}

خمس جثث و"نصف جثة"

مصطفى الولي 19 نوفمبر 2023
يوميات خمس جثث و"نصف جثة"
(سليمان منصور)
"واستطاع الناس إخراج خمس جثث... ونصف". بصوته وانفعاله الصادق، قال وائل الدحدوح ذلك.
هذا النصف أدخلني في رجفة من أعماقي. لماذا أخرج المنقذون نصف جثمان من تحت الأنقاض. أيضًا، وبهذه الدقة، نقل وائل الخبر "نصف جثة". لو كانت جثة سادسة لم أكن قد توقفت، فأعداد الضحايا بالمئات. ذلك النصف... نصف الجثة خبر ليس كبقية الأخبار، فاق فعله على نفسي تأثير أخبار عن عشرات ومئات الضحايا.
هزتنا جميعًا مفاجأة السابع من أكتوبر، في عملية "طوفان الأقصى" الكبيرة، فتوقفتُ مؤقتًا عن كل ما كان يشغلني، لأتابع ما الذي سيترتب على العملية من ردود فعل إسرائيلية.
توقعت، كما توقعنا جميعًا، عملًا عسكريًا إسرائيليًا كبيرًا ونوعيًا، فكانت الحرب على غزة. ما فاجأني، من البداية، وصف ب. نتنياهو لهذه الحرب بـ"الاستقلال الثاني"، أي "النكبة الثانية" في المفكرة الفلسطينية.
اكتشفت في غضون متابعتي للحرب كم تؤذي تكنولوجيا هذا الزمن الروح. تكنولوجيا الصورة، ومن الميدان، في لحظة الحدث، وهو يجتث البشر والحجر في مساحة صغيرة، لكنها هي الأعلى كثافة في العالم.
حاولت، من دون أن أستطيع، الابتعاد عن الأخبار الدموية الرهيبة الآتية من قطاع غزة، بمحاولة كتابة مقال عن إحدى روايتين قرأتهما أخيرًا، رواية "قصر شمعايا" للكاتب الفلسطيني السوري علي الكردي، ورواية "علي ـ قصة رجل مستقيم" للكاتب الفلسطيني حسين ياسين.
الروايتان أظهرتا قطع التطور الطبيعي بين الفلسطيني واليهودي، ليصبح ما يجمعهما هو احتدام الصراع، مرة بسبب الصهيونية في فلسطين، ومرة أخرى بسبب أنظمة الاستبداد والدكتاتورية التي تعاقبت على السلطة في سورية.
على الشاشات، كنت أنزف ألمًا على المشاهد الحية، جثث وجرحى ورعب ومحاولات فرار وعطش وخبز نادر الوجود، وتدمير العمارات على رؤوس سكانها، ومحاولات رفع أطنان الإسمنت المنهار، لإنقاذ روح، أو إكرام جثة شهيد. لهب ودخان يتجاوز السماء السابعة، وظلام يجثم على المدينة إذا غاب لهب القنابل والصواريخ عند انفجارها، وأصوات الناس وهي تبحث عن ضحايا الحرب تحت الركام.
"ماتوا بدون عشا... تصرخ أم... يما ديروا بالكو عبعض... يما يا موفق دير بالك عأخوك الزغير... وتعالوا زوروني بالليل... فيقوني أشوفكم الله يرضى عليكو يما... هاي إيد إبني مبينة ورا الباطون... يما يسعيد عايش إنت رد علي... وين الإسعاف وين الجرافات... الولد عايش يا ناس يخليلكو ولادكو... كم واحد مات منكو؟ 15 خيتا... بسيطة الله يرحمهم... احنا 37 وبعد تحت الردم خمسة منعرفش عايشين والا ميتين...".
مراسل الجزيرة، وائل الدحدوح، وهو على الهواء، يصرخ بالمصور حمدان: عن بعد يا حمدان وهو يتقدم.. عن بعد يا حمدان ويتقدم، يتقدم ولا يخشى على روحه، يخاف على المصور حمدان.
على الهواء مباشرة يصله خبر تدمير البيت الذي أوى هو وأسرته إليه. يصله خبر تدمير البيت الذي لجأ إليه وعائلته طلبًا للأمان... هو على الهواء وأنا قبالة الشاشة. بكى من دون دموع عندما شاهد ابنه وابنته قد فارقا الحياة... جلس يودع جثمان ابنته... يبكي ويتحشرج ويطلق كلمته التي تحمل معاني بليغة "معليش... معليش"؛ بتنتقموا من الاولاد يا أولاد الكلب.
"معليش" عبارة كنت سمعتها من قبل. هل سمعها وائل مثلي، وراق له أن يرددها وهو يودع من فقد من أسرته؟ لا أظن ذلك، فلم يكن في درعا عندما ارتكبت قوات السلطة مجزرة ضد أبناىها. يومها، أطلق شاعر شاب أهزوجة صمود وتحدي "معليش درعا معليش". لكن على ما يبدو أن مفردات ثقافة التحدي والصمود تتسع لها مساحات في وعي أبناء بلادنا.
حاولت تخفيف نزف روحي من قسوة المشاهد والكلمات. أذهب لتصفح فيسبوك، فتصفعني بوستات كلماتها قليلة، لكنها تلخص حياة وتاريخ حرب ورعبًا من المجهول. طالعتني على فيسبوك كلمات لصديقات وأصدقاء يعيشون تحت القصف المدمر في غزة، كلمات عفوية صادقة تتفجر ألمًا.
"أمانة يابا تصحى، أمانة تحكيلي إنك بتضحك علي".
"أولادي ثلاثة يا عالم... دوروا بلكي بلاقيلي واحد عايش".
"أمانة ترجعي يما... والله لأوديكي وين ما بدك".
"جبتلك ثلاث قناني حليب بفكرك بدك تعيش وتشربهم يابا".
"رايح أدفن أبوي بسيارتي".
"يا جماعة روحوا شارع الصناعة عمارة الريس... طلعوا ميسرة وعروسته لورا... الله يخليكم".
"بدي شعرة منه".
"شو بدي أحكي لإمي يا الله؟".
ذلك غيض من فيض. بعضه سمعناه على الشاشة مباشرة، وبعض آخر قرأناه على وسائل التواصل، وثمة ما تلقيناه بالصوت عبر الهاتف المحمول عندما توجد شبكة إنترنت في غزة.
لم يعد رقم ضحايا القصف الجنوني المتوحش يهزنا كثيرًا، فبعد مقتل 500 إنسان في مشفى المعمداني أصبح رقم الخمسين أو السبعين.. أخف أثرًا.
ما لم أكن أتوقعه أن يكون لعدد قليل من الضحايا أذاعه وائل الدحدوح أثر زلزل كياني، هزني من أعماقي، وسرعان ما جعلني أقتحم اللابتوب لأكتب هذا المقال: "خمس جثث و"نصف جثة"!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.