لا أعرف، بدايةً، لماذا أُطلق عليه اسم مذموم؟
عندما التحقنا بالمدرسة الابتدائية، عرفت أنّ اسمه محمود، ومذموم لقبه. ومع تقدمنا في العمر، صرنا نعرف لماذا كان أهل الحي، وأهله، ينادونه مذموم. هكذا بدأ محدثي كلامه.
ــ هوياتكم... كل واحد هويتو بإيدو... يلا يا أخوة... يلا يا مسلمين، بارك الله بكم".
قال الرجل الملثم الواقف على باب "السرفيس"(1)، عند حاجز الإسكان العسكري في مدخل الرقة الشمالي.
الصوت ليس غريبًا عليّ، مَن... مَن هذا؟ حاولت أن أتذكر، وانا أُعدِلَ جلستي كي أستطيع إخراج محفظتي من جيب بنطالي الخلفي.
ــ خِفْ، خِفْ إيدك أنت واياه.
قال الملثَّم لاستعجالنا، بنبرة أقل تسامحًا من المرة الأولى.
ــ هذا صوت أعرفه... هذا صوت (...) وأنا بين مصدّق ظني ومكذِّبه... معقول هذا هو!
بالكاد نَظر إلى هويتي، وأعادها لي من بين إصبعي السبابة والوسطى. لم ينظر إلى وجهي، وكأنه يتجنبني. شعرت بارتباكه. هل عرفني، فلم يطل نظره إليّ؟ ربما. تأكدت من ذلك عندما قال للسائق آمرًا: على بركة الله، أكمل طريقك! من دون أن ينظر في هويات بقية الركاب الممدودة نحوه.
ــ الله يوفقكم. قالت امرأة.
ــ ابن حلال. قالت أخرى.
وما إن تجاوز السرفيس الحاجز حتى شاع جو مريح بين الركاب؛ فأزاحت بعض المنقبات النقاب، وهن يهفهفن به على وجوههن.
ــ (شاكيات حر الصيف): الحمد لله! حظُّنا اليوم جاء بوجود ابن حلال، وما تركنا للحر يعلِجنا(2).
ــ والله صدقتِ... ابن هالحلال لا سألنا وين المحرَم يا حرمة؟ ولا ليش نقابك شفاف يا مسلمة.
حتى السائق بعد تجاوزنا الحاجز شارك في إشاعة الجو المريح بالثناء على ابن الحلال، وقال وهو يستل سيكارة خبأها في مكان ما، ويضعها بيدين مرتجفتين بين شفتيه، محاولًا تقليد الأخوة بعربية فصيحة: يا مسلمين! اتقوا الله في جلوسكم، الرجال في الكراسي الأمامية، والنساء في الخلف... أختي المسلمة اخفضي صوتك، صوتك عورة إذا وقع على مسمع رجل غريب.
سرح نظري متابعًا موجات السراب في قيظ تموز عام 2014، وأذني تسترجع صدى كلمات الملثم على الحاجز... محمود... لا ليس محمود... والله محمود، لو نظر في وجهي، لو رأيت عينيه لتأكدت منه... انشغل بالي بمحمود هذا، حتى وصلت البيت الذي رحلت إليه في منطقة "معيزيله" شبه الصحراوية شمالي مدينة الرقة، والذي يعود لأحد أقارب زوجتي، وهو المسؤول الذي استفاد من نهب أملاك الدولة مع متنفذين في الحزب وأجهزة الأمن، وبمباركةٍ وترتيبٍ من (إبراهيم. هـ)(3)، عراب الرقة لدى القيادة، وسمسارها. ذلك التوزيع والنهب جاء على خلفية نشر إشاعة عن إقامة مطار يستقبل فيه حجاج إيرانيون لزيارة مقامي أويس القرني، وعمار بن ياسر. وقتها، تفاءل سكان المنطقة في الريف الشمالي القريب، وسكان المدينة، بمشروع يجدون فيه فرصة عمل. سكنت في معيزيلة بعد هجر البيت في الرقة، فهو قريب من المقام الذي أصابه الضرر، ولم يعد صالحًا للسكن إثر تفجير المقام في 16/ 5/ 2014 من قبل "تنظيم الدولة".
لا أذكر كم يومًا مرّ عندما مررت على الحاجز الذي رأيت فيه محمود، نعم محمود، أو من اعتقدت أنه محمود، أصلًا أخشى حتى بيني وبين نفسي ذكر أن من توقعته محمود لا يزال في ذاكرتي اسمه مذموم. بحثت عيني عنه، فلم يكن موجودًا، ولم أجرؤ أن أسأل عنه.
عصرًا، عدت إلى مطرحي الجديد الذي هاجرت، أو هجرت إليه، فكان هناك.
بتوددٍ حذر، اقتربت منه، وبالكاد خرج من شفتي كلامٌ هامس، يا شيخ ممكن كلمة؟
رضيَ بإيماةٍ من رأسه، وعندما التقت عيني بعينه تأكدت أنه محمود.
ــ أشوفك دولة(4)! قلت محاذرًا، وغير مطمئن من ردة فعله. ولما لمست منه الطمأنينة، همست له مرة أخرى:
ــ أشوفك دولة يوال!(5)
ــ ولا كلمة، هس... قادني من يدي، وابتعد بي.
أحسست خشيته من شيء ما، ربما من الذاكرة المشتركةً بيننا، أو بسبب انهيار ثقة الناس ببعضهم بعضًا.
في غرفة الحاجز، قال لي اجلس هنا، سأعود بعد قليل.
عادت بي الذاكرة إلى زمن كنا فيه صغارًا، وكان ملعبنا المفضَّل مقبرة ويس، القريبة من بيوت أهلنا، جنوب شرقي المدينة. مكان لعبنا هذا لهو طفولي لا يراعي حرمة القبور، أو بالأحرى لم يكن في وجدان أيٍ منّا أنّ لهونا ولعبنا يدنس القبور. كنا نخشى المرور بالمقبرة ليلًا، أمّا اللعب في النهار، فلا خشية فيه. لذلك، كان أحب شيء إلى قلوبنا في ملعبنا هذا تخويف النساء القادمات لزيارة مقام ويس، عندما نخرج إليهن معفرين بالتراب من بين القبور، ونكتم ضحكنا عندما يبسملن ويحوقلن ويتعوذن من الشياطين. كان يسعدنا وصفنا بالشياطين. ولاستكمال شيطنتنا في أعين أنفسنا، كنا نغافل الجَيِّمْ/ القيّم، ونسرق النذور التي يجود بها زائرو القبة الطينية المقامة على قبر ويس. كان محمود صاحب اليد الخفيفة في التقاط القطع النقدية المعدنية من الطاسة النحاسية الموضوعة بجانب القبر. وفي مرة، سرق الطاسة ذاتها. قال: هذه نستطيع مبادلتها بقرص مشبّك... وبعد كل سرقة يجرنا خلفه إلى توثة(6) ويس العملاقة. ظلها كان يغطي جزءًا من المقام، يتسلقها ونلحق به، وقبل وصولنا إليه يكون قد أخفى قسمًا من المسروقات، لكن ما يبقى كان يكفي لدخول سينما "الشرق"، تحديدًا سينما الشرق، لا نذهب إلى غيرها، حتى إذا دخلنا الفيلم الواحد عشر مرّات، لقربها من بيوتنا، وأهم من ذلك الخوف من مجايلينا روّاد داري السينما الأخريين... سنوات والشكاوى من قبل الجيم لأهلنا لم تثمر... ملّ ردعنا، ومل من شيطنتنا، ومن تخويف الزائرات، فقرر استثمارنا، ربما طمعًا، وربما رشوة، لكنه عقد اتفاقًا مع زعيمنا مذموم بمضمون ترويج كرامات المقام في الاحتيال على النساء القادمات للزيارة، وهكذا كان.
كانت النسوة يبثثن شكواهن واحتياجاتهن لصاحب الحضرة والمقام، ثم تربط كل صاحبة حاجة شريط قماش أخضر على سياج القبر، تبث شكواها بصوت هامس أثناء ربط الشريط، وتعد بنذر إن قضيت حاجتها، بعضهن يعدن صباح اليوم التالي، فمن تجد عقدة شريطها محلولة تستبشر خيرًا، وتفي نذرها.
مهمتنا التلصص على النساء عندما يهمسن للقبر، نلتقط ما يهمسن به، ونضيف عليه، لتكبير دورنا في عين الجيّم، الذي ينقل بدوره ما همست به النساء إلى صاحب الحضرة والمقام المتوفي من مئات السنين!
توضع بعض النذور في الطاسة النحاسية، أما صاحبة الحاجة فتعود في اليوم لتحصل على حجاب مغلف بقماشة خضراء، وعلى صرة صغيرة من تراب القبر، ولنا أيضًا هنا دور في تعبئة هذه الصرر الصغيرة.
محمود كان له دور مميز، كونه ينسل بجرأة إلى أقرب ما يكون للنساء وهن يبثثن شكواهن وأدعيتهن. بالإضافة إلى قدرته، حسب ما يدعي على تمييز العازبات اللاتي فاتهن قطار الزواج من النساء المتأخرات في الإنجاب، وكلا الفئتين هن الأكثر كرمًا وعطاء من متسولات الشفاء، وطالبات الحماية من الحسد، والغيرة، والإصابة بالعين. كان يدربنا كي لا نخطئ في معرفة حاجة كل امرأة في حال غيابه لسبب ما. قال: من تتمتم بالقول "يا ويس جيتك زايرة، وشقة عباتي طايرة، كل البنات انخطبن، وآني ظليت بايرة"... فهي بنت تريد الزواج. ومن تدعو وتتلمس بطنها فهي تريد الحبل والإنجاب. أما التي تدعو وتتف في عبّها فتخشى الإصابة بالعين، وكذلك التي تتف على اليمن واليسار، فهي تخشى من الحسد... من تريد ورقة حماية من الجن تمسح بيديها بعد كل دعاء على كتفها وبطنها، وعلى كامل جسدها... والتي تريد ورقة محبة... والتي...
لم تطل غيبته كثيرًا، عندما فتح الباب قاطعًا سيل الذاكرة، وبدأ بحديث أرعبني، عن قص الرقاب، وعن الدولة الإسلامية التي طال انتظارها، وأنها تمثل دين الله الحق، وقيم شرعه، وعن المكرمة التي خص بها الله سبحانه وتعالى أهل الرقة، لينقلهم من الغرق في بحر الكفر والفسق والفجور، كي يصبحوا مثالًا للأقوام الأخرى في كسر عبادة الطاغوت، ونشر دين الله الحق من جديد.
من لا يعرف محمود ربما يقتنع بحديثه، لجديته، وفي توالي طبقات صوته صعودًا وهبوطًا، مترافقةً مع حركة يده وهي تمسح صدره عند قول متسامحٍ يبديه، أو إصبع مهددة ووعيد يلفظه عندما يغلظ القول، وهو يكاد يلتهم وجهي.
خفت منه، وتمنيت أن يسرحني في الحال. لم أتجرأ حتى على التفكير بيني وبين نفسي بالمقارنة بين عبارته عن دين الله الحق هذا، وهي ذات العبارة بالكلمة والحرف كان يستخدمها عام 1990 في الدعاية للإيرانيين، وقدومهم الكريم لإعمار البلاد. لكن مذموم هو محمود.
خرج يودعني بعد ان أوقف عناصره سيارة عابرة لتقلني إلى بيتي. انزوى بي جانبًا... لا حاجة لأن أذكرك، ولا كلمة عن الماضي. الله يعفي عنا، والتوبة تَجِبُّ ما قبلها.
قال لي الكلمة المواربة التي يستخدمها الإخوة، ظاهرها نصيحة، وباطنها تهديد: أنصحك بالتوبة؟ قائلًا: لا أريد أن أعتبرك كافرًا! وإنما نقص إيمانك أعرفه. سألحقك بدورة شرعية مكثفة، وهذا عربون وفاء لصداقنا القديمة، وسأعلمك عندما يحين وقتها.
مددت يدي مصافحًا، وقلت إن شاء الله. وما إن ابتعدت بنا السيارة عن الحاجز حتى تداعت الذكريات مرة أخرى...
طفولة مذموم
كان محمود أكثرنا قربًا للجيِّم/ القيِّم. يقول عنه "يلقطها عالطاير"، عندما يجمعنا مساء الخميس استعدادًا لصباح الجمعة، لتوزيع الأدوار علينا، كتعبئة صُرَرِ التراب التي من المفترض أن يكون من تراب القبر الطاهر لصاحب المقام، وحقيقة الأمر كنا نأتي به من أي قبر، أو من أي مكان. كان لا يحلو لمحمود إلا أن يضيف لمسته الخاصة برش التراب ببوله، أو يدعونا للبصاق عليه. وكان علينا أحيانًا أن نبث دعاية عن امرأة ما رزقت بطفلين توأمين، والثالث على الطريق، بعد أن خلصتها زيارتها لصاحب المقام من التابعة. والتابعة قرينة من الجن للمرأة الحامل تخنق مولودها ما إن تلده. ومحمود كالعادة الأشطر في تسويق القصة، يرويها بطريقة مبهرة، حتى نحن الذين نعرف الحكاية من أولها إلى آخرها نكاد نصدقه، وكان دورنا البصم على قصة محمود ونحن نحلف أغلظ الإيمان. محمود هذا أقنع والدته نفسها التي توقفت عن الإنجاب بعد إنجابها أربعة أولاد وبنتين، بوجود تابعه لها. زارت أمه المقام مع خروف أسود ما بيه نيشان(7).
رغم صغرنا في ذاك الوقت، كان حِسّنا أن العلاقة بين الله والجيم مبنية على كذبٍ لا نفهمه، هو يكذب على الله، والله سبحانه وتعالى يعرف بكذب الجيِّم! ونحن كانت الفرنكات التي نحصل عليها كافيةً لنلعب دورنا ونحن مقتنعين حتى إذا كان كذبًا فهو أمر لا نفهمه، وخارج مداركنا. حصولنا على هذه الفرنكات كان كافيًا لركوب الليلي(8)، وأجرة العربة الخشبية التي تقوم برحلات منتظمة مأجورة بين مقام ويس وداور الساعة، وثمن تذكرة السينما، وهذا كان أهم من أي شيء.
كبرنا ولم نفترق حتى نهاية المرحلة الثانوية. هناك أخذتنا سبل الحياة، من دراسة، وخدمة علم، وعمل، لكننا بقينا نسكن الحي نفسه.
سائق السيارة الذي كُلف، أو أجبر، على توصيلي من الحاجز إلى بيتي قطع سيل ذاكرتي، الرجل ظن أني من عناصر "تنظيم الدولة"؛ فلحيتي لا تختلف كثيرًا عن لحاهم، ومن حاجزهم أقلني طائعًا، وربما شعر بينه وبين نفسه بالامتنان لأنه كلف بمهمة جليلة بنقل مجاهد من ساحة الجهاد إلى بيته، فكلما قرقعت السيارة واهتزت لتجنب المطبات والحفر التي خلفها طيران التحالف الدولي يكرر القول ذاته: الله يلعن حلف الكفار، يريدون تخريب كل شيء في دولة الخلافة الوليدة الرشيدة، حتى الطرقات. لم أطق نظرته لي على أنني عنصر من التنظيم، وكذلك أشفقت عليه من محاولاته النفاق لكسب رضائي، ولكي أكون مطمئنًا أنه هو أيضًا ليس من التنظيم، سألته أسئلة لأطمئن من أنه ليس سوى صاحب سيارة عابرة، وقريته ليست بعيدة عن مقصدي.
قلت له: والله ما خربوها غير الأخوة، هم وبشار، جلبوا كل هذا الدمار. بالكاد أكملت جملتي حتى ضغط فجأةً وبكل قوته على الفرامل. توقفت السيارة بقوة ليرتطم رأسي بزجاجها الأمامي. لثوان، تجمّد الدم في عروقي على أنّ لساني انفلت أمام عنصر من عناصر التنظيم.
حلفتك يمين... أنت مو دولة؟ سألني مندهشًا مما قلته. لا، أنا مو دولة. بالله عليك أنت مو دولة؟ احلف يمين. لا والله أنا مو دولة.
ألقى بظهره على مسند الكرسي، تنفس بعمق فاردًا يديه كجناحي طائر، وأخذ يضحك ويضحك، ثم فك غطاء علبة مقود السيارة وأخرج منه علبة دخان "بريستيج" وهو يتفحص مدى جدية تعابير وجهي. وليتأكد من يميني مددت يدي إلى علبة الدخان، وأشعلت سيكارة قبله.
خبط مقود السيارة بيديه الاثنتين فرحًا، مرتين ثلاث أربع، ثم حضن رأسي بكلتا يديه وقبلني، وقال: من الأول يا ابن الحلال، وهو يحرك السيارة ليبعدها عن الطريق العام خشية مرور إحدى سيارات الدولة. دخنّا، ودخنّا، حتى دخنا. تابعنا طريقنا، وكانت قراضة (نميمة) دسمة عن الدولة وعناصرها استمرت حتى وصولي إلى بيتي. وجدت أهلي مستنفرين خوفًا علي، بعد أن أبلغهم سائق السرفيس أنني بقيت عند حاجز الدولة.
مقام أويس القرني... وتشيع مذموم
لم يغب موضوع محمود عن بالي. محمود أنهى دراسته في معهد هندسي، وتوظف في شركة "ساريكو"(9)، ومثله مثل أغلب موظفي الحكومة وجد لنفسه عملًا آخر. استثمر مكتبًا عقاريًا لتأجير وشراء وبيع البيوت والعقارات... حاله هذه استمرت إلى أن جاء الإيرانيون، أي والله الإيرانيين، لتجديد مقام أويس القرني، وبناء حوزة علمية (سنة 1983 على ما أعتقد). في تلك السنة، كان محمد سلمان محافظ الرقة، الذي طلب من الأهالي نقل رفات أمواتهم من مقبرة ويس إلى مقبرة "تل البيعة"، التي أحدثتها البلدية خارج المدينة، في جهتها الشمالية الشرقية. السبب المعلن لنقل القبور إقامة حديقة عامة مكان مقبرة ويس. بدايةً، رفض الناس نقل رفاة أمواتهم... فقط لنتصور أن أمرًا من محمد سلمان لم ينفذه أحد. قال متداركًا ربما كان عدم التشديد في إزالة القبور عائد لما كان يجري في الثمانينيات من القرن الماضي. بقيت الأمور على حالها حتى عام 1988، عندما وافق حافظ أسد على طلب من الحكومة الإيرانية بصيغة محددة "الاعتناء بضريحي عمار بن ياسر وأويس القرني"، وعينك ما تشوف إلا النور، حظيظ بخيت(10) من ينقل رفات ميته قبل الثاني.
وضحت الصورة، إذ لا توجد حديقة عامة ولا بطيخ، على مساحة 50 دونمًا من قبور الأموات، طبقة فوق طبقة، خمسين ألف متر مربع من رفاة بشر، وتاريخ من أيام صفين إلى يومنا ذاك تم بيعه للإيرانيين، وأعتقد أن هذا أول بيع من الأرض السورية قامت به عائلة الأسد للإيرانيين.
محمود من أوائل الذين عملوا مع الإيرانيين. بدأ العمل معهم في تموز من عام 1988. وفور بداية عمله كان يعطيك الانطباع أنه أحد معممي قم. كنا نجتمع عصرًا أمام مكتبه المقابل للمقبرة من الجهة الغربية، نشرب الشاي، ونتحدث عن كل شيء. في تلك الفترة، كان معظم الحديث الذي يدور بيننا عن المقام، وعن التشيّع الذي انبثق فجأة، وأصبح له دعاة، وعن تشيع صاحبنا محمود خاصة، الذي لم يقتنع به أي منا، نحن أصحابه، رغم الجد الذي يبديه، والحمية الذي يدافع بها عن الدين الصحيح، وهو يشير بيده إلى الشرق، حيث المقام، وما يليه، حتى قم، ويقول مهددًا بين المزح والجد: سيأتي عليكم يوم أيها النواصب، ومن يعش راح يشوف!
لم يعد يقبل أن نقول ويس كما كنا نقول دائمًا بلهجتنا، بل يجب ن نقول أويس، رضي الله عنه.
تابع محدثي استرساله، وقال:
ــ أغلبنا مو سياسيين. نحن على الفطرة لأنو مطلوب نكون عالفطرة. الكلام بالسياسة يهدم البيت. والحيطان في سورية لها آذان. لكننا نعرف أنّ إيران وداعش باختيارهما المكان نفسه لم يأت من عبث. اختارا الرقة كجغرافيا، وكمختبر، لبداية مشروع كل منهما، تقريبًا للسبب نفسه، فالناس في الرقة غير متعصبين، ويتقبلون أي سلطة، واللي يصير زوج أمي يصير عمي. إيران اختارت الرقة بحجة وجود قبر أويس القرني، وقبر عمار بن ياسر، وهما من شيعة علي، ويجب حماية مقاميهما.
من هنا جاءت نقطة انطلاق مشروع التشيع... الفقر عامل آخر، والتدين البسيط لأهل الرقة الذين لا يفرقون بين علي ومعاوية، وكلاهما صحابي وخليفة. الجهل الناتج عن الإهمال المديد للمنطقة خلق مجتمعًا هشًا سهلًا يمكن لأي كان أن يبيعه بضاعة فاسدة، مرة باسم العروبة والوطن، ومرة باسم الدين، الرقة البعيدة المهملة نادرًا ما يستدل عليها أحد من أبناء مدن الداخل، والصورة عنها صورة عن البدو الرحل التي يشاهدونها في المسلسلات التلفزيونية. وحتى من ساقتهم الحياة للعمل فيها لا يرون فيها إلا مكانًا للحصول على ثروة، سواء من الوظيفة، أو من العمل الحر، إذ كانوا يغادرون فور ملء جيوبهم. ركز الإيرانيون على هذا الجانب المهمش، جغرافيا واسعة، بكرًا في أرضها وناسها، ويمكن إعادة صياغتها بكل سهولة. نجحت إيران وحققت أحد أهداف مشروعها في نشر تشيع ينتمي للولي الفقيه، وبدأت ببث الاحتقان والكراهية في المجتمع، حتى أصبح ظاهرة واضحة، وخاصة عندما يجتمع الناس في خيمة عزاء، أو في عرس. شاع تداول كلمتي نواصب وروافض، التي حسبناها تخص التاريخ القديم. قلة من يدركون القصد بهما، إذ تجري على الألسن، كأنها لم تكن إلا ذلك.
داعش استغل الأسباب نفسها، ولكن بالضد من أسباب إيران، إضافة لوصل غرب العراق السني مع داخل سورية السني، وهو هدف معاكس لهدف إيران، بفصل غرب العراق عن قلب سورية.
سكت محدثي، واعتقدت أنه أنهى كلامه. كنت أُريد أن يرجع إلى قصة محمود، لكنه طلب أن يكمل فكرته التي تمثل كما يقول مزاج أغلب أهل الرقة. تابع قائلًا: لتنفيذ ذلك اعتمد الاثنان على إيجاد شخصيات محلية كواجهة، وكان إيجاد محمود وأمثاله صناعة من لديه خبرة في كيفية صناعة قادة يتحكمون في مجتمعهم، المال أقصر الطرق وأمتنها لـ"توليف" القلوب، لكنه دائمًا في هذه الحالات يحتاج إلى قصة، إلى حكاية، إلى كذبة. إيران استغلت فساد نظام الأسديين لإطلاق يدها بذريعة بناء المقام، فقامت باستغلال الفقر، والوضع الاقتصادي الصعب للناس، وبدأت خطوات عملية لمشروع التشيع منفقة ملايين الدولارات على ذلك. مقام أويس لوحده كلف 7 مليون دولار. وعندما تم الانتهاء منه عام 2001، ودشن عام 2004. ظاهره ثقافي ديني، وفي دهاليزه كان يُنشر التشيع بين الناس، مستغلين حاجتهم المادية. أخذ التشيع يتمدد حتى في الأرياف البعيدة، فتم بناء حوزة في تل أبيض على الحدود التركية شمال الرقة 100 كم عن طريق شخص من المنطقة تربطه علاقة بحزب الله يدعى عريف النصار. وعريف النصار هذا هو ابن عم فيصل البلو (أبو أحمد)، أول أمير لداعش في تل أبيض في فترة التمكين، وهو أول من دشن "الهوتة"(11). لاحظ مؤشرات الترابط؟
وكذلك تم بناء مسجد وجامعة في مدينة الطبقة 50 كم غرب الرقة، ومسجد باسم فاطمة الزهراء، وكان القائم عليه "ملا أبو حيدر"، الذي ينحدر من قرية الفوعة في ريف إدلب، ويقيم في الطبقة. الجامعة سميت باسم الجامعة الإسلامية للدراسات، والتي افتتحت لأول مرة في العام الدراسي 2006 ـ 2007، وكان عدد طلابها في سنتها الأولى 209 طلاب. لم يكن هنالك في كل سورية كلية إسلامية، عدا كلية الشريعة في جامعة دمشق، بالإضافة إلى معاهد الأسد والباسل لتحفيظ القرآن... وفي سنة 2006، تم افتتاح كلية شريعة ثانية في جامعة حلب. وللعلم، كان أول متشيّع في الطبقة أحد أبناء عمومة أبو لقمان، أول والٍ للرقة من قبل تنظيم داعش. كان الرجل، أي أبو لقمان، أحد أربعة، أو خمسة، من المقربين من الخليفة أبو بكر البغدادي. وفي الريف الشرقي في قرية "البو حمد"، تم افتتاح حسينية تحت إشراف أستاذ لغة عربية اسمه علي العجلوق. والعجب العجاب أن هذا من أقارب أبو علي الشرعي (فواز العلي)، الشرعي الأول للتنظيم في الرقة في فترة التمكين. وفي مزرعة حطين، تم بناء مجمع وحسينية الزهراء بواسطة "محمود وعبد المجيد السراوي"، وجميع هؤلاء من زوّار قم وطهران والضاحية الجنوبية لبيروت، استلموا مبالغ هائلة للمساهمة في تنفيذ المشروع. كل ذلك تم تحت نظر، وبتسهيلات، الفروع الأمنية، في زمن الأب والابن.
يتابع محدثي قائلًا: إذا قرأت مذكرات مصطفى طلاس، ينقل عن لسان حافظ الأسد بالحرف، بعد انتصار ثورة الخميني: "لقد كسبنا بعثيًا آخر"، ويقصد الخميني. ولكن الصورة اليوم تُظهر أنّ إيران هي من كسبت تابعين مخلصين، وجغرافيا.
مذموم استفاد من كل المراحل، من بناء المقام، إلى إقناع الناس لحضور الندوات والاجتماعات. كان مثل المنشار يقبض من الكل، نتندر عليه ونقول أنت من آل البيت. ويناكفه أحدنا بالقول: أنت حفيد أبو جهل! وعندما يبدي غضبه، نقول له لا تزعل، أبو جهل من آل البيت.
تحول محمود إلى مورد لكل ما يحتاجه المقام والحوزات، من مواد بناء، وأجهزة، وبشر... لا يتعب، ولا يكِّل ولا يمل، من طهران إلى دمشق وبيروت، ومن الرقة إلى السيدة زينب والضاحية الجنوبية. ولربط أعماله، أو إخفائها، افتتح مكتبًا مقابل المجمع الحكومي من الجهة الشرقية لتسجيل الطلاب الجامعيين في الجامعة الإسلامية في بيروت، بين مكاتب بيع وشراء السيارات هناك، الجامعة التي يديرها حزب الله. وكان يقدم خدمات لتسجيل الطلاب في الجامعات الإيرانية للطلاب، ممن لم يحصلوا على مقعد في المفاضلة في الجامعات السورية. الطالب المسجل في جامعات الضاحية، أو الجامعات الإيرانية، لا يكلفه التسجيل أي مبلغ، بل يحصل على راتب وسكن. هذا الباب باب واسع لكسب متشيعين، وكان ذلك... مشت الأمور على هذا المنوال ومحمود يرتقي سلم الجاه، ومجد التشيع، والمال، بسرعة مفرطة، حتى بداية "الأحداث" في سورية، وإذ به أحد عناصر جبهة النصرة في سلوك في ريف الرقة الشمالي.
مذموم في النصرة!
في شهر آذار من عام 2013، يوم "سقوط" الرقة بيد المعارضة يوم 3 آذار 2013 كان محمود من أول الداخلين إلى المقام مع عناصر جبهة الوحدة والتحرير الإسلامية. ورغم أنه ينتمي إلى جبهة النصرة لم يغتنم شيئًا من السجاد العجمي، ولا الأجهزة، بل دخل إلى غرفة الأرشيف. لا أعرف ماذا أخذ، ولكن بعد خروجه أحرق غرفة الأرشيف!
كانت خطبته عن الروافض الشيعة تصيبك بالصدمة والذهول. لكن لم يطل الأمر به في جبهة النصرة، التي اتخذت في ما بعد من المقام أحد مقراتها.
النصرة، وكتائب الجيش الحر، وأحلام الحرية، لم تستمر إلا لأشهر قليلة، فداعش ابتلعت النصرة، وأحرار الشام.
داعش ابتلعت أولًا الحالمين بالحرية، ثم النصرة، ثم أحرار الشام، وتمكنت من الرقة بتوحش لم يشهد العالم مثله، ولك أن تستنتج أين كان محمود؟ تمامًا، كان من أوائل المبايعين لتنظيم الدولة!
مذموم في داعش
تحولت المدينة البسيطة الوادعة إلى مدينة أممية. وبسكانها الجدد، بدأت المدينة تفقد هويتها. قبل ذلك كنت تدور في الشوارع فلا تسبل يدك من كثرة السلامات، تسلم، أو ترد السلام. اليوم تدور وتدور فترى نفسك غريبًا وحيدًا، بينما ترى المئات من جنسيات العالم كله، ومن جميع الأعراق والأجناس، حتى النساء... نساء غريبات مسلحات يستبحن مع من استباحوا شاطئ الفرات، ويلاعبن اطفالهن وهن يحملن الكلاشينكوف... هل تصدق أن صينين موجودون في الرقة. في الشوارع، تسمع لغات ولهجات، تميز منها الإنكليزية والفرنسية، لشهرة اللغتين، بقية اللغات لا تستطيع تحديدها. تميز من اللهجات العربية الخليجية، والعراقية، والمصرية، والمغاربية. الجميع ساهم في طرد وذبح وخطف أبناء الرقة وناشطيها لتطبيق شرع الله، وللمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين. صودرت أغلبية بيوت الأحرار والثوار الأوائل، ولكي يطمئن المجاهد المهاجر على عائلته، وحتى يستطيع أن يطبق الذبح الحلال حسب شرع الله، كان محمود هناك مكلفًا من قبل أبو لقمان بولاية ما يسمى ديوان العقارات، ومن هنا أخذ اسمه الجديد "محمود عقارات". كانت مهمته التعرف على بيوت الناشطين وقادة الحراك، ومصادرة بيوت مسؤولي النظام الباذخة، مستفيدًا من معرفته بأغلب الحارات والشوارع. شغل معه فريقًا لمعرفة عناوين بيوت الناشطين الذين لم يتعرف على أماكن سكناهم وبيوتهم، ووصلت سطوته حتى الريف، وامتد الأمر إلى مصادرة بيوت المغتربين من أبناء الرقة خارج البلد بقصد العمل.
وكلما أثنى عليه أبو لقمان، زاد سعاره في مصادرة البيوت، سعار تجلى بكتابة ورقة صغيرة على كل باب بيت مصادر، أو محل، "أملاك الدولة الإسلامية". ترقى محمود عقارات، وتخصص في إسكان المهاجرين ورعايتهم، ومن هنا كون ثروة إضافية من خلال تمييز مهاجر عن آخر بنوعية البيت. لهذا المهاجر فيلا، ولذاك شقة، حي الثكنة الراقي خص به أثرياء المهاجرين، فأغلب هؤلاء يبحث عن الراحة والفخامة في المسكن والملبس، فلا ضير من دفع النقود للحصول على ذلك في الدنيا، مادام مقامه في الآخرة تم تأمينه بقدومه إلى أرض الجهاد!
عندما بدأت قوات التحالف والمتحالفين معها بمحاصرة المدينة، استشعر محمود الخطر، وبخبرته وتجاربه في نقل البندقية من كتف إلى كتف، نسق مع قادة أحد الفصائل المحاصِرة للمدينة بالخروج من جحيم القصف، تمّ له ذلك على أن يدلي لهم بكل ما يعرف؛ فكان لهم ذلك، حيث أعطاهم عناوين بيوت أغلب المهاجرين والقادة والأمراء.
مذموم ضد داعش.. المعرف في قسد
قبل وقوع الرقة المدينة، تمّ بناء مخيمات وممرات آمنة للخارجين من جحيم القصف، وكانت بلدة عين عيسى في الريف الشمالي إحدى الأماكن التي أقيم فيها أحد تلك المخيمات، اختلط فيها كثير من عناصر داعش وقادتها بالمدنيين بعد أن خلعوا لحاهم وأفغانياتهم. محمود وجد له دورًا هناك، وأصبح المعرّف(12) بعناصر وقادة تنظيم الدولة، من رفاق الأمس.
هناك في مخيم عين عيسى، بعد شهر من إقامتي مع عائلتي، التقيته، كان آمنًا سالمًا يقوم بدوره، بالخطاب الحماسي وبالنبرة ذاتها، لكن هذه المرة عن إخوة الشعوب، وعن فكر القائد آبو، وفلسفة الرفيق آبو،... والتبشير بالمستقبل العظيم للمنطقة الذي سيتحقق بنهج إخوة الشعوب.
في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2017، انتقل محمود إلى الرقة، وعين في المكتب العقاري التابع لبلدية الشعب التابعة لقسد في الرقة، ولا يزال.
محمود اليوم أحد أهم الأذرع العقارية لقسد، مع شبكة من مقاولين وتجار بناء وقادة عسكريين ومحامين ووسطاء عقاريين يتوزعون بين دمشق وحماة والرقة. تستطيع هذه الشبكة في وقت قصير تسهيل نقل العقارات من اسم إلى آخر، حتى إن كانت وثائق الملكيات مفقودة، أو مزورة.
هوامش:
(1) باص نقل جماعي صغير يتسع لما لا يزيد على 12 مقعدًا.
(2) يحرقنا.
(3) أمين فرع حزب البعث العربي الإشتراكي في الرقة في الثمانينيات.
(4) تستخدم كلمة الدولة للتعبير عن الانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
(5) صيغة خطاب محلية للتصغير والتحقير.
(6) شجرة التوت.
(7) أسود تمامًا، وخالٍ من أي علامة مميزة.
(8) أرجوحة جماعية للأطفال تنصب في الساحات خلال أيام العيدين.
(9) اختصار لاسم "الشركة العامة للمشاريع المائية"، التي كانت متخصصة في إنشاء السدود، وقنوات الري الكبيرة.
(10) كثير الحظ.
(11) انهدام جيولوجي طبيعي قرب نهر البليخ. ألقت تنظيمات سورية إسلامية، من بينها داعش، في الهوتة مئات الجثث.
(12) المعرف: دليل، أو واش، كان يدل قسد على عناصر داعش المتخفين.