}

غرفة تخصّ المرء وحده..

وداد نبي وداد نبي 25 يناير 2022
يوميات غرفة تخصّ المرء وحده..
آنا آنكر، الغرفة الحمراء، 1904

 

 

لسنواتٍ طويلة اعتدت القراءة والكتابة في بيت العائلة، جالسة على السرير أو على السجادة الصوفية أرضًا، بالقرب مني المدفأة الكهربائية الصغيرة في غرفة نومنا أنا وأختي. الغرفة كانت مليئة بالفوضى، سرير وماكينة خياطة والدتي ومجموعة كبيرة من خزن الثياب، وأجمل ما فيها مكتبة صغيرة تحوي عدّة رفوف من الكتب. فوق السرير مباشرة نافذة بدرفتين خشبيتين، تدخل منها أشعة الشمس الضئيلة القادمة من الأعلى، تصل دائما متأخرة إلى طابقنا الأول.

في الربيع تفوح رائحة زهر شجرة البرتقال المنعشة المجاورة للنافذة، حيث يقف دومًا زوجا حمام قرب حافتها، وما إن تُفتح النافذة حتى يغادرا بعد أن يتركا لنا مخلفاتهما التي تختلط رائحتها مع رائحة الرطوبة الصاعدة من الحديقة المنزلية التي للنساء المقيمات في القبو، واللاتي يعملن في الدعارة (كما كان يقال)، لتأتينا في ليالي الصيف المقمرة أصوات أحاديثهن وشتائمهن حين يفتحن الأبواب المغلقة. تفتح أمي باب الغرفة مرّات لا حصر لها، فتختلط أصوات أفراد البيت مع أصوات الخارج وروائحه، وأنقطع عن القراءة والكتابة دون أن أستطيع فعل شيء.

في تلك السنوات كنت متقلبة المزاج كثيرًا أثناء الكتابة، أحيانًا أكتب في الميكروباص الصغير المزدحم أثناء عودتي من الجامعة والعمل، أخرج دفترًا من دفاتر ملاحظاتي الكثيرة وأخربش بعض الأفكار التي كانت تخطر في ذهني فيما الميكرو الصغير يتوقف عشرات المرات لنزول الركاب أو لصعودهم، تفوح روائح العرق من الراكب الجالس جانبي، يرتفع صوت آخر متحدثًا عن فاتورة الكهرباء العالية التي وصلته. في الجامعة، حين كنت أجلس في مكتبة الكلية، غالبًا ما كنت أنسى الدراسة وأبدأ في الكتابة على الأوراق البيضاء، وأكملها فيما بعد في غرفة النوم وأنا شبه مستلقية على السرير والأغاني تصدح من الراديو.

ولطالما كانت تثير إعجابي المقالات المترجمة التي تتحدث عن طقوس الكتاب والكاتبات العالميين/ات أثناء الكتابة، وحين أشاهد صورًا لغرف مكاتبهم، كان الحسد يتسلل إلى قلبي قليلًا، هناك دومًا أولئك الأشخاص الذين تكون الحياة متساهلة معهم دومًا، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء بذل مجهود. في النهاية كنت أريد فقط طاولة للكتابة وغرفة لا يُفتح بابها عشرات المرّات دون استئذان.

مرت السنوات، وكانت الحرب التي تنقلت خلالها بين عدّة بيوت، ولم أحصل على طاولة للكتابة، كان كل بيت مكانًا مؤقتًا لا يصلح ليكون بيتًا نؤسسه بما نحلم به. كانت فكرة المؤقت تجعل حتى من وجود مكتبة للكتب التي تتكدس لديّ فكرة غير منطقية. لكن تغيّر كل شيء حين استقريت مع زوجي في برلين، وأسّسنا بيتنا المشترك، والذي يصلح ليكون بيتًا للعائلة التي حلمنا بتأسيسها، حينها عاد الهاجس القديم ليذكرني بافتقادي لحيز خاص لي وحدي. غالبًا ما كنت أستغل غياب زوجي وعمله خارج البيت وأحتل طاولته، أضع لابتوبي وأوراقي وكتبي ومسوداتي وفنجان قهوتي، وسرعان ما أبدأ بلملمة كل شيء حين يعود. وفي المرات التي كنت أصوّر فيها مع التلفزيون الألماني والعربي، كنت أحتل أيضًا طاولته ليذهب مبتسمًا للعمل في المطبخ ريثما ينتهي التصوير. وحين نكون كلانا في البيت أجلس على طاولة الطعام أو على طاولة المطبخ للكتابة. لكن وجود شخص آخر في الغرفة كان يسبّب لي توترًا ما، قلّة تركيز، وسماع مكالمة صغيرة كانت تدفعني للغضب.  حينها أدركت أنه حان الوقت لأحصل على مكان خاص لي فقط.

لذا قررت أن أستغل الغرفة الفارغة من الأثاث التي في البيت، وكنّا قد تركناها لتكون غرفة نوم لطفلنا القادم. وهكذا جهزت الغرفة بطاولة جديدة، بثلاثة أدراج اشتريتها من الإنترنت، وزينتها باللوحات التي أحبها لغوستاف كليمت، وبالصور الشخصية للأصدقاء والعائلة. أحضرت نسخا من كتبي ومقالاتي ومجموعة من كتب المكتبة إليها... وهكذا أخيرًا أصبح لدّي غرفة تخصني وحدي كما تقول فرجينيا وولف وتوقفت عن الاستيلاء على طاولة زوجي في غيابه.

على زاوية الطاولة وضعت مجموعة صور، من بينها صورة لي في عمر ستة شهور، مغمضة العينين في حضن جدتي، التي تعلمت منها فن سرد الحكاية، وحب الطبيعة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة للأشياء. أشعر بها أحيانًا تكتب معي معظم كتاباتي، حين أرفع رأسي عن الطاولة أجدني طفلة في حضنها، فتكمل لي سرد بقية الحكاية وتكتبها عني. بالقرب منها صورة لي مع والدتي في حلب، نقف أمام بنايتنا في السريان الجديدة، في أيدينا أكياس فواكه وخضراوات ولبن طازج، ترتسم على وجوهنا ابتسامة مضيئة لا تشبه الجو المغبر من القذائف والحرب التي كانت تدور شتاء عام 2013 في حلب، كأننا منفصلتان بابتساماتنا تلك عن الحرب الدائرة، فيما تلمع حبات اللون البرتقالي من طرف الأكياس.

وهناك صورة لها وهي جالسة في شرفة منزلها في برلين، أمامها ركوة قهوة وفنجانان ونبتة ورد جوري، تطل أمي من بيتها البرليني وتراقبني وأنا أكتب عن بيوتها القديمة، في حلب والقرية، تساندني حينًا وتعترض حينًا آخر. هناك أيضًا صورة لوالدة زوجي في عمر 85 تقطف الزيتون من حقل زيتون زرعته قبل عشرات الأعوام وسقته بيديها اللتين امتلأتا بالتجاعيد، أنظر إليها في صورة، أفهم زوجي، شريكي أكثر، أفهم أن الحياة لم تكن عادلة مع هذه المرأة أبدًا، وأنه قد يكون سرد حكاياتها هي وغيرها من النساء عزاءً ما لهن ولي.

في الواقع هناك صور عديدة لي مع نساء، كأنهن يشكلن محور حياتي الخاصة، حتى النباتات المنزلية التي وضعتها في الغرفة هي من صديقاتي النساء، فهناك نبتة هند، أمل، كفاح، خديجة، وأنيت. أما اللمبادير المغربي فهو هدية من صديقتي الألمانية ماريون التي تطل نافذة غرفة مكتبي على نافذة مطبخها وغرفة نومها، أحيانًا نتبادل التحيات من خلال الجوف الداخلي الذي يفصل بين بنايتينا، كما هناك نساء لوحات غوستاف كليمت.

قرب رف الكتب لوحة صغيرة أهداني إياها أخي جيفارا منذ 6 سنوات في تركيا، امرأة حزينة كئيبة تضع سيجارة في يدها وعلى كتفها غراب حزين، وقربها تمثال درويش أزرق اللون يرقص ويدور حول ملكوته، أهدتني إياه أختي روشن المقيمة في تركيا.

أيضًا، ثمّة صور عديدة معلّقة على الحائط مع زوجي في أسفارنا لباريس وروما وبراغ وأمستردام، ودفاتر ملاحظات بالعشرات وأوراق الكتابة والوثائق الخاصة بالإقرار الضريبي السنوي الذي يجب أن أقدمه لمصلحة الضرائب في برلين.

وفي منتصف النافذة صورة جماعية لصديقات الجامعة والعمر، هند وهناء، خلفنا قلعة هايدلبرغ الجميلة، حين التقينا بعد غياب في مدينة هايدلبرغ. كأنّ وجودهما دليل على الماضي والذكريات القديمة التي عشتها منذ أكثر من 15 عامًا، كأنهما، هما وجميع نساء الغرفة شاهدات على ماضي، وحاضري، ومستقبلي الشخصي، والأدبي.

في أعلى الرف تقبع الكاميرا القديمة لأخي جيفارا، تلك التي التقط بها آلاف الصور أثناء الثورة، للمظاهرات السلمية وبعدها للأنقاض والمدن المدمرة. هي الأخرى شريكتي في سرد الحكايات والماضي.

أنظر للغرفة كل يوم، كأنها أشبه بمكان تجتمع فيه قطع من أحجية ذاكرتي، لو رتبناها وفق ترتيب صحيح لفهمت الحكاية.

وما يجعل في النهاية الغرفة غرفة خاصة لي وحدي هو وجود شريكي في غرفة أخرى في المنزل، يطرق الباب ويدخل غرفتي، يحدثني قليلا مع عناق قصير قبل أن يعود ويغادر إلى عالمه، يغلق الباب حيث الخط الفاصل بين عوالمنا يتحدّد مرة أخرى، وهناك بين الحدود تنطلق الكلمات والحكايات مثل الخيول البرية في المخيلة دون أن يعترض طريقها أي شيء.

 

*كاتبة كردية سورية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.