}

يوم عادي من أيام تنظيم الدولة الإسلامية

أحمد إبراهيم 9 أكتوبر 2023
يوميات يوم عادي من أيام تنظيم الدولة الإسلامية
(يوسف عبدلكي)
هذا ما حدث في شهر يونيو/ حزيران من عام 2014. جريمة من جرائم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" المتنوعة بتنوع أمزجة أمنييها، والمختلفة باختلاف آراء شرعييها، المتباينة والمبتكرة والخارجة على أي تصور وتوقع.

لم أعرف أنني سألتقي بجمال، وهو الشاهد الذي سأنقل عنه واقعة قتل الشاب عبد الرزاق قبل تسع سنوات، قتل أرادَ به مسؤولو التنظيم في المنطقة أن يكون قتلًا مشهديًا يضاهي إصدارات التنظيم الموجهة لدول العالم.
سمعت بوجود جمال في بلد اللجوء ذاته الذي أقيم فيه، وجمال هو صديق عمره، وزوج أُخته، التقيتهما، لكنهما لم يُضيفا شيئًا عما سمعته ووثقته سابقًا عن قصة قتل عبد الرزاق، لكنني سمعت كثيرًا منهم، كتأصيل للحكاية، وتأكيد على تفاصيلها، عن حياة عبد الرزاق، عن جده لأمه، عن الناس ومعيشتهم، وخوفهم من احتلالات مختلفة الرايات والخرائط تتناوب السيطرة عليهم، وتتوحد في قتله... وعن... وعن، وتحديدًا عن أم عبد الرزاق التي بَدَت لي أنها خارجة من أحد كتب الأساطير.

قال محدثي:
بعد انجلاء غبار قصف طائرات التحالف يوم 9/ 6/ 2015 على الطريق العام الواصلة بين الرقة وتل أبيض، مستهدفًا سيارة نقل ركاب صغيرة من نوع (فان)، واختفاء صوت الطائرة المغيرة، ركضت وشابان آخران، نحن الثلاثة، فقط، من كل شباب ورجال القرية. نحن بقينا مع مجموعة من العجائز رفضن مغادرة بيوتهن، كنا ومجموعة العجائز نواطير للبيوت، في بلدة "الشركراك" (65 كم شمالي الرقة، 30 كم جنوبي تل أبيض). سكان البلدة نزحوا لاقتراب خطوط القتال من البلدة بين تنظيم داعش والميليشيا الكردية المحمية بقوات تحالف دولي. تنظيم داعش يريد الاحتفاظ بالبلدة لما لها من موقع هام عند تقاطع طريق تل أبيض- الرقة مع طريق M4 الواصل بين حلب الحسكة، لتأخير الهجوم على عاصمة التنظيم في الرقة، والميليشيا الكردية وحماتها يريدون البلدة للسبب ذاته في السيطرة على طريق دولي.
كان أول ركاب الفان ملقى على جنبه على بُعد أمتارٍ قليلة من السيارة التي لم يصبها صاروخ الطائرة المغيرة مباشرةً، وقع الصاروخ أمام السيارة، وبسبب قوة دفع الانفجار طارت السيارة بما تحمله عكس اتجاه سيرها، لتستقر على ظهرها عند حافة الطريق.
عرفته مباشرةً، إنه أبو النور المصري، أمير بلدتنا، كان ينزف من رأسه وبطنه، وفي عينيه رجاء وتوسل. وبين التشفي منه، والخوف منه، تعديناه وجلين؛ فهو لا يزال هو أبو النور المصري رغم حاله هذا!
تفقدنا بقية ركاب الحافلة، وكان هنالك ثلاثة أشخاص، جميعهم فارق الحياة، فتشناهم... وتقاسمنا ما وجدناه معهم، أنا أخذت محافظهم وما فيها من الدولارات والليرات السورية، وأخذت خاتمًا من يد أحدهم، ورفيقيّ تقاسما الأسلحة، مسدسات، بنادق روسية، وأحزمة من الرصاص مع خمس قنابل يدوية. شعرت أنها قسمة عادلة؛ فليس لي رغبة بامتلاك أي نوع من الأسلحة.
قلت لمحدثي: لنعد إلى (أبو النور) المصري.
قال: لم نجرؤ على تفتيشه مثلما فتشنا رفاقه، لكن امتلكتني رغبة في إطلاق النار والقضاء عليه انتقامًا لعبد الرزاق. لكنني لم أجرؤ!
وقفت على بعد أمتارٍ خلفه كي لا أرى نظرة التوسل في عينيه. كززت على أسناني وأنا أهم برفسه. لم أفعل ذلك في آخر لحظة، وابتعدت أخبط الأرض بقدمي بدل رفسه. عدت مسرعًا حانقًا، رفعت قدمي لأدبك على رقبته وأقضي عليه، فتجمدت ركبتي وبقيت قدمي معلقة في الهواء. هممت بسحب مسدسه وإطلاق النار عليه، لكن صاحبيَّ هزّا رأسيهما أن لا أفعل ذلك؛ فهو ميت لا محالة. وأشارا لي أن أنظر إلى القادم إلينا...
كانت العمّة شمسة تدبّ محنية الظهر وهي تحاول صعود الطريق المرتفع عما حوله مستندة إلى عصاها مرة، ومقرفصة، أو حابيةً مرة أخرى، لتتمكن من ارتقاء حافة الطريق. ولما وصلت بمساعدة أحدنا، (لم أعد أذكر مَن هو)، سألتْ: شنهي السالفة؟
أشرنا لها إلى الرجل النازف الملقى على الطريق. لم تسأل مَن هذا؟ إحساسها قال لها من هو، ربما.. استدارت وهي تشحط قدميها على الأرض حتى واجهته. وقفت هناك، فوقه، تتفرس في وجهه. نزعت نظارتها ومسحت زجاجها بطرف ردن ثوبها وأعادتها وهي تتفرس في وجهه مرة أخرى. كرّرت مسح النظارة وإعادتها مرتين، ثلاثًا، وفي كل مرة تُقرِّب وجهها من وجهه. تميل برأسها نحو اليمن واليسار للتعرف على أدق تفاصيل وجهه التي حفظتها ذاكرتها حتى لامس أنفها أنفه، كنسرٍ يتفرس في فريسته قبل نتفها والتهامها... وعندما تأكدت من هو، فَحَّتْ بوجهه هذا إِنْتَ.. مُو؟ ثم رفعت سبابتها وهزتها أمام عينيه اللائبتين بمحجرهما مرتين ثلاثًا، من دون أن تضيف أي كلمة أخرى إلى جملتها الوحيدة: هذا إنتَ.. مو؟ سوى كلمة واحدة حازمة موجهه لنا: هاتوه. وقفنا مذهولين من عدم إدراكنا ما تريده، بينما هي أدارت ظهرها لنا مبتعدة من دون مساعدة لتخطي حافة الطريق المرتفعة. خُيِّلَ إلينا لوهلة أنها عادت إلى شبابها وهي تضع عصاها على كتفها بدل أن تتعكز عليها. وعندما وصلت نهاية انحدار الطريق التفتت إلينا، وبصوت أكثر حزمًا وقوة: هاتوه! تأكدنا مما سمعناه أول مرة، وأربكنا طلبها. كنا نتوقع بعد أن تعرفت عليه أن تغزّ عصاها في قلبه.

العمة شمسة
هي شمس الشموس، أو شمسة.. وهي الشموس عند أبيها، يخصها به، ولا يناديها إلا به تدليلًا وتحببًا، وربما مجاكرةً لأن عمها حرف مناداة أبيها لها بالشموس، وأصبح كلما رآها يناديها بـ الشموص، تحريفًا لمعنى سيء، وإذلالًا لها!
والدها رجل مقدر في الديرة، هو كبير ووجيه قومه، من العائلة والأقرباء، لم يرزق من زواجه الأول سوى بخمس بنات، والعمة شمسة هي البكر بينهن. وتعويضًا عن وجود ولد ذكر، رباها والدها على أنها هي الولد الذي سيخلفه؛ فكانت رفيقته الدائمة في مضافته، طفلة تَعلّمت حديث المجالس، وحفظت الحكم والأمثال، وأنصتت إلى القصص التي يرويها كبار السن، وتفهمت كيفية حل المشاكل بين أطراف يرتادون مضافة أبيها. كانت دائمة الصمت، لا تقاطع أحدًا، ويقال إن المرات القليلة التي تقصد فيها أبيها سؤالها عن أمر ما طالبًا مشورتها كانت أجوبتها فيها شيء من المنطق والمعقولية، رغم صغر سنها، ولهذا، وللمباهاة بها أمام ضيوفه وأقربائه، تمسك والدها باصطحابها إلى المضافة، رغم الهمس الذي يدور خلفه. وعندما شبّت قليلًا علمها قيادة السيارة، في وقت كانت فيه ملكية وقيادة السيارات محصورة ببعض الوجهاء. وقبل بلوغها مبلغ النساء منعت من الجلوس في المضافة، ولما احتجت على ما كانت تعتقد أن جلوسها في المضافة أمر عادي ومفروغ منه، قيلت لها كلمة واحدة ألزمتها والتزمت بها بالأخير: "أنت امرأة، ولست برجل، والمجالس للرجال". تمردت، ولكن القرار كان حازمًا. لكنها بقيت مستشارة والدها، يستشيرها بكثير من الأمور، ليس بسبب عدم معرفته لها، وإنما لتدريبها وسماع رأيها، وهذا كان يغيظ عمها، الذي يعيب ذلك على والدها ويعايره أنه أبو البنات، ومستشارته بنت. ولهذه المعايرة ذكرت العمة شمسة، مرةً عن تلك الفترة، أنها انقهرت عندما سمعت معايرة عمها لأبيها بأبو البنات، وقالت إنها بعد محاولات عدة أقنعت أمها بأن تقنع أباها بالزواج من امرأة أخرى لعله يرزق بولد، وهذا ما كان.
كبرت العمة شمسة... والقلب وما يهوى، حب حياتها كان ابن أحد الفلاحين الذين يعملون في أرض والدها. لم تقبل العائلة ذلك، وخاصة العم، الذي أشهر وأعلن أنها محيرة لابنه، حيّرها من دون أن يتقدم لخطبتها، وكان موقف والدها ميالًا لاختيار ابنته، ولكن الأعراف والتقاليد كبلته بالحيار، وكذلك الخوف من انشقاق بالعائلة... تشبثت العمة شمسة بخيارها، لتثبت أن تسميتها بالشموس الفرس الأصيل غير المروضة اسمًا يليق بها، ولحل المشكلة عرض أبيها على ابن أخيه أن يختار أي واحدة من أخوات شمسة، ولكن العم رفض قاطعًا "بدي أكسر راسها"، وعمل على طرد الفلاح وعائلته في منتصف الموسم من دون تعويض. ولكن ذلك لم يجدِ نفعًا، وإن أراح عمها وهدأ باله بنصف النصر الذي حققه بطرد الفلاح وعائلته من بلدتهم، وأيضًا لم تغير العمة شمسة رأيها، وبقيت وفية لخيارها الذي اختارته رغم تجاوزها سن العشرين من عمرها، وذلك حسب السائد في تلك الفترة، وأصبحت خارج سن الزواج.
تزوج ابن عمها، ولكنه أبقاها محيرةً لسنواتٍ أُخر، إلى يوم موت عمها، عندها استطاعت أن تقنع ابن عمها بالتنازل عن الحيار، وفي سن 25 تزوجت من حب عمرها، وأعطاها والدها قطعة أرض، وبنى لهما بيتًا... وهنا تتكرر قصة إنجاب البنات معها كحال أمها، ثلاث بنات والنميمة تجلدها: لا تنجب إلا البنات. لم تترك طبيبًا يعتب عليها، ولا شيخًا، أو وليًا إلا زارته، تبركت به، وعلقت حجبه في ملابسها، فجاءت البنت الرابعة... كانت تريد ابنًا ذكرًا، تنذر النذور من أجله وتوعد إذا جاءني ولد ذكر، حملت حملها الخامس وكان عبد الرزاق فرحة عمرها. لكن فرحتها لم تكتمل، فقد مات والده بعد أشهر من ولادته. نذرت نفسها له، تحرسه وتدلعه وتدعو له صباح مساء، عبد الرزاق تربية نسوان... دلوع أمو... أخو البنات... تحسبه بنتًا من شدة خجله، ورقة صوته الذي يكاد يكون همسًا، لا ذنب له فقد كان محيطه كله نساء، أمه، أخواته، خالاته، وجدتاه، لم يستقر على الأرض، كان دائمًا محمولًا من حضنٍ إلى حضن.
كبر رزاق كما كان ينادونه، ودخل معهد التمريض، وتخرج فيه، وتوظف في المركز الصحي في قريته التي تحولت إلى بلدة. في بلدته، افتتح عيادته الخاصة، بالإضافة إلى عمله الرسمي، كان يحقن الإبر، ويعلق السيروم، قياس الضغط، وحقن الأنسولين لمرضى السكر، بل كان يقوم بدور الصيدلي أيضًا، فيصرف بعض الأدوية المقتصرة على خافضات الحرارة وأدوية الصداع، فحاز على لقب دكتور من أهالي البلدة. كان دمثًا طيّب المعشر محبوبًا من الجميع.

أبو النور المصري
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، ويتداول أهل البلدة أنّه جاء كأميرٍ لقاطع الشركراك بعد الشكاوى الكثيرة على أميرها عبد العزيز العمر، وهو من القرية المجاورة لبلدة الشركراك، الذي اتهمه شرعيو التنظيم بالغلو، فتم تحويله إلى منصب الأمني الأول للقاطع! بدلًا من أبو آدم زيبقية، وتسليم أبو النور المصري إمارة القاطع، وكان من الواضح للجميع أن الرجلين ليسا على وفاق ٍتام، وكل منهما يحفر للآخر، ويستدل من الأقاويل التي كان يسربها بعض عناصر التنظيم من أبناء البلدة، وهم في غالبيتهم من عائلة وعشيرة عبد العزيز العمر، وأنهم يفضلون عبد العزيز رغم الغلو الذي يبديه تجاه أبناء الديرة.

الخال
يقول المثل: الخال والد. ولكن خال عبد الرزاق لم يكن كذلك، كان يشعر بغيرة غير مبررة تجاه أخته من أبيه، ومرد هذه الغيرة لتربية الضرائر من جهة، ومن جهة أخرى تفضيل والده أخته، العمة شمسة، واستشارتها في كل كبيرة وصغيرة، بدلًا منه، هو الابن وهي الابنة، والأخذ برأيها. بعد وفاة والده، ورث دور أبيه بحكم العادات والتقاليد، لا يقبل بها أحد أن تكون رأس قومها. ولم يمر وقت طويل حتى استولى الخال على أرض أخته التي منحها أبوه لها، الأرض خصبة وملاصقة لأراضٍ مر بها مشروع ري حكومي. أهدى الأرض، تزلفًا وتقربًا، إلى فايز النوري، رئيس محكمة أمن الدولة العليا في سنوات الأسد الأب، ليوسع الأخير من حدود مزرعته. وأعطى الخال أخته أرضًا مستبعدة من الري، أرض سبخ لا تصلح لا للزراعة ولا للرعي. حاربت العمة شمسة من أجل أرضها، لكن علاقة أخيها الواسعة مع كل الجهات الأمنية والقضائية والعشائرية حالت دون أن تجد أذنًا صاغية!

الحادثة
كل يوم نقف أمام نافذة الفرن الخاصة بالرجال، نتدافع بالمناكب بغية الحصول على خبزنا اليومي، وننادي على حسون البائع الذي تلبس سلوك البائع المجتهد الذي لا همَّ له سوى تصريف بضاعته، ولا يبدي أية ردة فعل تجاه سباب فاقدي الصبر. حسون أطرش وأعمى ليس له قريب، أو صديق، لكنه يصبح مبصرًا ورهيف السمع عندما يحضر أحد عناصر تنظيم داعش: أهلًا يا شيخ، يقول حسون عندها، وبشكل آلي يصمت الجمع، ويتباعدون مفسحين لصاحب السلطة بالتقدم، سلوك اكتسبه الناس بحضور صاحب السلطة، سواء كان رفيقًا، أو شيخًا.
في ذلك اليوم المشؤوم، وصل عبد الرزاق إلى طاقة الفرن، وآثر بعض المشترين على أنفسهم تقديم عبد الرزاق، فهو في مقام طبيب البلدة.
يوال حسون: خبزات الدكتور. يوال حسون ما تستحي الدكتور مستعجل... "إحنا ما لنا لا شغلة ولا عملة"، بس الدكتور مو فاضي. يوال حسون بدي (أعطه أولوية) الدكتور علينا كلنا، مو تبدي علينا بس هذولاك؟ يوال حسون، العمى يضربك ما تشوف.
وحسون أذن من طين، وأذن من عجين. وفجأة، وعلى غير عادته، صاح عبد الرزاق (يوال حسون يلعن ديبك، فعلًا أنا اليوم مستعجل، مشيني اليوم، وبكرا مستعد أنطر ساعتين زيادة...).
لا أحد يعرف كيف، أو من أين انبثق صوت، وكأن الأرض انشقت وظهر من يقول بصوت غاضب متوعد (من سبّ الدين يا كفرة؟).
التفتنا جميعًا لنجد أنفسنا أمام أبو النور المصري، مفسحين المجال له مبتعدين، وكل منا تمنى لحظتها أنه لم يوجد هنا، ولا في الدنيا كلها.
أنت سببت الدين يا كافر؟ موجهًا كلامه لعبد الرزاق: لا يا شيخ، أعوذ بالله... وأضاف متلعثمًا، أنا قلت يلعن ديبك، حتى أسأل الحاضرين... هذه كلمة لغو نستخدمها كثيرًا، ونقولها لبعضنا. أنا سمعتك "بوداني"، وتكثرون من قولها... أعرفكم يا أهل الرقة يا كفرة. يا شيخ والله... أسكت، لا تكذب وتحلف بالله كذبًا. تشجع بعضنا، وبصوت واهن متوسل... يا شيخ قال "يلعن ديبك"، حتى حسون الفران، الصامت أبدًا، تشجع وشهد أن عبد الرزاق قال "يلعن ديبك"، لكن أذن الأمير تسمع ما لا يسمعه العامة، وحتى إذا سمع ما سمعوا؛ فبصيرته تكشف ما في الصدور حتى إذا زلت ألسنتهم بقولٍ لا تقوله عادة. لم ينته المشهد المشؤوم إلا عندما زمّ أبو النور المصري عبد الرزاق من زيجه واقتاده بعيدًا... بقينا واجمين وقلوبنا تخفق من المصير الذي سيلقاه عبد الرزاق، وانسحب بعضنا متخليًا عن خبز يومه.

محاولات العمة شمسة
توجهت العمة شمسة فور سماعها الخبر إلى مكتب أبو النور. أبلغها حراسه أنه غير موجود، فذهبت إلى بيته، ولم يكن موجودًا أيضًا... إلى أمير الأمنين عبد العزيز العمر... إلى الرقة... إلى خنيز... إلى الكرامة... إلى السحل، جميع تلك الأماكن وغيرها، قيل لها فيها قادة متنفذون في التنظيم، من سمح لها وقابلته وأصغى لها لم يعدها بشيء. طيلة ما يقرب الشهرين وهي تتوسل هذا وذاك، لرؤية ابنها، أو معرفة مصيره... يئست، ورمت حجرها الأخير، وهي تعرف مسبقًا أن حجرها لن يحرك ماء مستنقع. أخوها الذي بدل ارتباطه وولاءه السابق بعلاقات جديدة مع بعض قيادة التنظيم. وكي يعفي نفسه من وعد بالتوسط لا يريده قال لها مطمئنًا (لا تخافي من وجوده عند الأخوة، لا يظلمون أحدًا؛ فالمحكمة الشرعية ستبرئه حتمًا، اطمئني... ربما سيستتاب ويخضعونه لدورة شرعية، لا أكثر من ذلك)... لم يذهب إلى المحكمة للشهادة سواي وحسون، حسون الذي شهد أنه لم يسمع شيئًا! فهو من كثرة السباب لم يعد يدقق على ما يسمعه، وإن سمعه لا يفهمه!
فشلت الوساطات التي بذلت، وخاصة وساطة عبد العزيز العمر، مدفوعًا بالمناكفة بينه وبين أبو النور المصري أكثر من صلة القرابة التي تربطه بعبد الرزاق، شهادات الشهود لا قيمة لها مقابل قول أميرٍ في التنظيم، مرابطة العمة شمسة أمام بيت أبو النور المصري لأيام لم تنفع، ودموعها لا يمكن أن تغير حكم الله الذي بنته المحكمة الشرعية على قسم أبو النور المصري، حكمها بأن عبد الرزاق قال للفران "دينك"، وبناء على ذلك القسم رأت المحكمة أن عبد الرزاق سبّ الدين، وسينفذ فيه حكم الردة، بالقتل، إن لم يتب. لكن أبو النور المصري أصرّ على حجب الاستتابة، وحول الأمر إلى مسألة أمنية تهدد مصير الدولة، وكان له ما أراد!

القتل
تم استدعائي من قبل عناصر الأمنيات لأستلم جثة عبد الرزاق، صديقي وابن عمي وخال أولادي، وحيد أمه وأخواته الأربع. واستلام جثة لم يعد أمرًا غريبًا، فقد تم تطبيع سكان المنطقة على استلام جثة أخ، أب، قريب، وأصبح ظاهرة عاشها كثيرون في الديرة، جثث تم استلامها من مشافي النظام، لمجندين قتلوا في معركة، أو أعدموا، جثث ملقية في الأرض وتم العرف عليها من قبل أحد، ليتصل بأهله كي يلتقطوها من البرية... لكن أن أذهب لاستلام جثة، وأجبر على رؤية ما رأيت بقطع رقبة صديق عمري وأخ زوجتي؛ فهذا لم أكن أتوقعه في أسوأ كوابيسي، قتلٌ، وقص رقبة بساطور، باسم الله وحمده!!
كان تنفيذ القتل في قرية تل السمن شرقي الطريق العام. اختاروا ساحة القتل ليكون قتلًا مشهديًا. أحضروا جميع سكان بلدة تل السمن، ونصبوا حواجز لإيقاف المسافرين من الريف الشمالي إلى الرقة، وكذلك القادمين من الرقة، قتل شاهده المئات، وفرجة على تنفيذ حد من حدود الله! كان أبو النور المصري كاشف الوجه، مرفوع الأكمام، دار حول فريسته وسط الحلقة الآدمية مزهوًا بما سيقدم عليه ويأمر بتنفيذه، بسمل وكبّر، وقال: ويسألونك عن حكم من سبِّ الدّين، من سب الدّين فقد كفر، ومن استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه؛ فهو كافر، وكذا إذا أتى بقولٍ أو فعلٍ صريح من الاستهزاء، وقوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)... تكبيييير، ردت الجموع الله أكبر، الله أكبر. تكبييير ثلاث مرات ويده مرفوعة، والجموع تهدر وراءه: الله أكبر... الله أكبر... أنزل يده فهوت الساطور على رقبة الفريسة، ارتفعت ثم هوت... ارتفعت للمرة الثالثة هوت لينفصل الرأس عن الجسد، في المرة الرابعة رفع صاحب الساطور الرأس المفصول عاليًا باتجاه السماء. هزّ الرأس وهو لا يزال يقطر دمًا، فصاح المتفرجون: الله أكبر، هز الرأس متحمسًا بصيحة الله أكبر فأجابه المحتشدون: الله أكبر... الله أكبر، مرتين... ثلاث... أربع... حماسٌ المتفرجين يزداد كلما اهتز الرأس في الهواء، دقائق غير قليلة عندما مل صاحب الساطور، فألقي الرأس فوق الجسد الذي فصله عنه، عندها بدأت حلقة المتفرجين تنفض كأغنامٍ صدّت عن موردها بعدما امتلأت.
اقتربت من الجسد الذي ألقي الرأس فوقه، قدماي بالكاد تحملانني، حلقي جاف، وأنا أضغط بيدي على بطني لأخفي ارتجافها. أشار أبو النور إلى الجسد الملقى، وخاطبني: لا يغسل، ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولكن في هذه المرة تسامح مع وساطة عبد العزيز العمر، وخال عبد الغفور، وسمح لنا بدفنه في مقبرة البلدة، من دون إقامة عزاء. عندما رأته العمة شمسة جمدت عيناها، ولم تذرف دمعة واحدة.

ذلك اليوم العادي
توقعنا بعد أن تعرفت عليه أن تغرس عصاها في قلبه، في عينه، أن تبصق عليه، أن تذرف دمعة بعد أن جمدت عيناها منذ قتل ابنها، لكنها لم تتفوه سوى بكلمة واحدة: هاتوه! حملناه ببطانية إلى ساحة بيت العمة شمسة. أخرجت من عبها مفتاح دار عبد الرزاق، التي لم يدخلها أحد سواها منذ يوم قتله. ساعدناها في إدخاله إلى غرفة عبد الرزاق، حيث تريد. بدأت بتنظيف جرح رأسه بدايةً، بهدوء، تبين أن جرح رأسه ليس خطيرًا، وعندما أزاحت طرف ثوبه متتبعة مكان تدفق الدم، رأينا ورأت أن طرف أمعائه مندلق خارج بطنه. حاولت دفع أمعائه خلال شق البطن إلى الداخل، لحظتها اختلج جسده وفارق الحياة، بداية لم نتيقن آنئذ من اختلاجته اختلاج موت إلا عندما أغمضت عينيه، وهي تقرأ عليه الشهادة. وأقسم أنني في تلك اللحظة رأيت ما يشبه الدمع في عينيها.
أشارت بعصاها أن اخرجوا. بقيت وحدها مع الجثة، وأقفلت الباب من الداخل. مر الوقت... ساعة... ساعتين، ولم تخرج العمة شمسة. استرقنا السمع من خلف الباب والنافذة، لنسمع همهمة حديث، لكننا لم نفهم ما تقول. نلوذ بظلال الدور ككلاب كواها القيظ، نتناوب المراقبة من دورية حِسْبة تكبسنا ونحن ندخن، أو تبحث عن جثث قتلاهم. الطائرات تعود إلى السماء باحثة عن صيد آخر، أصوات الانفجارات لا تنقطع، ويبدو أن الدوي كان يقترب أكثر وأكثر، نعاود استراق السمع من دون أن نجرؤ على طرق الباب. قبيل الغروب بقليل، فتحت الباب وجلست على عتبته. تخطيناها، وكانت أشياء تخص عبد الرزاق مرتبةً حول جثة قاتله، صور لعبد الرزاق وهو طفل، وصورة له وهو شاب، صور بلباس معهد التمريض... شهاداته الدراسية... زجاجات عطره، بعضها فارغ، وبعضها فيه القليل... صُرّةُ عبد الرزاق حين ولدته مدفونة بكتاب وملفوفة بقطعة قماش بيضاء، كلابية بيضاء لطفل عليها نقاط دم، وقطعة من قلفة عبد الرزاق أثناء عملية ختانه... سماعة طبية... وجهاز ضغط... دفاتر مدرسية قديمة... صدرية وفولار فوقها... بدلة فتوة... لباس داخلي... كلابيات... أحذية... وجهازا موبايل قديمان... كل ذلك مرتب، أو مكوي ومعطر. هكذا تحتفظ العمة بكل أشياء وتفاصيل ابنها، وتعيش معها، نكلمها، لا ترد علينا، وكأنها في ملكوت آخر. تضع عصاتها بين ساقيها ممسكة بطرف العصا العلوي بكلتا يديها، مسندة ذقنها على يديها مطرقة في اتجاه الأرض. نهضت فجأة، وخاطبت الجثة: سأدفنك في قبر عبد الرزاق، وهناك سيحكم بينكما رب عادل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.