}

معاناة السيدة كلثوم مع الوباء

بنسالم حميش 15 ديسمبر 2021
يوميات معاناة السيدة كلثوم مع الوباء
(هدى بعلبكي/ لبنان)

 

هذي صديقة مناصرة لقضية المرأة ولحداثةٍ تصفها بالعاقلة. جميلة بقدر ما هي ثائرة على الظلم والطغيان. سألتها بالهاتف ذات مساء:

- مرحبا لالة كلثوم. بما أننا في الهوى سوا كما يقال، كيف أنتِ تدبرين أمر هذا التعزُّل اللي تفرضه علينا جائحة فيروس كورونا؟

- ماذا عساي أقول يا صديقي؟ كاذبة أكون لو ادَّعَيتُ أني أُحسن تدبيرها. معنوياتي في تدنٍ ملحوظ. وأنت تعرف مدى التزامي وشغفي بالحركة، وتتصوّر بالتالي ما أعانيه مع هذا الفيروس اللعين من شعور هو أشبه بشعور من بُتِرَت على حين غرة ساقاه. لم يعد مسموحًا لي حتى بزيارة قبور والديَّ وزوجي، ناهيك عن الخروج لغير ذلك. مضطرة أنا للخلوة والسكون، في انتظار نبأ سعيد لا كذب فيه، نبأ طال أمد انتظارنا له، يحمل إلينا بشارة زوال الوباء ومن ثم رفعِ الحجر عنّا رفعًا مخلِّصًا لا خوف بعده ولا خطر. وأنا بين هذا وذاك أحاول مراوغة السأم، العدو الذي قال بودلير إنه بمثابة نصف العدم، لكن أراني لا أجد إلى تبديده سبيلًا. نومي ليس نومًا بل كوابيس. 

شعرت بغور جرح صديقتي وألم الإهانة الذي يقض مضجعها، فانطلقت، تخفيفًا عنها، في استعراض إنجازاتها في الدفاع عن النساء المعنفات والأمهات العازبات أو الوحيدات والفقيرات وغيرهن. بعد بُرهة أنبأتني أنها وضعت واقيتها للخروج قصد شراء بعض القوت. صمتت لحظة ثم قالت بصوت استعاد هدوءه:

- واقيتي أنا من ثوب قابل للغسيل ورثْته عن أمي الطنجوية، وهو يناسبني ويحميني لدرجة أصبحت معها أفكر في تسجيله كعلامة تجارية مع إضافة زهورٍ مرسومة لأجعله وقفًا على النساء، وسأسند أمر إنجازه إلى سيدة شابة تعمل في الخياطة كي تستفيد من ربحه، فيما سيعمل زوجها على إنتاج واقيات مماثلة للرجال فقط.

استطردتُ مثمِّنًا خيارها وفكرتها:

- إذاً فعلى شاكلة شعار "الزواج للجميع" في فرنسا سنصبح وبلدان غربية أخرى غدًا على شعار "اللثام للجميع"، تمامًا كما ما زال عليه الحال مع الطوارق وكان السائدَ أيام دولة المرابطين، الذين كانوا يُعرَفون أيضًا باسم الملثمين، كناية عن اللثام الذي كانوا يلفون به وجوههم اتقاءَ حر الرمضاء وسهام الرمال الدقيقة الحامية. فيا له من تكريم لهم بعد ما يزيد على ألفِ سنين! ويا لها من سخرية بعُداة الإسلام والموغلين في تبني إيديولوجيا اليمين العنصري المتطرف الموغل في الشعبوية الفجة... لا علينا، سأتركك عزيزتي كلثوم لمشاغلك. اعتني بنفسك، ودمت في رعاية الله.

*

بعد ذلك بيومين تلقيت من كلثوم رسالتين بالمايل تؤكد بهما توصلها بنصين من لدني قالت إنهما أضحكاها وأبكياها في آن معًا، وتعدني أن تروي لي الكثير من الحوادث والطُّرَف حالما نستعيد حريتنا في التحرك واللقاء. وفي انتظار ذلك أعطتني بضعة عناوينها: فهذه مراهقة ألقت بنفسها من النافذة حزنًا على موت حبيبها بكوڤيد 19؛ وأخرى خطيبها اختفى حيث لا تدري ولم يعد؛ وهذه صديقة لها حاولت الانتحار مرتين لكن محاولتيها بقيتا بحسب تعبيرها دون إنجاز؛ وذاك صديق يروي لها عن زوجين يقضيان سحابة يومهما في كيل الشتائم أحدهما للآخر تفاديًا للجوء إلى التشابك بالأيدي، فتشبهه هي بالفيروس القذر ويرميها هو باسم كورونا القاتلة... أما إحدى صديقاتها فقد عادت إلى التدخين بعد فطام دام ست سنوات تباعًا، وجعلت تدخن بشراهة لا نظير لها، وذلك منذ أن سمعت أن النيكوتين يبيد ڤيروس كورونا عند بداية ظهور الأعراض الأولى بل وحتى قبلها. أما النبيذ فواصلت شربه لكن بعد تسخينه، لأنه حسب زعمها يزعج الفيروس أو يدوخه... وأخيرًا حكت لي كلثوم عن ابنة خالة لها داهمها كابوس رأت فيه كوڤيد 19 وقد استحال وحشًا متشحًا بالسواد، يضع على وجهه قناعًا من الجلد المخطط تفوح منه رائحة نتنة، وعلى رأسه تاج مزخرف بالمسامير والإبر. جاءها فصلبها على سريرها واغتصبها بوحشية بالغة. أفاقت من نومها مذعورة مبللة عرقًا وقلبُها يكاد من الخفقان يسكتُ أو يحيد عن وعائه. وقد أخبرت بذلك طبيبتها التي نصحتها بأن تأخذ حمامًا دافئًا ودواء مهدئًا وأن تستنزل على نفسها السكينة والهدوء. وقبل توديعي الصديقة تعهدتُ بموافاتها قريبًا بيوميات تعزلي، كما وعدتني هي أن تبلغني بمستجدات نضالها الجمعوي الإغاثي.

بقيت وحدي، انصرفت إلى أخبار العالم أستطلعها، فكان أول ما تصدر منها أن هذا الڤيروس الذي لم يفلح أهل الاختصاص بعد في التعرف على مكونه الجيني الضار، فبث في الناس فوضى عارمة لا مثيل لها، وأرعبهم في البر والبحر والجو، حدثٌ لم يسبق للإنسانية أن رأت له مُشاكلًا، من موتى بالآلاف المؤلفة وقبور ملأت الأرض على امتدادها، واقتصادات نزلت إلى الدرك الأسفل، ومقاولات تعاني من الأفلال بل الاحتضار، ودول من المنظومة الأوروبية صارت على جُرفٍ هارٍ، وقوة اقتصادية أولى في العالم والولايات الأميركية المتحدة، التي سجلت مليون مصاب، وتعيش أزمة لا صنو لها وتقف عاجزة أمام ملايين المعطلين، وانحدار ثمن برميل البترول إلى صفر دولار، مما دعا الدولة إلى الحجر عليه هو أيضًا، في حينٍ واصل رئيسها الإنجيلي، جلاد الفلسطينيين وخادم إسرائيل الوفي، ارتكاب الخطأ تلو الخطأ والمصيبة تلو الأخرى، فيما هو يتمسك بصلابة موقفه خوفًا من السقوط، ولا يجد أدنى حرج في نعت الكلام عن الاحترار المناخي بالكذب، ولا في حرمان منظمة الصحة العالمية من المساهمة الأميركية (كما فعل مع اليونسكو قبلها)، وذلك بحجة أنها لم تتنبأ بظهور الوباء ولا في الإدلاء على الملأ أن ماء جافيل وغيره من المنظفات مفيدة في محاربة الفيروس وأنه من اللائق بالتالي حقن المرضى به. ويروى أن من أسر له بهذه الوصفة العجيبة هو أحد علماء الفيروسات الفاشلين. أما الدول السائرة في طريق النمو فستحاول البقاء على قيد الحياة عبر الاقتراض من المؤسسات النقدية الدولية طمعًا في انطلاقة جديدة، راهنةً بذلك حريتها وخياراتها ومستقبل شبابها، أي سيادتها السياسية والاقتصادية وحتى ما وراء ذلك.

وأخيرًا فمتى تم التحكم في الوباء، بعد معاودات لا يستطيع أحد التنبؤ بها، فإن سطوته وعواقبه لن تقف عند حد القطاعات التي أشرنا إليها، بل ستمتد إلى المجال النفسي- الجسدي. ولذلك فسيكون أمام الأطباء النفسانيين الكثير من العمل مع الذين سيعيشون الحداد لزمن مديد بل ومع المصابين بالذهان والاكتئاب والانهيار العصبي وغيرهم من المرضى الحاملين لندوب خلفتها جراح لن تندمل بسهولة، فكأنهم قد سُلخوا أحياء، أولئك الذين يعانون من قساوة مفرطة مهينة، أفرد لها ميغويل دي أونامونو كتابه "الشعور التراجيدي بالحياة"... ذلك ما راسلت به السيدة كلثوم ولم تردَّ على إذ أتاني نعيها من بعض صديقاتها، فحزنت للخبر المشؤوم حزنًا ممضًا مديدًا، ونظمت في رثائها أبياتًا حرّى مؤثرة دأبت على الهمس بها مع نفسي أو كلما زرت قبرها بين قبور شتى من كل الأحجام لا يحدها البصر.

وأمسيت جراء وفاة كلثوم كثيرًا ما أذكرها فأرسل دموعًا حرّى غزارًا. 

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
15 ديسمبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.