بصوتٍ مرتبِكٍ طلبَت الأمُّ وبنتُها وهما تتعوّذانِ وتُبسملانِ أن يستبصرَ الشيخُ البيتَ الجديدَ، أغمضَ عينيهِ واضعًا راحةَ يدِهِ على جدارِ غرفةِ الاستقبالِ: على هذهِ الأرضِ صرعَ فارسٌ جاهليٌّ أسدًا، هنا أيضًا وُئِدَتْ فتاةٌ بتهمةِ الخيانةِ، المتنبّي وقفَ بهذهِ البقعةِ كاتبًا قصائدَ لم تصلْنا. بعدئذٍ انتقلَ إلى جدارِ المطبخِ: أسمعُ آدمَ يبكي، أرى بحرًا يتضاءَلُ إلى قُطيرةِ ماءٍ فتشربُها نملةٌ مُعمَّرَةٌ تَدِبُّ الآنَ شرقَ البرازيل. ثُمَّ بلغَ غرفةَ النومِ: إذا قامتِ الساعةُ فإنّ النائمينَ بهذهِ الغرفةِ لن يسمعوا نفخةَ البوقَ وسوفَ يُكملونَ أحلامَهم.. إقشعرَّتا وهما تُنصتانِ إليهِ ساردًا أحداثًا من أزمنةٍ ماضيةٍ ومستقبليةٍ حصلت وستحصلُ في مِساحةٍ لا تتجاوزُ مئتي مِتْرٍ.
شاعَتْ أخبارُ قارئِ الجدرانِ في المدينةِ فتضرَّعَ إليهِ الناسُ؛ هذا يسألُهُ عن قبرِ جدِّهِ وذاكَ يسألُهُ عن نسبِهِ، العشائرُ تُحكِّمُهُ فيما شجَرَ بينها من أراضٍ مُتنازعٍ عليها ومُخابراتُ الحكومةِ تستلذُّ بكشفِ مُخطّطاتِ الدولِ السِّريَّةِ؛ فعمَّتْ الفَوضى وسالت الدماءُ واشتعلت الحروبُ وقارئُ الجدرانِ ضاحكًا مُقهقِهًا يصعَدُ الدرجَ إلى عزلتِهِ..