}

ولقد رُئيتُ.. في ضريح محي الدين بن عربي

عبدالله عيسى 24 فبراير 2020
سير ولقد رُئيتُ.. في ضريح محي الدين بن عربي
لوحة للتشكيلي الجزائري رشيد قريشي
تروي نساء المخيم أنني عذّبت أمي في بطنها تسعة أشهر وسبعة أيام بلياليهن حتى جئت، وبعضهنّ أشهدن الله وملائكته أنني منذ خرجت من بطنها على يدي القابلة، أو الداية كما يسميهنّ، أم اسماعيل الببيليّة، لم أبك  ثلاثة أيام بلياليهنّ.

وتحلف الحاجة حدواشة أم حسين الملقّبة بأبي الهول، بأغلظ الأيمان، ومعها نسوة كثيرات، بأنني كنت أبتسم لأمي في المهد، وأغفو على صدرها كلّما همّت بإرضاعي، لكن جدّتي لأبي سعدة النمر، وجدّتي لأمّي عائشة المهاوش، وبضع نسوة مقربّات منهنّ، ظللن يقْسِمنَ بالله حتى مماتهنّ بأنّني بقيت بعد هذا سبعة أشهر بلياليهن أبكي بحرقة، ولم أُذِق أمي، أو أذقهنّ طعم النوم، وأن قراءتهنّ على رأسي آية الكرسي والمعوذات الثلاث وما تيسّر من سور قصار، وما جلبن من أدعية المشايخ أو حُجُب الأولياء والسحرة في ببيلا وضواحيها، ودمشق، والمدن التي تجاورها، لم تطفئ بكائي.
ولم أصدّقْ أحداً من أهل المخيم وأهالي المخيّمات الأخرى حتى روت أمي ما رأت من شأني.
مات أخي عبدالله، الذي جيء به قبلي ولم يبلغ حولاً واحداً، بضربة عين، على ذمّة ثلّة من أهل الحيّ، من عينِ ابن الحرام.. وعادةً ما كانت أمي، وجدتّاي ومن والاهنّ من النساء، يبلعنَ ريقهنّ، ويصمتن عن ذكر اسمه، حتى لا يصيبني بسوء بعد أن يستعذنَ بالله ثلاثاً من عين حاسد إذا حسد، فقد كانت عينه تأخذ حقها من الحجر، كما كنّ يقلنَ. وكثيراً ما كنّ يقسمن أن عبدالله رحمه الله كان يتكلَم في المهد، ويمشي بقدمَيْ من هو أكبر منه عمراً، وأنه كان أجمل من وقعت عليه أعينهنّ وأعين خلق الله جميعاً.
وكأنّ ظهر أبي محمود عيسى وهن من كمد على موته، وذبل رحم أمي فوزية الحسن من حزنٍ على ذكراه، ولم تنفع معهما أدوية الأطباء في الشام، والمدن والعواصم التي جاورتها.
وأخذ اليأس منهما كل مأخذ، ولولا ستر الله، ورؤيا جدّتي عائشة المهاوش، لكادا يقنطان من رحمته الواسعة، وما كان جيء بي إلى هذه الدنيا الفانية.
لم يصدّق أحد رؤيا جدتي عائشة المهاوش، اللَهم إلا أبي وأمي، ولعلهما اعتصما برؤياها كمن يمسك بقشّة تحميه من غرقٍ مطبق، وكذا صدّقها بضع عجائز في المخيم ممّن يعرفون سيرتها وسيرة جدّها الأول، وليّ الله، في فلسطين.
وكأنّ جدتي لأبي سعدة النمر رضخت لأمر الله بعد لأيٍ. قالت، وقد رمت يدها في الهواء متأفّفة، ولم تنظر في جهة أبوي، حيث جلست جدتي عائشة:
"خلّ البدع  تفيدكم. يا خوف قلبي تحملي يا فوزية بولد يبَدّع" - أي يفعل السبعة وذمتها دون رادع بلهجتنا -.
وكادت أمي تبكي، فيما فكّر أبي في البعيد، بينما ابتسمت جدّتي عائشة، وعيناها معلّقتان في ضوءِ سراجٍ منهك آخرة الليل.
لم يطأ النوم عيونهما حتّى مطلع الفجر. وطلعا من المخيم بخطى ثقيلة، فيما كان تجار السوق في قرية ببيلا يفتحون محلاتهم مستبشرين بأن أصبحوا وأصبح الملك لله. وكانوا يرمون عليهما سلاماً طيباً، وظلا يردّان عليه بأجمل منه. وبقي أبي ممسكاً بيد أمي، كما تتذكر بعد عشرين عاماً ونيف، حتى دخل جامع الشيخ محي الدين بن عربي، في الحيّ الذي ينسب إليه، في دمشق، على ضفاف نهر يزيد.
وقف في صحن الجامع الكبير، الواسع، المرصوف بالزخارف الملونّة والأحجار البيضاء والصفراء، على مقرُبة من بركة صغيرة وضعت بإتقان، ورفع يديه إلى السماء، ووقفت على مبعُدة من جسده الذي صار أنحل من آهاته، ورفعت يدين ضارعتين إلى أعلى، وسمع صدى نشيجها من بعيد.
وهبطا السلم الحجري وهما يقرآن في نفسيهما ما تيسّر من قصارى السور، ودخلا الضريح الذي يقطن مطمئناً في غرفة مزخرفة لها قبّة عالية كأنها تصله بالسماء، والمحاط بشبكة فضيّة تتلألأ كما لو أنها تشعّ بنور من مشكاة طيبة.
وتوقفا فجأة، وكأنّ الأرض ماجت بهما.
إنه هو. يقرأ في الضحى آيات محكماتٍ من القرآن الكريم عند رأس الشيخ محي الدين.
وتذكرا أن الحاجة عائشة المهاوش ذكرت لهما ذلك. وارتعدا، إذ أدركا أنه هو ذاك كما وصفته تماماً، وكأنها تراه الآن معهما.
شيخ مربوع في السبعين بثياب وعمامة بيضاء ناصعة كثلج أعلى جبل قاسيون.  خصلات من شعر أسود منثورة على عجل في لحيته البيضاء التي ثقّفها بعناية بالغة. عينان سوداوان كبيرتان تتوسّطان وجهاً مدوّراً كبدر منور. ومسّهما شيء من خوف مما سمعاه منها، ورأيا منه.
وما أن انتهى من دعاءٍ شعرا أنه طال عليهما، حتى ابتسم لهما، وقال بصوت راعش مطمئن: "وعليكم سلام الله ورحمته وبركاته".
وأدركا أنهما سلما عليه في نفسيهما، وعلى الشيخ الإمام المسجّى في ضريحه.
وأراد أبي أن يقول له عما أصابه من أمره، لكن الشيخ أشاح بيده، وأردف:

- "حاجتكما مقضية بإذن الله، لقد رأيت رؤيا". 

ولم يذكرا عنه شيئاً لأحد إلا بعد أن جيء بي، وأخذ الشعر يخطّ في وجهي.
لكنّ أبي فعل ما أوصى به الشيخ سعد الدين قدّس الله سره، وامتثلت أمي لما أمر تسعة أشهر وسبعة أيام بلياليها.
مطمئّنَين خرجا من كنفه المطمئنّ، وكأنّهما رميا أثقالهما على الله إلى الأبد. وطويلاً ظلّا يتذكران أن أبي تصدّق بكل ما في جيبه للفقراء واليتامى وأبناء السبيل المهملين ككتل لحم بشريّة فائضة في التكيّة السليمانيّة جانب الجامع، ولم يبق قرشاً يذكر الله، فعادا مشياً من حيّ الشيخ محي الدين إلى مخيم ببيلا.
أكثر من ثلاثين كيلو متراً، وهما يمسكان بيديهما في طرق وشوارع وأزقّة لم يشعرا، بل لم يفكّرا قط، أنهما غريبين أو مهملين فيها، وحين كانا يتعبان يقفان فيتعانقان، ربما ليتسنّدا على بعضهما، في كنف ظلال عمارة أو شجرة ما، وكثيراً ما كانا يبتسمان صامتين، ولم يتذكّرا أنّهما قد يكونان قد بكيا، لكنّهما كانا على أتم ّ اليقين بأنهما موطوءين بحلم أخذهما من بين أياديهما ومن خلفهما. 
ولم تكذّب أمي خبر الشيخ سعد الدين كرّمه الله ورسوله، فحملت بي.
تسعة أشهر وأسبوعاً كاملاً، وهي تشرب حليب ناقة الشيخ صالح العقرباوي (نسبة إلى قرية عقربا شرق المخيٌم في الطريق إلى المطار)، خارجاً للتو من ثدييها، أيام الخميس والآحاد، وتمرّ من تحت بطن جمل الحاجّ حمّاد الخطيب اليلداني (نسبة إلى يلدا جنوب المخيم والتي تفصله عن مخيم اليرموك)، سبع مرات جيئة وذهاباً كل ثلاثاء.
وفي كل ثلاثاء كان عليها أن تجلس على مبعدة سبع خطوات من الجمل، جلسةَ من ينهي صلاته بالتحيّات، وتذكر الله في نفسها، وتصلّي على نبيه وآله، ثم تقرأ سبع مرات "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت".
فيما تطوف أيام الخميس والآحاد حول الناقة سبعاً، تاركة نفسها مستسلمة لذكر الله والصلاة والسلام على نبيه وآله أجمعين، وهي تقول في كل طواف حين يغدو وجهها ميمّماً نحو القبلة "ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية".
بينما ظلّ أبي يصاحبها في كل ذلك مشفقاً أحياناً كثيرة، وعيناه ترقبان بطنها حتى كبُرَ وصار يشقّ عليها كلما جلست بعد شربة حليب، أو "يُطلع روحها من حلقها"، كما كانت تشتكي له، كلّما مرّت من تحت بطن الجمل.
ويذكر أهل المخيّم، والمخيّمات الأخرى، أن جسد أبي صار أنحل من ظلّه، وصار صموتاً حتى ذهب صوته كلّما تكلّم، لكن أمي لم تكفّ عن الابتسام، حتى أخذ الخوف منها كل مأخذ، إذ اكتمل حملها بي بتسعة أشهر.

ولم يأتها المخاض بي.

واسودّت الدنيا في عيون الآل والصحب، وصاروا يدعون الله بعد كل صلاة، ويقسمون عليه بأن يتلّطف بها وبجنينها- أي بي- ، ومنهم من حلف أغلظ الأيمان، مثل الجدة حدواشة الكردية، والعم أبو فاعور أحمد الساعدي، والخال غازي الحسن السيّدي الذي لم يصُمْ قبل هذا أبداً، بأنه سيصوم كلّ اثنين وخميس حولاً كاملاً. ولعنوا كل من يتقوّل على الله بشأن حمل المسكينة أمّي فوزية.
ويذكرون أن أبي جُنّ جنونه وكأن جنيّاً سحب عقله، فانسلّ، وقد جاءها المخاض يوم الاثنين بعد ظهيرة أول يوم في رمضان الكريم، ولم يروه إلا حين علا صوته فوق سطح الغرفة الطينيّة، حيث انشغلت النساء بأمر ولادتي، وقد شدّ ذراعيه ناحية السماء التي غدت أقرب، وهي تنزل بمطرٍ "من قلبٍ وربّ"، على ذمّة حمدة أم الهول - أي شديد الغزارة بلهجتنا - ، "بحبّاتٍ كبيرة بحجم رأس غرابٍ عجوزٍ"، وصاح متوسلاً إلى ربّه في سماواتهِ العلى:
-         "يا ربّ أطعمتَ زكريا العجوز، وأطعمتَ مريم العذراء، وأطعمتَ أولاد الحرام والكفّار والمغضوب عليهم والضالين، فأطعمني وأهل بيتي ولداً أحبّه ويحبّني ويفرح قلب الفقيرة إليك فوزية أمه، ولو بعين واحدة، ولو أبكم أو أحدب..".
ثمّ خرّ على ركبتيه وجبهته، وقد سمع نشيجه ممزوجاً بارتطام المطر الساقط على عجل من غيوم داكنة اقتربت كثيراً من الأرض بظهره المنحني كقوسٍ منهك يتلوّى في الأرجاء من بعيد.   
ولم تكفّ عجائز المخيم عن ذكر شأن أمي حتى قبضهنّ الله.
قيل إنها ظلّت مبتسمةً، تعضّ بين فينة وأخرى على شفتها السفلى، وكأنها تُسكتُ آلام المخاض، لكنها حين تدلّى إلى مسامعها صدى دعاء أبي من علٍ همست، وسمع همسها خلق كثيرون، وكأنها تناجيه: "أبو عبدالله. وحياة الله. هذا هو عبدالله".
وما أن أغمضت عينيها، فيما تتورّد ابتسامتها مثل جلنارة، حتى جيء بي، فجئتُ.. 

* نص من سيرة لم تكتمل بعد.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.