}

المنسي

المعتصم الخالدي 3 يوليه 2020
سير المنسي
(تمام عزام)

تنسى! كأنك لم تكن شخصًا، وكأنك لم تمر بالأيام واللحظات، كأنك لم تصبح في ذكريات الذاكرة ورقة خريفية على أرصفة أيلول، وكأن الإنسان من نوع عربي لم يخلق ليستريح في عالم شره ظالم لا يوحي بالإنسانية، ممنوع عليه الكلام، ممنوع عليه الصراخ.. ليصرخ.. ليسمع الكون صراخه.. ليحرق الفضاء والمدى، وكأنه خلق أسيرًا للنسيان، النسيان ولا شيء غير النسيان..  فالعربي من المحيط إلى الخليج ضحية الوهم، وعنتريات القادة.. لا يتسنى له أن يتأمل أو يفكر.. ضحية الفقر والتطرف، وضحية الصراعات الآدمية التي لا تنتهي.. يدفع في كل مرة ثمن الانهيارات الحضارية والتصادمات المجنونة.. لا ينعم بالحرية، ولا يرى شمسها، تحكمه شياطين.. ويجلده طغاة همهم البقاء على عرش فرعون.. يحاصره البؤس.. لكنه يحلم.. أكثر إنسان في الأرض قادر على صناعة الحلم هو العربي، وسرعان ما تنتهي، أو تجهض أحلامه بقدم عسكرية، أو فتاوى معلبة على مقياس الزعيم المفدى.. العربي يحب.. ويعشق رائحة الهال في فنجان قهوته، ويغني ويهوى أن يسمع البلابل تغني.. العربي عاشق للحياة للبناء للمستقبل.. لكن الخفافيش تحاصر منزله العتيق.. العربي يتغزل بياسمين دمشق.. وفي دمشق لم يعد ينام الياسمين.. لا شوارع الرباط تعرفه.. والقاهرة الكبرى تغيرت تمردت تعسكرت.. وحمام أسوان هاجر.. النيل تخلى عن سماره.. كل شوارع العالم تعرف العربي

بغربته بصمته بقهره.. إلا شوارع مدننا لا تعرف عن أبناءئها شيئًا.. بحر بيروت امتهن الاغتيال.. وسورية العظيمة لم تعد كذلك. غرق العربي في بحر الهروب واللجوء ومتاهة الضياع.. في أزمات الحكام، وتسلط أزمنة الطائفية والعنصرية والعرقية.. لا شيء يضاهي صبر العربي.. جبروته.. اشتياقه لنور الحرية.. ولن أنسى مهما حييت مشهد الميدان، ولوز حمص، وورود غياث مطر في داريا دمشق.. ولا الربيع الذي لا ينسى، لا شيء في هذا الكون الواسع بعظمة ضحكة العربي بعد الألم بعد الانتظار.. وبعد سنين الظلم، وتراتيل الدم التي لا تنتهي.. أنا لا أشفى من ذاكرتي.. ومثلي العربي لا يشفى من ذاكرته.. لا يغرق في عتمته.. ولا يخاف ظله.. لكنها حكايات التاريخ من تعيد نفسها وتهوى التكرار.
أقوام كثيرة سمعت عن "طبائع الاستبداد"، لكنه العربي وحده من قرأها وأتقن مفرداتها.. وحده من يعرف المستبدين ويحفظ صفاتهم.. وحده لم يسبقه إلى العذاب أحد أرضه جنة ونار وعليها يعاد رسم خرائط الأوطان برسم السياسة والتاريخ وبحكم المصالح الآنية للجميع.. فقير الوطن..  فقير الكلام.. صاحب الصمت المهيب.. والغضب المخيف.. في كل مساحة يزرع بنفسجة.. وكل لحظة يموت له ولد.. قلبه كنز من الأمنيات والأسرار، وروحه خليط من الماضي والحاضر.. ومستقبله غامض يعتريه الضباب.. اسمه مكتوب على كل باب.. وله القليل من الأصحاب.. وكثير من الطامعين.. لا يكره الأغراب.. ولا يحقد على أحد.. يشرق مع الشمس صباحًا.. ويسهر مع القمر، وينام مع الليلك.. يعمل حتى التعب.. وتتساقط حبات العرق بنية من جبينه.. وكأن الشقاء مكتوب له وعليه.. يحب أرضه ويعطيها كما تعطيه، ولا يدري ما سر الحزن الذي يصاحب أرضه وماله، ولا يدري لماذا يضحك أو يبكي.. برغم كل الأتراح والمآسي التي مرت به ظل يفرح ويضحك ويهدي للنجمات ابتساماتها.. وحده العربي الضائع والتائه بين ثنايا القصص القديمة.. وحده المكبل بالعادات، أسير الزنازين المخفية.. العربي كمن لا أخ له ولا أم، الوحيد المقاوم لواقعه المر، وحده المنتشي بالربيع والمتأمل بصفار أوراق الخريف، وحده الريفي الجميل، الظالم والمظلوم، المستبد والعادل، صاحب النور وشاغل الدنيا، من رفض الظلام وأشعل وسط ظلامه شمعة، وحده البسيط والفقير والغني والأمير في مخيلته، وحيدًا مع النسيان.. هو الإنسان العربي المنسي والمنسي والمنسي إلى الأبد!

مقالات اخرى للكاتب

شعر
7 يناير 2021
سير
3 يوليه 2020
يوميات
7 يونيو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.