}

حكاية ابن المرحوم.. تسع سنوات على رحيل الأب

هشام أصلان 23 يناير 2021
سير حكاية ابن المرحوم.. تسع سنوات على رحيل الأب
(آدم حنين ـ مصر)

1
وصلتني دعوة من سفارة إحدى الدول العربية الشقيقة لحضور حفل تأبين أبي، وذلك بعدما توفي بحوالي شهرين أو ثلاثة. والتأبين ضمن صالون ثقافي تقيمه السفارة شهريًا. أصدقائي القريبون يعرفون أنني أتهرب مما يخصه لأسباب يطول شرحها، ولكن فكرت أنه تأبين ولا يصح التهرب منه وإلا أصبحت فضيحة، خصوصًا أنه، ولأسباب يطول شرحها أيضًا، لن يعوض عدم وجودي أي من أفراد الأسرة.
ذهبت في الموعد، وقلت لهم عند البوابة: أنا فلان، فقالوا: "معالي السفير في انتظار حضرتك"، وأوصلوني إلى القاعة التي سيقام فيها حفل التأبين، ليستقبلني السفير العربي بنفسه على باب القاعة، بينما لم يكن أحد من المدعوين قد وصل غيري. والقاعة عبارة عن صالة واسعة بها مقاعد مريحة مرصوصة في دائرة.
بعد قليل بدأ المدعوون في الوصول واحدًا تلو الآخر. كانوا جميعًا شخصيات سياسية وثقافية معروفة من عدة دول عربية، وفي كل مرة يدخل أحدهم، يقف السفير للسلام عليه وتحيته، قبل أن يشير إليّ قائلًا: "الأستاذ هشام، إبن المرحوم"، يحدث ذلك بينما أحاول جاهدًا التصرف بطريقة تليق بابن مرحوم في ظروف كهذه. بعد قليل جاء جرسون وانحنى أمامي يسألني: "حضرتك تحب تشرب إيه؟". طلبت شايًا، وشعرت بالحرج أن أقول إنني أريده "كشري". ابتسم، وذهب يسأل باقي المدعوين. كان بالقرب مني اثنان من الشخصيات السياسية المصرية المشهورة جدًا. وكان من حسن حظي أنني سمعت:
قال له الأول، بصوت عال: "آخد ريد واين"، بينما طلب الثاني: "ويسكي بلاك من غير تلج، تلت الكاس ويسكي وتلتين ميه".
ووجدتني أنادي الجرسون بتلقائية قبل أن يذهب بعيدًا، وسألته بعدما فتحت أزرار الجاكيت وارتحت في مقعدي:
ـ "هي إيه أنواع الويسكي اللي عندك؟"
قال: "كل اللي حضرتك عايزه موجود".
قلت: "طيب إنسى بقى حكاية الشاي دي وهات لي شيفاز تلج كتير".
وابتسمت بارتياح كبير وأنا أفكر: "يا واد انت ابن المرحوم شخصيًا، وأكتر واحد في القعدة دي من حقه يشرب اللي هو عايزه". وعندما جاء دوري للحديث وقفت واضعًا يد في جيب البنطلون، والمايكروفون في اليد الأخرى، لأقول كلامًا أشعل القاعة تصفيقًا، قبل أن أتحرك باتجاه البوفيه موزعًا الابتسامات على المدعوات والمدعوين.


2
منذ أيام، مرت الذكرى التاسعة لرحيل أبي، وهذا أمر مدهش..
تذكرت يوم حدثت صديقا تشكيليا عن كيف لو أنني كنت موهوبًا في الرسم لأصبح الأمر أسهل. كنت سأُخرج ما أحتقن به خطوطًا وألوانًا، أصوّر المشهد تلو الآخر وتنتهي الحكاية. لن أحتاج إلى حيل فنية لتوسيعه، ولن أقع في مزنق الفراغ بعد الفقرة الثانية أو الثالثة، لن أضطر للثرثرة في محاولات وضعه داخل سياق. صديقي كاد ينهار ضحكًا بينما أشرح له تصوراتي.
أعرف أن المسائل ليست بهذه البساطة، لكنها محاولات البحث عن مخرج للحكايات دون الدخول إلى دائرة الحكائين. خمول شديد ينتابني كلما تصورت ما عليّ اجتيازه لدخولها والبقاء سليمًا، من غير أن تمسني تلك السكاكين التي تقطّع المحاولين من أبناء الأدباء.
"لا عليك، أنت لست مضطرًا لأن تصبح كاتبًا، كل أبناء المشاهير يواجهون مشاكل مثل هذه، وتنتهي بمرور الوقت"، يقول أحدهم.
الكتابة، أو للدقة مشاركة الكتابة، احتياج. عليك، إذًا، تأجيلها طالما استطعت التنفس، وطالما أنك قادر على صياغة عالمك بمراوغة، والبوح دون الدخول إلى الدائرة، أقول لنفسي.
هناك دائمًا ما تتحدث عنه بوصفه لا يخصك. تدافع عن أهمية المقال الأدبي مدعيًا الاكتفاء بما يحققه لك. صيغة مريحة تلك، التعرض لانشغالاتك وما تبحث عنه من إجابات لأسئلة ورغبة في الحكي، قراءة في كتاب لامس مدخلًا شخصيًا، مقال عن كاتب تخرج فيه عن الموضوع متكئًا على نقطة هنا أو هناك، بورتريه لشاعر حدثتك عنه صديقة قديمة. هكذا أنت ستكتب ما يشغلك من خلال الكتابة عن الآخرين. غير أن هذا لم يمنع، الجلوس، بين حين وآخر، أمام بعض المحاولات الخاصة على سبيل التجريب، وكتابة عدد من النصوص التي لن تستطيع تصنيفها في ذلك الوقت.
الموضوع يحتاج إلى انتصار خالص للذات، في معركة الخلاص من محيط أب يعتبره كثيرون أحد شيوخ الحارة. ستحاول التعامل مع نفسك بقسوة. لن تمد يدك، كلما داهمك الحنين، إلى المكتبة ملتقطًا أحد أعماله في محاولة لاستعادة أيامك معه. عليك مقاومة افتتاح عملك الأول بمدخل على غرار "جبال الكحل تفنيها المراود"، والاكتفاء، تجاهه، بحنين من نوع آخر.


عرف أن المسائل ليست بهذه البساطة، لكنها محاولات البحث عن مخرج للحكايات دون الدخول إلى دائرة الحكائين. خمول شديد ينتابني كلما تصورت ما عليّ اجتيازه لدخولها والبقاء سليمًا، من غير أن تمسني تلك السكاكين التي تقطّع المحاولين من أبناء الأدباء.


3
"أبوك كاتب عظيم، لكنك لا بد أن تقتنع بوجود عظماء غيره، وأن هناك كتابة رائعة تأتي من مناطق أخرى، وبتقنيات مختلفة"، يقول أحدهم.
يسألك صديق عن وجود علاقة بين اطمئنانك إلى نشر نصوصك، وبين رحيل الأب، وأنت تفكر في الأمر بجدية. هي سذاجة لو أنك صدقت التخلص من أثره، أو حتى التخفف منه بمجرد الرحيل، وهو ممن يزيدهم الموت حضورًا. لكنه، ربما، تغيير دائرة العلاقات التي تكونت عبره، ومساهمة هذا في توسيع دائرة النظر واختلاف الذوق.
اقتنعت أخيرًا أن كثيرًا من الكتاب الكبار لم تكن لهم غرفة في مكتب جريدة الحياة في القاهرة، ولا يقودون سياراتهم بصعوبة بين شوارع جاردن سيتي، وأن الكثير، أيضًا، من الأعمال العظيمة لم تُهد إلى "ذكرى الصديقين، أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله"، وأن بعض العظماء، لم يربوا آذان أبنائهم على موسيقى "شهرزاد" أو "كارمينا بورانا".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.