلفة، لا يميّز منها سيارات الإطفاء من سيارات الشرطة أو الإسعاف أو حتى السيارات الصغيرة والكبيرة.. كان الرصاص يقترب منهم كثيرًا والصوت يكاد يصمّ آذانهم.. لم يكن أمامهم من مهْربٍ.. توزّعوا باتجاهات شتّى.. لكن ما خلفهم نهرٌ وما أمامهم كلّ هذا الخوف والصراخ.. وبلا وعي منهم اندفعوا ليحتموا بالجسر.. كانت حفرة النار تتوسّع وتفتح فمها.. فانزلقوا جميعهم إلى داخلها.. ولم يعد أحدٌ منهم يسمع صوتًا يأتي من جوف المدينة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.