}

كذلك كان البحر حين التقينا

كاهنة عباس 22 سبتمبر 2020
سير كذلك كان البحر حين التقينا
(سعد يكن)

ها إنني أنزع عن عبارة "البحر" صورتها الكلاسيكيّة، بكلّ ما تعنيه، وما قد توحي به، لأدمجها من جديد في هذا النّص، فإذا بالبحر كائن حيّ متّصلّ بالحاضر وبالمكان، متجاوزًا  العالم اللّغويّ نحو ما هو حسيّ وآنيّ.
كذلك التقيت به في لحظة ما، تارة بهديره الصّاخب وحركته المستمرّة، وطورًا بهدوئه الظّاهر. نعم، لقد التقيت بالبحر، خارج القصص والحكايات والأساطير القديمة، خارج كلّ ما يذاع ويبثّ عنه، بل وخارج كلّ القصائد، وكلّ ما روي عنه، بما في ذلك بعض صوره الفوتوغرافيّة الرّومانسيّة، ومشاهدها الرائعة المتشابهة. وأثناء لقائنا، كنت أسمعه في داخلي كأنني عهدته أبدًا، حتّى أضحى قريبًا من وجداني. لم أشعر بالحاجة إلى رسول يجمعنا ليترجم ما يجول في داخل كلّ منا، لقد رأيت البحر، وكان متعلّقًا بالرّيح، رغم المسافة الفاصلة بينهما، كان وجها للصّمت، ووجهًا للماء، عنيدًا عميقًا مكتفيًا بنفسه.
لا أحد يعرف نشأة البحر، قد يكون أزليًّا غارقًا في القدم، فلم يسجّل التّاريخ من أحداث تخصّه سوى قيام العواصف، وضياع الجّهات، وغرق السّفن العابرة، وتيه البّحارة، وفقدان المغامرين منهم.
البحر ليس امتدادًا، بل طوفان سكنه الهدوء، فبات ملازمًا لدورة النّور والظّلمة، وتغيّر الفصول، من دون خضوعه لها، فما يحرّكه هو نظام خفيّ جعله قادرًا أثناء مدّه وجزره على احتضان الدّنيا، بما فيها، وما عليها.
كم مدن غيّبها، وجبال هدّمها، وجزر بعثها، إنّه السّجل الّذي كتبت الأيّام واللّيالي على صفحته همساتها وسكناتها وحركاتها، فكان الكتاب الصّامت لكلّ ما يحيا.
كان لقاؤنا غراميًّا مجنونًا، قد أفلح في إسقاط قلاع المعنى، وما تنقله لنا اللّغة من تصّورات، فاستطاع بذلك أن يلامس وتر الدّمع داخل نفسي الغريبة، وأن يخاطب طعمه المالح، وأن

ينصهر فيه حتّى التّوحد التّام، فإذا برغبة جامحة في الرّقص تعتريني تحت أمطار البكاء المطهّرة، كذلك علّمني البحر أن أكون، أخبرني بأن الأصل في كلّ شيء هو الصّفاء، وأنّ البكاء هو ابنه الشقيّ الضّائع، وأنّ الماء والمطر والأنهار والوديان، وكلّ ما ينبعث منها، هي الّتي منحت الموجودات إمكانيّة التّجلي في أكثر من صورة.
لقد أوصتني قطراته العذبة أن لا أرى صورتي فيه، بل أن أغتسل بمائه، أن أستسلم له الاستسلام الكامل، أن لا أنتظر منه شيئًا، لا حرفًا، ولا كلمة، لأنّه السّخاء بعينه، منبع الألحان، ما يقوله الموج حين يرتمي بين أحضان الصّخر إلى أن يتفتّت.
ومع أن البحر ثلاثيّ الأبعاد، لكنّه لم يبح بعد بكلّ أسراره، تخفي أعماقه عوالم سّفليّة، بها موجودات بعيدة عن الأنظار، مستغنية عن الفضاء والهواء، ما ينفكّ خيط لا يرى يغّني على سطحها، فتنتشر ألحانه على الشواطئ الموجة تلو الموجة، هو الرابط بين صفحة الماء والرياح والسماء.
لم يتحقّق لقائي بالبحر إلّا عندما انتابتني هذه الحالات: الوحدة والصّمت، ثم الاكتفاء بنفسي، الشّرود وتجاوز ذاتي المتمرّدة، فتقبلّ رائحة الأملاح، اعتزال الدّنيا والحياد، لأنّ البحر ليس طريقنا إلى السّفر والمغامرة، كما قيل لنا، وما زال يقال، بل هو السّفر بعينه، الباب الّذي يفتح على ألوان الأفق المتقلبّة، التي تشير إلى وجود عالم مغاير نجهله.
فالبحر هو "اللاّمكان"، الفاصل بين مدينة وأخرى، وشمس وأخرى، وبلد وآخر، لم يحتفظ بأثر

للبشر سوى خطاهم الزّائلة تمحوها الشواطئ في الحين، أو سفنهم المهاجرة الّتي لم تعرف قطّ الاستقرار، ففي الظّاهر تسكنه الشّمس والرّيح والسّماء، وفي الباطن الأسماك والحشائش واللؤلؤ والمرجان، وغيرها من الكائنات الأخرى.
لأنّه "اللاّمكان" الخاضع لزمنيّة أخرى، فهو من يحدّد مواقع الأرض، لذلك لا تحمل البحار أسماء الملوك، ولا المدن القديمة، ولا الأمكنة، ولا تواريخ الحروب، بل أسماء الجهات والألوان، وربما بعض الأساطير: مثل البحر الأبيض المتوسّط، والبحر الأحمر، والمحيط الأطلسيّ، أي أنّه يعرف نفسه بنفسه.
لقد كشف لي البحر عن المحجوب، بأن رفع الغطاء عن مياهه، حتى بانت قصوره الأفقيّة الواقعة في أعماقه، قال لي هامسًا، لك منّي هذه النصائح الخمس:
لا تحتفظي بشيء.
لا تندمي على شيء.
لا تتعلقي بشيء.
لا تقلقي على شيء.
لا تنتظري أيّ شيء، اقتداء بالماء الّذي يختزل لحظة الوجود والفناء، الصّورة الممكنة والشكل الذي يجسّدها، ما يغيب ويحضر، ثمّ اقتداء بالرّيح الّتي لا ترى، تحرّك كلّ شيء، وتزيل كلّ شيء.
وبعد ذلك، باح لي بأسرار أخرى لا يسعها هذا المجال. لن أذكرها.
كان ذلك لقائي بالبحر.

 

*كاتبة من تونس.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 يونيو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.