}

قدّمت أبي قربانًا للذباب

مفلح العدوان 25 يونيو 2023
قص قدّمت أبي قربانًا للذباب
(محمد الجالوس)
على من تترحم أيها الزائر مزارع الدود؟!
لا أحد لك هنا...
وما من منتظر لقدومك إلا الشواهد، والأتربة المتسخة، وشحاذو الموتى..
حدّقْ عميقًا، فلن ترى إلا بكاء الندابات، وزيف كهل يعتاش من ترحمه على الغائبين، بينما هنالك فوق القبور ستلمح علامات دهشة معلقة في الفضاء من أولئك الذين يقدسون الموت أكثر من الحياة!
ترى هل تتوهم أن الذي تتركه في القبر سيبقى يرقب مجيئك آناء تذكرك له، مركونًا هناك بلا أمل، إلى أن تستيقظ الذاكرة منك فتحن إليه؟
كذب هو وهم الانتظار، فحتى الموتى ينتفضون على بطالتهم في باطن الأرض، ويريدون حلًا لها، ولذا فهم مشغولون بمناكفة الأحياء آناء الليل، وأطراف النهار!

***

لا تقرع ناقوس الانكسار...
فأنت الوحيد المختفي في شكوة جسدك...
وأنت الحائر في ضبابية سريرتك، في المساحة الغائمة بين الموت والحياة!
قف، واصمت قليلًا...
تفكر ببؤسك، ولا ترمي بحيرتك على كاهل المقبرة، معلقًا كل رذائلك، وحزنك، وانكفائك على شماعة الشواهد، بحجة زيارة الموتى، فهنا، ثق أنك أكثر وحدة وبؤسًا من أي قبر تراه أمامك!
واعلم أن لا أحد يحفل بقدومك إلى هذا المكان، أبدًا، فاحذر أن "تخفف الوطء"، لأن لا أحد تحت قدميك، وما من مترقب لك في باطن التراب، وأنت مثلي، تعتقد أن الموتى لا تلفهم أجنحة الفرح، والحرية، أكثر منا نحن المشاة، الذين نعاقر الحياة...
ضع نقطة وابدأ حالًا جديدًا قوامه حضورهم المؤكد، وغيابك المبهم رغم مؤثرات صوتك، وحسن صورتك، وبقاء سيرتك على ألسن من يعرفوك من الذين انطلت عليهم كذبة الحياة مثلك!

***

فكّر أكثر... وزد على التفكير سؤالًا...
أترى هؤلاء الذين نتوهمهم هياكلًا، أو أشباحًا، تسرح في قبو الانتظار؟ إنهم هم من يهزأون بوعينا لأنهم غير عاجزين عن التحرك في أرض الله الواسعة بعد أن دفنوا تحت الرخام!
خطتهم مكشوفة للذي لا يريد أن يخدع وعيه:
إنهم ما إن نتركهم في الأجداث حتى يتحررون منا.
يطلقون ضحكاتهم، ويمزقون أكفانهم، ثم ينسلون من بين الصخور بشفافية وخفة، متابعين المسير وراءنا، كأنهم يشيعوننا إلى بيوتنا التي سنُدفن فيها؛ مرة في السرير، ومرة في حضن امرأة، ومرات كثيرة مع الهواجس والأحزان!
لاحظ أنه عند كل زيارة للمقبرة تزيد وحشتنا فيها، كأنها تطردنا من ساحتها، وما إن ننكفىء متراجعين، خروجًا من أسوارها، حتى تشيعنا مسيرة تتبع خطانا.
ها هم الموتى يرفعون اللافتات، ولا نراهم...
إنهم يحملون على أكتافهم آخر ميت جاء إليهم، يعلمونه كيف كانت حياته ضنكًا وبؤسًا، وكيف هي الآن حرية غير منقوصة، وفرحًا غير مزيف، وأصدقاء حقيقيين من الموتى الذين لا يشبهون العنقاء، ولا الغول، بل هم أمرًا واقعًا، وخلًا وفيًا!

***

وأنا لا تربطني بالمقابر علاقة قداسة، ولا ود من أي نوع، لأنه لا ألفة، ولا دفء فيها، فكل ما في داخلها منفر لا يشي بأي نبض!
والشواهد التي تنتصب معلنة هوية من تحتها هي خادعة في أغلب الأحيان، ذلك أن الذين نحب أرواحهم لم يتبق منهم إلا شكوة الجسد، التي سرعان ما ستتحلل مشوقة إلى التراب الذي جُبلت منه في الأصل!
رويدًا، رويدًا...
تتآكل خلايا الشكوة لتصير سمادًا تعتاش عليه أعشاب المقبرة وأشجارها المجنونة برائحة العفن، المغموسة برطوبة الطين.
رويدًا، رويدًا...
تتنامى أشجار المقبرة، تتوحش، تستشرس، تريد مزيدًا من الجثث، كي تنمو عاليًا، معتاشة على تلك الهدايا التي تقدمها لها السلالات عن طيب خاطر، وهي أعز ما تملك، قرابين للشجر، فالأب يرمي تحتها ابنه، والأخ يواري أخاه... كل تلك القلوب تتراكم تحت ساق الأشجار المجنونة التي تنهش أسنان جذورها في اللحوم المتراكمة تحتها، قائلة هل من مزيد؟

***

لا قداسة للمقبرة... أبدًا...
ودفن الميت ليس كرامة له، بل هو في نواميس الطقس تقدمة مغلّفة بموروث صار أكثر رسوخًا من المعتقد، حيث شعائر التوجه بقربان الروح إلى آلهة العالم السفلي من تراب ودود ورطوبة وعفن.
تلك التفاصيل المرتبطة بالدفن باتت صكًا مخففًا يُقدّمه المشيّعون فداءً عنهم في تلك اللحظة القاتمة.
يا لتلك اللحظة التي تبدأ مع أول لمسة لعيني الميت، حين تكون جاحظة، محدقة بكل النواميس التي تمر شريطًا متلفزًا، يستعرض أمامها سيرة الموت والحياة، ذاكرة البدء والمنتهى، خط الخلود والتلاشي، كل هذه اللقطات تتابعها عين الميت في تلك اللحظة!
ياه كم تشتاق العين في هذه الفسحة من الكشف أن تأخذها أجنحة الحدقة إلى حيث صلصال الطين، حين كان ترابًا، وماء، ثم صار خليطًا مقدسًا ممزوجًا بأتربة أخرى من غير مكان في الكون، وما كان ترابًا صافيًا، كان فيه بقايا نجوم، وضياء شموس، وعبق زهور، كان به نتف من كل شيء حتى يستوي هذا الصلصال كاملًا متوحدًا مباركًا بحلوله آخر المطاف حاملًا كل إرث النقاء بلا ضغينة ولا شتات.
كان هذا أول بدء الشريط الكوني، وكانت العين تشكلت مع الجسد، وهي حاضنة النور، وحافظة الصور، ومخزن تعتق الروح، وبوتقة الدهشة، وراعية الدمع، وحاملة الإشارة، وكاشفة الناموس، والمطّلعة على كل ما عداها من الأشياء.
كانت العين أول مرسال وآخر فناء، هكذا كان تجليها في مبتدَئِها قبل أن تصير جاحظة، محدقة، تحاول استرجاع العالم في الالتفاتة الأخيرة لها حين يلوح القلب بنبضه مختفيًا بلا عودة، وتتلاشى الروح مبقية الجسد باردًا، والعين تتحسر مفتوحة تنتظر من يغلقها!

***

المقبرة مذبح آخر، فلا تقربوها.
وأنا قدمت بيدي، جثمان أبي، لها قبل ثلاثين من السنين عجاف، وواريته فيها، متآمرًا بحسن نية، آنذاك، دافنًا إياه في جرح كانوا يحفرونه بمبضع معاولهم على مرأى مني، وبرضاي... ألا تبت يداي!
أنا من حمل أباه مثل وثنيٍّ قديم.
وقدمته قربانًا للذباب وللدود، كأنني على الملأ كنت أُعلن براءتي من جسد الميت، وكنت أقود بنعشه المسيرة التي شيعتها من فوهة المسجد، إلى مقبرة القلب المفتوح، وأسلمته لزبانية غلاظ شداد، ناولوني روحه التي تلبستني، وكنت فرحًا بها، ثم هالوا على جسد أبي التراب!
الشواهد خدعة، والأشجار، والسور المحيط بـ"بيمارستان" الموتى، والحارس الذي يعتاش على هبات ذوي الفقيد، والمتسولين صباح العيد هناك...
كل هؤلاء جزء من مؤامرة المقبرة التي نمقتها، ونظن زورًا أن لنا أحبة فيها، بينما نحن نقدس الأثر، لا أكثر!
يا لبشاعة الأمكنة عندما تصير نقشًا فقط، بينما الحقيقة غائبة في ذواتنا، ولا نستنهضها إلا لحظة إحساسنا بغياب قريب سيوصلنا رغم بغضنا للمقبرة إلى المقبرة!!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.