}

الشّهداء

انتصار الدنان انتصار الدنان 29 سبتمبر 2023
يوميات الشّهداء
(طالب الدويك)
سكت صوت الحرب، وأغلقت الأبواب على ذلك المخيم الذي تعبق منه رائحة التراب المعطر بدم الشهداء، حملوهم على الأكف وزفوهم إلى قبورهم ينثرون عليها العطر وزهر الياسمين. سرنا خلف نعوشهم الخمسة، تمطرنا الدموع، وتلهبنا أشعة الشمس، ويحفنا الوجع، ودمع أمهاتهم، ووجع العمر الذي لن ينتهي بموتهم.
كانت أمهاتهم يمشين بصمت المهزوم، يذرفن دمعًا بقدر سني أعمارهم الّتي عاشوها في أحضانهن.
سرتُ في شوارع المخيم المكلوم، تستقبلني البيوت المشرعة أبوابها للريح تتلاعب بماضيها وحاضرها، وبالصور المعلقة على الحوائط التي تضمها إلى صدرها المفروش بشظايا الوجع والغربة والألم والموت والخوف.
كانت عيونهم تهزأ مني، تسخر من نظراتي الموجوعة من الحسرة، راحت تحدق بي، رحت أمد يدي لألامس ملامحهم التي ما زالت عالقة في أماكن موتهم، اهتزت يدي، ارتجفت خوفًا من أن تنطق عيونهم الباسمة بهدوء معاتب: متى ستقتصون ممن يصادر فرحنا العالق بين أسنان الشّرّ؟
شعرت بأن تلك الصور قطار من حزن مغسول بأمطار دامعة، تتسلل إلى ساحات الحرب، قطار لا تتوقف عجلاته، تمشي فوق الوجع وتمضي.
يؤلمني مشهد تلك الصور التي ضمتها الحوائط، ويقصني كالسنبلة على حدّ منجل الذّكريات.
غدًا ستسأل عنهم ساحات اللعب التي كانت أرواحهم تصيح فرحًا فيها، وتعلو فيها ضحكاتهم وأصواتهم المبتهجة بالمستقبل الجميل.
أين هم من كانوا يضجون المكان بصخبهم؟ أين من كانوا في الأمس بيننا؟ نناديهم بأسمائهم. أينهم جميعًا؟
لكن عيونهم التي تضحك في الصور كانت تقول: ماذا تفعل حين تعشق وطنًا؟
تركت مكاني، وسرت تاركة خلفي صورًا ودت أن تخبرني أسرارها، التقطت صورتي هذه لأنني كنت أريد إصدار تذكرة هوية، أو جواز سفر، أو إجراء امتحانات جامعية، أو الالتحاق بعمل، أو الزواج. كل تلك العيون كان لها هدفها. عدت منكسرة، آلمني حديثي مع تلك الصور التي سيأتي يوم ليس بعيدًا وتقتلعها الرياح وتأخذها بعيدًا، وتبقى الدموع متحجرشة في المقل.
توقفت الحرب بعد أن تعب المحاربون، وشربوا خمر موتاهم، ودموع الأمهات، ووجع الأطفال، وأنين البيوت التي تناثرت أشلاؤها في الهواء، وضاعت ذكرياتها، وصفقوا لوجع المخيم.
الجميع عادوا إلى بيوتهم إلا الشهداء، ظلت غرفهم فارغة باردة ليس فيها إلا بعض من حنين سُجل في تلك الصور التي تركوها، وحنين إلى ماضٍ عاشوه بحلوه ومره.
أرواحهم لفت في بيانات النعي، وهنأ المعزون أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم، وأخوتهم.
هذه هي الحرب العبثية التي تقضم في كل جولة ذكريات، تتسلل إلى بيوتنا وتسرق منها الحياة.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
21 أبريل 2024
شعر
15 فبراير 2024
يوميات
4 نوفمبر 2023
يوميات
29 سبتمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.