}

عبدالله حبيب: الفار من مغارة علي بابا كأرنب مذعور

سليمان المعمري 11 يونيو 2020
سير عبدالله حبيب: الفار من مغارة علي بابا كأرنب مذعور
"تعيش عمرك وأنت تكتشف كل يوم شيئًا عن نفسك"
سأقول في البداية إن هذه الكتابة ليست إلا محاولة لفهم عبدالله حبيب، أنا الذي كنتُ وما زلتُ أقول دائمًا لنفسي: كن صديقًا لصديقك وتقبّلْه كما هو بدون المبالغة في محاولة فهمه، وإن كان لديك فائض وقت فعليك أن تنفقه في محاولة فهم نفسِك، وعليك أن تتواضع قليلًا وتتذكّر دائمًا مقولة سيوران عن كونك تعيش عمرك وأنت تكتشف كل يوم شيئًا جديدًا عن نفسك، ثم يأتي ذلك الأحمق الذي يقول لك "أنا أعرفك جيدا"!.

***

يظن عبدالله حبيب أن لقاءنا الأول كان عام 2006 في مأدبة العشاء التي دعا إليها السيد علي بن حمود – وزير الديوان العُماني السابق - عددًا كبيرًا من الكتّاب والمثقفين العُمانيين على شرف الأديب السعودي الراحل غازي القصيبي، الذي كان وقتئذ أيضًا وزيرًا للعمل في السعودية. لكن ذلك اللقاء في الحقيقة – وإن كان بداية علاقتي الحقيقية بعبدالله - لم يكن لقاءنا الأول. فقد التقينا وجهًا لوجه للمرة الأولى قبل هذا اللقاء بما لا يقل عن عشر سنوات. تحديدًا في النصف الأول من التسعينيات. ولا أستغرب عدم تذكّر عبدالله ذلك اللقاء، فأنا نفسي لا أذكر أين كان بالضبط. كل ما أذكره أن ثالثَنا فيه هو صديقنا المشترك عبدالله خميس الذي كنا نلقبه في تلك الفترة – وكما كان يحب - بــ"المُخَلْفَصْ". في ذلك اللقاء رد عبدالله على عتاب المخلفص له بعدم رؤيته منذ فترة: "والله يا عبدالله هذا الوقت صرنا نخطفه من فم الأسد". أذكر أنني طفقتُ أجرب هذه العبارة في فمي بعد ذهاب عبدالله حبيب بينما عبدالله الآخر يبتسم. وكم كان لطيفًا من المخلفص أن يتحمّل عني دون أن أطلب عبء الردّ على دعوة عبدالله للسهر ثلاثتنا في إحدى حانات مسقط بإخباره – وإن كان بطريقة بدت لي مبالغًا فيها - أنني لا أرتاد هذه الأماكن لأسباب إيديولوجية. أذكر اندهاش عبدالله حبيب يومئذ ورده العفوي الذي مفاده أن تلك الأماكن تقدم مشروبات أخرى غير الكحول، مضيفًا الآية الكريمة: "لكم دينكم ولي دين".

 لقطة تجمع بين سليمان المعمري (يمين) وعبدالله حبيب 

















كان ذلك لقاء عابرًا، سافر بعده عبدالله لأميركا لاستكمال دراسته العُليا، وظل بعد ذلك طيفًا عابرًا أتابع أخباره من بعيد، بتعبير أدق: أقرأ مقالاته بانتظام في ملحق صحيفة "عُمان" الثقافي ثم في ملحق "شرفات" الذي كان يصدر من الصحيفة نفسها. ومنها مقال لا أنساه نَشَره عام 1994 عن سهرة تلفزيونية عُمانية عنوانها "السحب الكبير" خصص لها عبدالله صفحة كاملة من النقد اللاذع بدءًا من العنوان: "السحب الخاسر: ملاحظات لا تطمح للفوز في السحب الكبير". إلى أن جاءت سنة 2006 التي التقينا فيها في بيت السيد علي بمنطقة المَنُومة. كانت تلك السنة سنةَ مسقط عاصمة الثقافة العربية، وكنتُ أقدم حينها برنامجًا ثقافيًا أسبوعيًا لإذاعة سلطنة عُمان أحاور فيه مثقفين عمانيين. وكان عبدالله حبيب ضيفًا ذا ثقل ثقافي كبير في عُمان يحلم به أي إعلامي. انتهزتُ فرصة اللقاء فدعوتُه لبرنامجي، وأدهشني أنه وافق بدون تمنّع أو محاولة تملص بعبارات تسويف مطاطة، كما فعل آخرون ممن هم أصغر منه عمرًا، وأقل تجربة كتابية.

وإذًا، في ليلة من ليالي مارس/آذار 2006 كنا في سْتوديو 10 بالإذاعة: عبدالله، والزميل المخرج يعقوب الحارثي الذي سيضطلع بتسجيل الحوار في شريط "ريل" كبير، وأنا. كانت فرائصي ترتعد، ليس من هيبة عبدالله حبيب وإنما من خوف "الفركشة" المحتملة في أية لحظة للحوار بسبب وجود يعقوب تحديدًا. حظي العاثر جعل الإذاعة تخلو من المخرجين في ذلك المساء الربيعي إلا من يعقوب. هل يدري عبدالله حبيب أن هذا الوجه المألوف هو نفسه وجه الممثل الذي أدى قبل اثني عشر عاما بالتمام والكمال الدور الكاريكاتوري الممجوج للمثقف "الحداثوي" في مسلسل "عايش زمانه"؟، والذي كان يبدو لدى كثيرين في الوسط الثقافي العُماني أنه يسخر فيه من عبدالله حبيب تحديدًا، بشعره الكثّ المنكوش، وهندامه الغربي، وغليونه الغريب، وكلماته المتقعّرة التي كان يتعمّد – الممثل أعني- نطقها بطريقة كاريكاتورية. تا الله لو انتبه عبدالله لهذا المخرج لقلب علينا طاولة الاستديو وخرج مغاضِبًا بدون حوار ولا يحزنون.
يظن البعض أن مخرج "عايش زمانه" المرحوم سامي محمد علي ابتكر ذلك الدور للمسلسل، وفرضه على السيناريست أحمد الحمداني، انتقامًا من مقال عبدالله حبيب في "السحب الكبير" الذي كان من إخراج نفس المخرج وفي العام ذاته (1994). كان لفرائصي أن ترتعد إذًا، خوفًا من "فركشة" الحوار، غير أن المفاجأة السعيدة هي أنه لم تمضِ سوى عدة دقائق حتى اكتشفتُ أنه لا عبدالله ولا يعقوب يعرف أيٌّ منهما الآخر، فتنفستُ الصعداء. لقد مات لويجي بيرانديلو إذًا ولله الحمد قبل أن تبحث الشخصيةُ عن "ممثلها"، ومضت الليلة بسلام بعد أن سجلتُ مع عبدالله نحو ساعتين. كان ذلك حقًا وقتًا ثمينًا اختطفتُه من فم الأسد.

***

لم ألتقِ مريم إبراهيم مرةً في حياتي، ولا عبدالله التقى فضيلة خليفة. لكنهما ظّلتا في خلفية مشهد صداقتنا دائما، كأيقونتين مقدستين تحرسان هذه الصداقة، وتكللانها بالبركة والصلاة. مريم أمه التي لطالما أبكاني وهو يكتب عنها، والتي حمدتُ ربي أنها كانت قد رحلتْ قبل نكسة اعتقالِه وسجنه بعام، وإلا لتحطّم قلبها وهي في أخريات أيامها. وفضيلة؛ أمي التي لم تكن تعرف شخصًا اسمه عبدالله حبيب إلا بعد اعتقالنا كلينا – عبدالله ثم أنا- في وقت متقارب في أبريل/نيسان من عام 2016. وأنا أسرد له حكاية بكاء أمي أثناء اعتقالي ومحاولاتها اللوذ بأشقائي لفعل شيء يُخرجني من زنزانتي الانفرادية، حدّ أنها اتصلت بأخي محمود الذي كان يعمل في الأردن آنئذ، لم أكن متنبّهًا لنقطة أن عبدالله لم يكن مجرد مستمع لحكاية محنة اعتقالي التي انقضت ومرت بسلام، بل سيعتبر نفسه هو السبب المباشِر لذلك البكاء. ورغم أن أمي وأبي وإخوتي كانوا يحبونه ولم يلوموه بشيء إلا أنه ظل دائمًا يلوم نفسه. كتب مرة على صفحته في فيسبوك أنه بدموع أمي تلك صار أخي دون أن يعرف.
كنا أخوَيْن في الدموع إذًا، مثلما كنّا شقيقَيْن في الاعتقال. ولعلنا ونحن نلتقي – قبل وبعد ذلك - لعدة ساعات بين الفينة والأخرى في مطعم باربكيونيشن في الموالح، أو "البيت التركي" في الخوير، أو "قهوة المكان" في القرم، أو مطعم "ليالي أصفهان" في مدينة السلطان قابوس، أو مقهى "إيتاليانو" في الموالح، أو في سيارته أو سيارتي ناهبَيْن الطريق لأداء العزاء في أُمِّ هذا الصديق أو والد ذاك الكاتب، لعلنا لم نكن نتوقع أننا سنكون متجاورَيْن في زنزانتَين انفراديتَيْن لثمانية أيام متواصلة، دون أن يستطيع أيٌّ منا أن يكلم الآخر، بل دون أن يعرف حتى أن روح هذا الآخر تحلّق حوله في مكان غير بعيد. من هنا، لم يكن مستغربًا أن أكثر الأسئلة التي طُرِحتْ عليّ من المحققين كانت عنه، ولم يكن مستغربًا كذلك أنه حين سمع سؤال كبير المحققين: "تُرى لو أحضرنا أعز أصدقائك فمن سيكون؟" كان جوابه الفوري: "سليمان".

***

قبل تعرفي بعبدالله حبيب كنتُ أظن "قتل الأب" مجرد مصطلح ينام في كتب علم النفس، أو كليشيه يستحضره ثلة من النقاد الكسالى من هواة الوصفات النقدية الجاهزة. لكنه أثبت لي عمليًا أنه مصطلح قابل أن يكون منهج حياة وخارطة طريق. لم تكن حياة عبدالله إلا سعيًا دائمًا لقتل الأب، بمعناه الرمزي على الأقل، منذ خروجه من بيت العائلة في "مجز الصغرى" ملتحقًا بجيش الإمارات وهو ابن الثالثة عشرة، وإلى وقت كتابة هذه السطور. وإذا كان "الأب" المقتول هذا يمثل السلطة في تمثلاتها المختلفة، سياسية كانت أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية، فإن الأب البيولوجي كان الشرارة الأولى على ما يبدو لتأجيج هذه الرغبة لدى عبدالله، منذ أن دخل في روعه أن أباه يود أن يفعل به ما كاد يفعله النبي إبراهيم بولده إسماعيل. وسواء كانت هذه القصة حقيقية أم من شطحات ذاكرةٍ نعرف جميعًا كيف تستطيع خلق ما تشاء من حقائق بدون أن يكون لهذا الأمر أي علاقة بفرضية الصدق أو الكذب، فإن المؤكد أن عبدالله أدرك باكرًا ألّا كبشَ يمكن أن يفتديه من الذبح. كان يدرك وهو يحمل حقيبته المعبّأة بالضغائن الصغيرة متوجهًا إلى الإمارات أنه عصفورٌ صغير، وأن عليه أن يتعلم التحليق بالقفز من غصن شجرة عالية اسمها "مجز الصغرى"، وأن يوقن بأن الوردة مهما كانت رائحتها زكية ستجرحه ذات يوم. سافر عبدالله حبيب وعاش وخَبِر الحياة في بلدان كثيرة. درس الفلسفة والسينما. قابل إدوارد سعيد عدة مرات. شارك في مظاهرات أميركية ضد حرب الخليج ونجا من الدهس فيها بأعجوبة. أَحَبَّ كلاوديا التي تقدس عيد "الهالوين"، والتي سكن في الشقة المجاورة لشقتها في نفس البناية ثم كتب عنها نصًّا في كتابه "قشة البحر" (*). عمل غاسل أطباق في أحد المطاعم مرةً، ومُنظِّفَ حمّامات مرة أخرى، وذلك عندما قُطعت بعثته الدراسية. حُبِس هناك، وقضى جزء العقوبة المتعلق بالخدمة الاجتماعية في مكتبة عامة. باختصار: عاش. وبعد أن نقّب في الآفاق، رضي من الغنيمة بالإياب كما يقول جدنا امرؤ القيس، فعاد وهو يحمل معه الحقيبة نفسها بعد أن أضاف إليها مزيدًا من الضغائن. ظل عنيدًا تجاه كل ما يؤمن به من مبادئ حدّ أنه رفض إغراءات علي بابا الذي استدعاه إلى المغارة شرط ألا يخبر أحدًا وعرض عليه كنوزها طالبًا منه بطريقة هي أقرب إلى التوسّل أن يأخذ منها ما يشاء وبدون مقابل، لكنها أَنَفةُ عبدالله حبيب جعلتْه يخرج من المغارة بسرعة أرنبٍ مذعور، خائفا أن يخسر نفسه كما يقول. وها هو اليوم وقد كسب نفسَه، - الكنز الذي لا يُقَدَّر بثمن- مكتفٍ بشقته المتواضعة في الطابق العاشر من عمارة سكنية بحيّ المعبيلة، وبسيارته الفرنسية الــ"رينو-كوليوس" التي تحمله لورِش التصليح أكثر مما تأخذه للمشاوير.


قال لي مرة بعد أن عاتبتُه على ما كاله لأبيه من تهم في أحد منشوراته على فيسبوك: "أنت - ومعزتك عندي قائمة - قد لا تعرف ما أتحدث عنه. لقد فعل بي كيت وكيت. هل تعرضتَ لذلك بالمناسبة؟ ". قلت: "لم أتعرض. لكنني أظن أنني لو تعرضتُ لذلك لكنتُ تجاوزتُه منذ زمن بعيد". رد: "لا أستطيع أن أكون مثلك، وعليّ التصرف وفق قدراتي فقط". ولا ينتهي النقاش في هذا الموضوع إلا ليبدأ من جديد بعد عدة أسابيع أو بضعة أشهر. ذات ليلة من ليالي "كورونا" حيث التباعد كان سيد الموقف، سألني في رسالة واتسب مفاجِئة، وكنّا قبلها قد تناقشنا هاتفيًا بهدوء في الموضوع ذاته: هل تعرف لماذا كانت حياة تشارلز بوكوفسكي كئيبة، ومدمَّرة، ومليئة بالعذاب؛ إدمان الكحول والمخدرات إلخ؟. وعندما أجبته بالنفي قال: "قد تستغرب. لأن والده كان يضربه على قفاه حين كان في السادسة أو السابعة من العمر"!.
وفي الحقيقة، ورغم أن سر علاقتي بعبدالله هي هذه الندّية التي تجعل كلًّا منّا مختلفًا عن الآخر في أفكاره وطباعه، وربما مكمّلًا له، إلا أن خلافه مع أبيه وفّر لكلينا المَجَسّ الذي يختبر هذه الصداقة بين فترة وأخرى، ولَطالما ذكّرتُه ببيت بشّار: "إذا كنتَ في كل الأمور مُعاتِبًا / صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه". فأنا منزعج مما أعتبرها مغالاة منه في الضغينة تجاه أبيه، ربما لخوفي أن تصيبني هذه الضغينة ذات يوم، وهو – أي عبدالله – منزعج لأنه يرى أنني غير قادر على فهم ما عاناه من أبيه. ومع ذلك لم تتأثر صداقتنا بهذا العارض. وربما ساهم التغاضي المتبادل عن بعض هفواتنا في إبقاء جذوتها مشتعلة. ورغم أننا كلينا يتعاطى الكتابة، إلا أن من برع في وصف علاقتنا هذه دون أن يقصد هو كاتب ثالث؛ الألماني مارتن فالزر الذي أَكمل وأنا أكتب هذه الشهادة عامه الثاني والتسعين، والذي هو محبٌّ لكافكا كعبدالله، وسبق له مثلي العمل في إذاعة. يقول فالزر: "ومن حين لآخر تتوهج جذوة البغضاء الحقيقية من وراء أسوار الصداقة. فنغلق أعيننا ريثما يعود التسامح الخافت، فيشعر كل واحد بصديقه، ويجود بكلمة طيبة. وحدها اللامبالاة قادرة على صون أواصر الصداقة على المدى البعيد، لأنك إذا اتخذتَ لنفسك صديقًا، فلن تستطيع أن تغض الطرف عن عيوبه إلى الأبد".
على عكس أمه وأمي فقد التقى كلانا – عبدالله وأنا - بوالد الآخر غير مرة.  وإذا كنتُ لا أبدّل بعلي بن سليمان أبًا آخر، إلا أنني أفكر الآن من باب التأمل لا أكثر أنه لو قرر القدر مبادلتنا بأبوينا فسيكون هذا حلًا يرضي جميع الأطراف. فلا مشكلة لديّ أن يطلب مني الشيخ حبيب – باعتباري ابنه - أن أصلي على النبي بكلمات واضحة وليس بـــ"صلعم"، أما ملاحظته اللغوية حول الخطأ الشائع لكلمة "مبروك" فلن تشعرني بأي امتعاض تجاهه أنا الذي أمارس هذه الملاحظات على كثير من الأصدقاء فيتقبلونها بصدر رحب، بمن فيهم عبدالله نفسه. في المقابل فإني رأيت بأم عيني كيف أن عبدالله كان مستمتِعًا وهو ينصت لسرد علي بن سليمان حكايته مع المقدم كولين ماكسويل، الضابط الإنكليزي في كتيبة الحدود الشمالية (الذي يسميه أبي كما كثير من العُمانيين "لِمْكَسْول") عندما كان – أي علي بن سليمان - جنديًا في جيش عُمان في ستينيات القرن الماضي. وبالتأكيد لم يكن أبي يعرف وهو مسترسل في سرده، أن لـ"ماكسويل" هذا حكاية شخصية جدًّا مع عبدالله تستأهل منه كل ضغينة، وهي أن هذا الضابط بالذات كان على رأس الكتيبة التي أوقفت في ولاية السويق بمحافظة الباطنة قبيل غروب يوم من أيام ستينيات القرن الماضي، رجلًا عُمانيًا كان عائدًا من مسقط رفقة زوجته وابنه الصغير متوجهين إلى قريتهم "مَجَزّ الصغرى"، لستُ أذكر ما هو السبب الذي جعلهم يخفقون في الوصول إلى النقطة العسكرية التي تقيمها كتيبة الضابط ماكسويل في السويق، غير أن ما أذكره من سرد عبدالله لهذه الحكاية أنه كان لزامًا على هذه الأسرة الصغيرة أن تقضي تلك الليلة الشتائية، كما الآخرين، في العراء قارس البرودة، وهو الأمر الذي أدى إلى إصابة الصغير بحمى شديدة أدت إلى وفاته بعد وقت قصير. لم يكن ذلك الأب إلا الشيخ حبيب المعيني، أما الابن الميت فهو ابنه البكر عبدالله، الذي كان قد سماه بهذا الاسم تيمنًا بوالده عبدالله بن حبيب بن يوسف. مات عبدالله حبيب الأول إذًا، ليولد بعد سنوات قليلة بديله أو "تعويضه" عبدالله حبيب الثاني الذي أتحدث عنه الآن. ولذا ظل عبدالله حبيب يردد أنه خرج من بطن أمه وهو يحمل على كتفه اسمين وموتين: اسم جده (عبدالله بن حبيب بن يوسف) وموته، واسم أخيه (عبدالله بن حبيب بن عبدالله) وموته، ووصف نفسه، بسخريته اللاذعة المعهودة بأنه "موت مضاعَف يمشي على رِجْلين". كل هذا لم يكن أبي يعرفه وهو يسرد لعبدالله حكاية "لِمْكَسْوَل" التي أجزم أنها ليست الحكاية الوحيدة التي سيحبها عبدالله من أبي. ماذا سيقول مثلًا عندما يسمع من علي بن سليمان حكاية سقوط عشرة من رفاقه في يوم واحد من حرب ظفار في "عقبة الياسمين"، التي لا يوحي اسمها لأول وهلة بكل هذا الموت. علي بن سليمان نفسه الذي لا يدع عبدالله أي لقاء أو مكالمة بيننا يمرّان دون أن يسألني عن صحته وأحواله. علي بن سليمان، الساخر الكبير، الذي لا يضاهي سخريته وهو يحكي إلا سخرية عبدالله وهو يكتب.

***

يبدو أن محاولتي لفهم عبدالله حبيب بالكتابة فشلت، ككل المرات السابقة، أنا الذي كنتُ ومازلتُ أقول دائمًا لنفسي: كن صديقًا لصديقك وتقبّلْه كما هو بدون المبالغة في محاولة فهمه، وإن كان لديك فائض وقت فعليك أن تنفقه في محاولة فهم نفسِك، وعليك أن تتواضع قليلًا وتتذكّر دائمًا مقولة سيوران عن كونك تعيش عمرك وأنت تكتشف كل يوم شيئًا جديدًا عن نفسك، ثم يأتي ذلك الأحمق الذي يقول لك "أنا أعرفك جيدا"!.

(*) "قشة البحر"- مجموعة قصصية لعبدالله حبيب صدرت في مسقط عام 1994

[من كتاب جديد يصدر قريبا للكاتب عن دار نثر العُمانية]

*كاتب وإعلامي عُماني

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.