مضى زمن، وصرت في الصف الرابع عدت إلى الكتبية وقلّبت هذه الكتب فوجدت كتابًا أصفر كبيرًا له هوامش على أطرافه وقد أكلت الفئران أجزاء منه، قلّبته فعثرت على العنوان من داخله "حياة الحيوان" للدميري، ثمّ قلبت باقي الكتب فوجدت كتابًا يسمّى "عطيل" لشكسبير، فرحت لأنّه كان سليمًا لم تتنعم به الفئران، أخذته واستلقيت على ظهري ولففت رجلًا فوق رجل، وصرت أقرأ، أنهيت الكتاب من الجلد إلى الجلد، واكتشفت عالما جديدًا يسمّى المسرح، إنّه يتحدث عن رجل يميل لونه إلى السواد، يحب زوجته ويكتشف أنها تخونه فيخنقها... شعرت بأنّ العالم جميل لأنّ فيه هكذا كتب.
ثمّ كنت في الصف الحادي عشر حين تعرّفت على المسرح فقد كنت أواظب على مسرح الشعب وأحضر جميع المسرحيات فيه، وظلّت مسرحية "عطيل" تؤرقني، وقد نقلت الكتب الصالحة إلى مكتبتي في المربع الثاني ومعها مسرحية شكسبير، درسنا في الجامعة المسرح الغربي والعربي، وتعرّفت على المسرح أكثر ولكن كلُ ذلك لم يشف غليلي، فما زال عطيل يقض مضجعي، فأنا ما زلت أفكر كيف يمكن لمغربي أن يقبل برجل آخر يكون صديقًا لزوجته، هذا الموضوع لم أكن لأتصوّره.
الآن يمكن أن ارفع صوتي عاليًا وأقول: إنّ شكسبير حين كتب "عطيل" لم يطلع على الثقافة جيدًا، وإلا لكان قد أعطى عطيلًا دورًا مغايرًا ونهاية أخرى، أي مصيرًا آخر، لقد انتحر عطيل بسبب خداع رجل خبيث، فلو كان شكسبير مطلعًا على تاريخ المغرب في ذلك العصر، لما جعله ينتحر من أجل إثم ارتكبه مخدوعًا، لقد أعطاه منطق الرجل الأوروبي، فسمح له بقبول زوجته أن تصادق الرجال، ومن المعروف أنّ في ثقافة المغرب لا توجد امرأة واحدة متزوجة تصادق الرجال، وإنّ عطيل هو رجل ذو صفات نبيلة، أخلص في حبِه إلى درجة الانتحار، وزوجته أوروبية ابنة سيناتور ثري، فمن الممكن أن تكون صداقتها للرجال أمرًا طبيعيًا، لكن أنا أتحدّث عن عطيل، وليس عن زوجته، إننا أمام قائد عسكري كبير من أصل مغربي، والمنطق الذي يتحلّى به القائد العظيم يتنافى وليونته بالسماح لزوجته في اختيار جندي شاب صديقًا لها، بغض النظر عن أصل زوجته، ثمّ إنّ الرجل المغربي لا يثني على زوجته عشقها للطرب وإجادتها للرقص كما فعل عطيل، وبذلك فإنّ شكسبير أظهر جهلًا بثقافة عطيل.
قد يقول قائل: إنّ عطيل لم يحبُ بعقله وإنّما بإحساسه ووجدانه، وهذه أمور إنسانية عاطفية لا دخل للثقافة في توجيهها، وشكسبير كان حكيمًا وفنانًا عندما جعل عطيل ينتحر فقد رجح وجدانه على عقله.
يجب علينا أن نطلع على ثقافة عطيل والثقافة التي كانت سائدة في عصره، فإنّ العقل والوجدان والعاطفة وحتى الأحاسيس كلُها تتحدّد تبعًا لثقافة صاحبها.
ثمّ يقول القائل: إنّه من العبث أن ننظر إلى عطيل منفردًا عن الأجزاء الأخرى من المسرحية، بل يجب النظر إليه في إطار باقي العناصر الأخرى، لأنّه يستمدُ كيانه منها وليس من الثقافة أو من ذاته، قد تكون ثقافة عطيل متباينة والدور الذي أعطاه إياه شكسبير في هذا العمل، كأن يكون عطيل مثلًا قائدًا عسكريًا بدون عاطفة أو وجدان، فقام شكسبير بتطويعه جاعلًا ما يستعصى تصديقه سهل التصديق، وهنا تكمن عظمة شكسبير، إنّه يجعلنا نرى المستحيل ممكنًا، وأن تجعل المستحيل ممكنًا أفضل من أن تجعل الممكن مستحيلًا، وهي اللعبة ذات التسلية الراقية في الفن، بل هي الفن ذاته.
تقول مسرحية شكسبير إنّ رجلًا جاء من المغرب إلى البندقية وخدم في جيشها حتى أصبح قائده الأكبر وعقيده في الملمات، وهو في سنِ الأربعين، وقد اختاره أفريقيًا وعسكريًا ليكون سريع التصديق والانخداع، لونه أسود بينما زوجته بيضاء، منعمة ومترفة، لقد أحب ديدمونة الجميلة وتزوّجها بدون موافقة أبيها، ثمّ يتدخل الواشي (إياغو) إلى عقله فيثير الشكوك فيه ودفعه إلى خنقها، ثمّ تظهر الحقيقة فلا يجد لتفكيره سوى أن يقتل نفسه، ولا ننسى أن الضابط الشاب هو في جيش عطيل.
ولا ننسى أنّها تتوافق مع حكاية عبد السلام الرغبان (161 ــ 236 هجرية)، التي أوردها كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، الملقب بديك الجن الحمصي، وهو مطارد للنساء، معاقر للخمرة مع مجموعة من المجان، وأحب جارية له تدعى ورد بنت الناعمة، تدين بديانة غير ديانته، وقد طلبها للزواج وغيرت دينها بناء على طلبه، وله ابن عم يكره هذه الأشياء، وقد تدخل مرّات عدة وهو يعظه وينهاه أن يترك هذه الأشياء ويحول بينه وبين هذه اللذات، وربما هجم عليه، وقد هجاه عبد السلام في إحدى المرّات، حيث قال فيه: "سبحان من يمسك السماء على الأرض وفيها أخلاقك القذرة".
سافر ديك الجن إلى حمص، وبقي فيها أياما، واستغلّ ابن العم ذلك وأذاع في الناس أنّ وردًا تهوى غلامًا، وأعلمه حين عاد، أنها في غيبته فعلت حوادث لا يمكن السكوت عنها وأنّ عليه أن يطلقها، وقد دعا الغلام الذي رماها به، وقال له: إذا قدم عبد السلام ودخل منزله فقف على بابه كأنّك لم تعلم بقدومه ونادي باسمها، فإذا قال من أنت، فقل: فلان.
فلما نزل على الباب سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لا يعرف، فبينما هما كذلك قرع الباب، فقال عبد السلام: من الطارق، قال الرجل، أنا فلان، فقال: يا زانية زعمت أنّك لا تعرفين. ثم استل سيفًا وضربها، ثمّ بعد ذلك بلغه الخبر على حقيقته فندم على ذلك ومكث شهرًا لا يستفيق من البكاء وكتب يصف حالته شعرًا كثيرًا.
إنّ بين هذه الحكاية ومسرحية "عطيل" قرابة 800 عام، ولا يمكن أن يكون شكسبير قد اطلع عليها ثمّ إنّه لم يكن يجيد اللغة العربية، إنّ العواطف الإنسانية واحدة، في الشرق كما هي في الغرب، وقد دخلا إلى عمق النفس الإنسانية في تصوير النوازع الداخلية ورسم الشخصيات والولوج إلى العالم الداخلي لكل منها، لقد أبدع كلاهما ليقدما لنا عملًا يبقى على مرّ الزمان، ولكن لماذا لم يقتل عطيل الضابط الشاب وضحى بنفسه؟ فمن العادة أن يقتلها ويقتل الآخر، ويسلِم نفسه إلى القضاء، ويرتاح لأنّه انتقم منهما... سؤال ظلّ عالقًا في ذهني، وما زال.