}

أيام الوباء

بسام شمس الدين 4 أغسطس 2020
سير أيام الوباء
(بيير باولو ريفيرو)
توقع الناس هنا أن عام 2020 م لن يكتمل، لأن الحياة سوف تنتهي بطريقة ما، بعضهم يقول إن كويكبًا صغيرًا سيضرب الأرض، وآخرون يتحدثون عن قدوم نيزك ضخم في اتجاهنا، وهناك من يقول ستنتهي بالوباء، والقلة يكونون متفائلين ويرددون قائلين لا شيء سيحدث، وقد سبق أن فشلت حسابات شعب المايا القديم الذي ادعى أن الحياة ستنتهي في ديسمبر 2012م، ولكن الحياة انتصرت.
وفي مدينتي التي أحتل حيزًا في أحد أحيائها الشعبية انتشرت أخبار قدوم وباء سريع الانتشار يدعى كورونا يصيب الرئتين بالتلف، ويقتل الأشخاص الضعاف المقاومة، والمصابين بالأمراض المزمنة، وأتت الأنباء لتفصح أن المدارس والجامعات، ودور العبادة، والمؤسسات، والمصانع، والمطارات، والمطاعم، وغيرها، أقفلت في أوروبا وآسيا وغالبية دول العالم، كما أوقفت وسائل المواصلات والرحلات بين الدول، وهرب الناس مرعوبين إلى منازلهم، وأقفلوها على أنفسهم، حتى بدت المدن مهجورة، وشوارعها شبه مقفرة، ولم يعد يلوح في الطرقات سوى بضع رجال شرطة يرتدون ملابس واقية كاتمة، بحيث يشبهون رواد فضاء على كوكب غريب، ويقومون بفرض حظر التجوال بالقوة، وضبط المخالفين. وفي وسعك من حين لآخر أن تشاهد سيارة إسعاف وحيدة، تسير لالتقاط المرضى لترميهم في محاجر صحية لا يخرجون منها حتى يشفون، أو يموتون. ورغم هذه الإجراءات، ظل الوباء ينتشر في أوساطهم، وصار الموتى يدفنون في مقابر جماعية من دون طقوس جنائزية، أو يحرقون بأفران خاصة من الحديد المصفح، ولن نتحدث عن الخسائر المادية والبشرية في تلك البلدان البعيدة، لأن ذلك قد يكلفنا أيامًا من الحسابات والإحصاءات، لا سيما أن الوباء لم يذهب بعد، والأرقام ترتفع كل لحظة. ورغم ذلك، تلقى مواطنونا هذه الأخبار باستخفاف، بحيث صدرت النكات الطازجة، وأخذ المواطنون يسيرون ضاحكين بلا مبالاة في الشوارع والأسواق، والمصلون لم يكفوا عن ارتياد المساجد خمس مرات في اليوم ليصلوا متلاصقين، وبعد صلاة الجمعة يتصافحون بحرارة، متذرعين بأننا شعبٌ محاط بالعناية الإلهية، ناهيك عن أن البلد غارق في مشاكله وحروبه الخاصة، ويعاني من أوبئة عديدة أخطر من كورونا حسب زعمهم، بل ويظنون أن هذا الوباء قد أتى وذهب من دون أن يشعروا بمروره، أو ذهابه.
كانت حمى الضنك، وما يدعى المكرفس، وأوبئة أخرى غامضة مستشرية في تهامة والمناطق الساحلية، وحمى الكوليرا صعدت إلى المناطق الجبلية في الشمال، وأخذت ما قدر لها أن تأخذه من المواطنين، حتى أصيبت بالغثيان والتقزز، وهذا جعلهم يؤمنون أنهم باتوا يملكون مقاومة شديدة للآفات والمتاعب، لأنهم ببساطة يعيشونها منذ الأزل، وليس في وسع شيء أن يكسرهم، حتى الموت لم يعودوا يخافون منه مثل الآخرين، بل يتوقون إليه لأنه يأخذهم إلى الجنة الموعودة. لا بأس، هذه حال الأشخاص الذين يعتنقون فكرة الخلود، ويرون أن الموت والحياة متصلان، ولا فرق بينهما، لكنهم يقولون ذلك بإيمان صلب من دون أن يستندوا إلى فلسفة، أو علم ما، بل إن الغالبية العظمى منهم آمنوا بالوحي القديم، وما زالوا ينتظرون المهدي المنتظر، ودابة الأرض، والمسيح الدجال، والحروب والكوارث، وأخيرًا الصيحة الموعودة.
في يوم الجمعة، التي وافقت منتصف شهر رمضان من هذا العام البغيض، راجت شائعة أن الصيحة ستصدر عند الفجر، فحشد الناس أطفالهم في غرفٍ معتمة، وسدوا آذانهم بالعُطب، ولم يكفوا عن الاستغفار والابتهال. ولم يحدث شيء لحسن الحظ، وخرجوا في اليوم التالي وهم يضحكون غير مبالين بهذا المقلب الذي تلقوه. ومع ذلك، هنالك قليل من الأشخاص بقوا مرتابين، وآمنوا أن هذا الوباء لا يمزح، فلبسوا الكمامات، وأغرقوا أيديهم بالمحاليل المعقمة، وحرصوا على نظافة أجسادهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعتقلوا أنفسهم في منازلهم، لأنهم سيموتون من الجوع والإهمال، وباتوا يسيرون خائفين متلفتين حولهم بحذر، وكان معارفهم الذين لا يخافون من الوباء والموت يهرولون لمصافحتهم، أو عناقهم، فيجفلون ويهربون مرعوبين، ويتعالى الضحك حولهم ويقال عنهم: "انظروا كيف يخافون ويهربون!". استمرت الحال بضعة شهور، حتى ظن معظم الناس أنهم باتوا محصنين فعلًا من الأوبئة، وأن عناية الله تحيط بهم، لكن هذا الوباء لم يكن يعرف ذلك، وأتى مهرولًا لا يلوي على شيء ليتوغل في صدورهم، ولم يعودوا يستطيعون الكلام بسبب السعال الجاف.

 

*قاص وكاتب من اليمن.

مقالات اخرى للكاتب

قص
1 يناير 2021
قص
9 أكتوبر 2020
سير
4 أغسطس 2020
قص
15 مايو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.