في هذه البلاد مقطعة الأوصال جريحة البدن، المسافة من رام الله إلى الخليل تطول كثيرًا، وتبدو كأنها لن تنتهي.
عبرنا شوارع سريعة تعاني من انفصام حاد في الروح وفي الملامح، ففيما تتعربش الدوالي على السلاسل المنخفضة يسار الطريق، وتقف العرائش فوق العنب وباعته هناك، يتدلى علم الاحتلال من فوق ما يشبه بوابة تعلن وجود رقعة استيطانية على يمين الطريق ذاتها، وفيما تخفت الحياة يمينًا لقدسية سبتهم، تنفجر يسارًا لخصوصية العنب وأحقية وجوده، وتتبدل اتجاهات الوجهين كلما أوغلنا في تلك الطريق.
حواجز مباغتة، وأزمات مرورية خانقة، نتورط في الدخول فيها، والخروج منها، من دون أن نعرف أسباب حدوثها، ومن دون أن تمنعنا من مواصلة الطريق جنوبًا، حيث مدينة الرحمن في انتظار زوارها لإدهاشهم بالتخصص الفريد بصناعة الخزف والزجاج الذي يضاهي زجاج المورانو الإيطالي بألوانه وتعرجات الرمل فيه.
طريق طويلة ومحفوفة بالمفاجآت المتوقعة، من اشتباك هنا، أو هناك، وشهيد محتمل في كل لحظة، كما حدث في بلدة العيزرية بعد خروجنا منها بأقل من ساعة. وصلنا بعدها إلى نادي الندوة الثقافي في الخليل الذي قامت بتأسيسه مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي ككيان تطوعي ثقافي تكون فريقه تباعًا بعد تأسيس صالون ثقافي على يد مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي في مدينة الخليل عام 2011.
حسب تعريف موقع نادي الندوة الثقافي:
"كان هذا الكيان عبارة عن تجمع عفوي تم من خلاله عقد أنشطة عدة بشكل دوري من خلال التنسيق مع المؤسسات المحلية، ثم تطورت الفكرة من أجل إنشاء مؤسسة عصرية منفتحة الأفق على الإنتاج الأدبي وتنوعه، من أجل عدم ترسيخ السائد، وخلق جو تفاعلي متنوع قائم على أسس إنسانية وذات طرح عالمي، ليتم الإعلان رسميًا عن تطوير الندوة الثقافية لتعمل تحت اسم "نادي الندوة الثقافي" في منتصف عام 2019، في محاولة من مؤسسيه ورواده الجدد لتحقيق رسالة تفضي إلى تطوير العقل النقدي عند مختلف الفئات، وخاصة الشباب، من خلال الأنشطة الثقافية، والندوات الفكرية، ومناقشة الكتب والأدب، ضمن عمل مختبر السرديات الفلسطيني، الذي يهتم بدراسة ونقد السرديات الدينية، أو الأدبية، أو التاريخية والتراثية، على أسس منهجية علمية، وفق آليات بنيوية وتفكيكية وتداولية، من أجل ترسيخ المفاهيم الإنسانية والعلمية عند الفرد بشكل علمي سليم، وجعله على الطريق الصحيح في نقد كل ما هو تقليدي ومتطرف، للانطلاق بمفاهيم إنسانية شمولية، ليتم ترسيخ هذه الرؤية الإنسانية والعادلة، من خلال عقد ندوات وورش عمل أدبية نقدية، وورش عمل في الموسيقى والفن التشكيلي، والتنمية البشرية، يكسب من خلالها الفرد تلك المفاهيم الحديثة، للتناسب مع الخطاب الإنساني العالمي، الذي ينبذ العنف والتطرف، وإقصاء الآخر".
المختلف في هذا النادي الثقافي أنه كيان مستقل بذاته، لا يتبع المؤسسة الثقافية الفلسطينية، ولا يستظل برموزها، وبالقائمين عليها، ويقوم بدعم الفعاليات التي يقوم بها عن طريق اشتراكات الأعضاء وتطوعهم.
عدا عن الفعاليات الثقافية المتعددة التي يقوم فيها نادي الندوة الثقافي في الخليل، من استضافات لكتاب وأدباء من مختلف أنحاء فلسطين، فقد قام النادي، وفي الذكرى الـ105 لوعد بلفور، يوم 2/ 11/ 2022، بالإطلاق الرسمي للأرشيف الرقمي لمدينة الخليل، عبر آلاف الوثائق والصور التي تقدم ملمحًا قويًا عن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لمدينة الخليل، خلال القرن الثامن عشر، والقرنين التاسع عشر والعشرين، ضمن رؤية نادي الندوة الثقافي، ومختبر السرديات الفلسطيني بضرورة التصدي للرواية الصهيونية التي تستوطن قلب المدينة القديمة، وتقوم بطمس معالمها الثقافية والحضارية كل يوم.
مقر النادي يقع في الطابق السادس من بناية في واجهتها مقهى رصيف حديث يأخذ الضيف فيه استراحة قهوة سريعة، بعد طريق قد تمتد لساعتين ونصف الساعة (وأكثر أحيانًا)، وقبل الصعود إلى ذلك المقر الذي يستقبل الضيف أولًا في الشرفة الواسعة بمقاعدها الملونة، مع أعضاء النادي من شبان وفتيات ونساء ورجال بوجوههم المبتسمة التي تشي بحميمية المكان، ولا تشي بفوارق الأعمار بينهم، أو بطقوس النقاش الذي سيحدث بعد قليل.
مكان تلتبس فيه عليك هويته، لا ربطة عنق واحدة، ولا طقم رجاليّ، أو نسائي، رسمي، واحد، كما في أجواء الأمسيات الثقافية، ولا وجوه مبرمجة لاستقطاب الضيف إلى المنطقة الحرام في الذهن التي تبعث على التوتر والهروب من الضيق بالتعالي، ومن الرهبة بالصمت.
بعد أن يتم التعارف السريع مع الضيف يفتح باب القاعة الصغيرة المعدة جيدًا لاحتواء النقاش، من إضاءة وهدوء، ومهام موزعة بعناية للتصوير والبث المباشر وضبط إيقاع المكان، وحضور لنقاد محترفين وقراء نوعيين، استوفوا القراءة والبحث في العمل الأدبي موضوع النقاش، بعيدًا عما قيل ويقال باسم الضيف وعنوان الكتاب، ليكون النص هو الجسد المسجى على طاولة التفكيك والتشريح، وكاتبه هو الأب الروحي الذي ينتظر نتيجة الحكم الذي قد يختلف أو يتفق عليه من قبل الحضور.
أعضاء نادي الندوة الثقافي من الخليل هم مجموعة من المثقفين الشغوفين، ومنهم المتخصصون في النقد الحاصلين على درجات أكاديمية فيه، الدكتوراة والماجستير، ومنهم القراء الجدد الذين ينظرون بإكبار واحترام إلى القراء القدامى الذين ما زالوا يمنحون المعنى للورق، ويجلسون في قاعة واحدة حول كتاب وكاتب بشغف واهتمام ودهشة.
أن تكون ضيفًا على نادي الندوة الثقافي في الخليل، يعني أن تكون متوثبًا جاهزًا للإجابة عن سؤال خارج كل ما خبرته في الندوات والأمسيات التي تقام في طول البلاد وعرضها، أن تتفاجأ بأن رأسك يبدو أمامهم كرة بلورية يعرفون ما يدور فيه أكثر مما تعرف أنت، أن تثقب سمعك مفردات وعبارات تحليلية في النص الذي كتبته وكأنك تتعرف عليه للمرة الأولى، أن تستعيد الرغبة في الكتابة، وتضع إصبعك على الجرح في جدواها، وأن تصبح المسافة بين رام الله والخليل قفزة جميلة وعالية من حفرة تكاد فيها أن تردم إلى تلّ يضاهيك شغفًا، وشمس صغيرة تضيء المعتم فيك.
أن تكون ضيف "نادي الندوة الثقافي" في الخليل
صونيا خضر
9 أكتوبر 2022
يوميات
"نادي الندوة الثقافي" في الخليل/ فلسطين
مقالات اخرى للكاتب
يوميات
15 نوفمبر 2022
يوميات
9 أكتوبر 2022
آراء
29 أغسطس 2022
يوميات
19 مايو 2022