}

ما كان في 1967 وفي طوفان الأقصى

فيصل خرتش 24 مايو 2024
سير ما كان في 1967 وفي طوفان الأقصى
(فاتح المدرس)
زيّنا باب البيت، ودهنّاه باللون الأخضر والأسود، وكتبنا على الجدار، "هلهلت مكة وقالت: مرحبًا بالزوّار الكرام"، وأخي جلب الأخشاب وصنع منها غطاء لباب البيت، ثمّ وضعنا السجاد عليه، وصارت كل الأمور جاهزة لاستقبال الحجاج. انتظرنا يومًا وبعض يوم، ووصلوا من الديار المقدّسة، فاستقبلناهم بالقبل والأحضان، والدموع. وجاء الناس، بعضهم لأخذ الراحة، وبعضهم للسلام على الحجاج، وعندما لم يبق أحد سوى الأقارب، وعمّ الليل على الدار، جاء أبي ونزلت أمي إلى أرض الدار، أحضروا ما جاؤوا به، وفردوا الخرج، وبدأوا يخرجون ما اشتروه.
أمي أخرجت (بيك آبًا) ماركة (ناسيونال)، وقالت مشيرة إليّ: هذا لك. ولم تكن البيك آبات قد وصلت إلينا، لونه أزرق وأبيض، وكان له غطاء، إذا ما رفعناه يظهر قرص مدوّر، على جانبه يدٌ، فإذا ما وضعنا الأسطوانة فوق القرص، وحرّكنا اليد لتكون فوقه، نسمع الأغاني التي نحبها.
طرت فرحًا، اشتريت الأسطوانات، وصرت آخذه معي أينما أذهب، أجلس غالبًا في الحديقة أمام الدار، وأضع الأسطوانة عليه وأشغل الجهاز، ألفّ رجلًا فوق رجل، وأترنّم بأحلى الأغنيات، إنّه مذياع أيضًا، له ثلاث موجات، وكنت أستمع إلى الأخبار، من إذاعة لندن، والقاهرة، وصوت العرب، ودمشق أيضًا، فكنت حين أمل من سماع الأغاني أنصت إلى الأخبار.
بعد عام، وقعت الحرب، تلك التي يسمونها حرب الأيام الستة. كنت صغيرًا أيامها، لكنني تركت الأغاني وبدأت أستمع إلى الأخبار. صرت أعرف أنّ إسرائيل ستكون مهزومة من نسر العرب، والميغ طارت واعتلت في الجوّ تتحدّى الكدر. كنت أفرح والناس التمّت حولي تصرخ كلما أذيع بلاغ عسكري... وقد بلغ ما أسقطناه من طائرات 95 طائرة في اليوم الأوّل، والناس المجتمعون حولي يصيحون ويهتفون، الله أكبر. أم كلثوم وعدت بأنّها ستغنّي في تلّ أبيب.
انطلقت إلى فحص الكفاءة، وعندما وصلت باب الثانوية السورية، كان التلاميذ مجتمعين وقلقين. انتظرنا مقدار نصف الساعة، ثمّ جاء الخبر الأكيد، فُتح الباب وخرج مدير المركز، وطالبنا بالسكوت، وعندها قال: لا يوجد امتحان، أغلقت المدارس حتى إشعار آخر، هتف واحد منّا: الله أكبر والموت لإسرائيل، رددنا وراءه، ثمّ امتطى واحد آخر، وصعد على كتفيه، وصار يهتف ويسقّط، ونحن نقول مثلما يقول، قطعنا الطريق، وانضمّ بعض الناس إلى موكبنا، وعندما وصلنا إلى نهاية الشارع، انفض هذا التجمع، وذهب كلّ في حال سبيله.




لم أذهب إلى الدار. ربما لن أجد أحدًا فيها، فأبي ذهب إلى العمل، وأمّي توجّهت إلى السوق، وأنا هنا، وإخوتي الصغار عند جدتهم. فإذا ما سألتني، لماذا عدت مبكرًا، سأقول لها عن الحرب، وسوف أشرح، وهي تسأل، لذلك فضلت أن أتجوّل في مركز البلد، وأتعرّف عليها أيام الحرب.
مشيت، وكنت أشاهد الناس يجتمعون حول المذياع، ويصرخون بعد كلّ بلاغ عسكري. كنت أراهم يبكون وتنهلُ الدموع من عيونهم. وصلت عند بائع الصحف في المنشية القديمة، وكان قد جلب مذياعًا هو الآخر، وفتح الصوت على آخره، والناس متجمهرة حوله:
"بلاغ عسكري رقم: قامت دفاعاتنا الجوية بإسقاط 7 طائرات فوق الجولان. حاولت الطائرات قصف مواقعنا في سعسع ودير العدس، لكن الدفاعات الجوّية تصدّت لها وقامت بإسقاطها". تبع ذلك أغنية:
خبطة قدمكن ع الأرض هدارة   إنتو الأحبة وإلكُن الصدارة.
وصاح الناس بصوت واحد: الله أكبر. أيضًا صرخ واحد آخر ممن أخذتهم الحميّة: سوف نصلّي الجمعة في تلّ أبيب:
يا هذه الدنيا أطلي واسمعي     جيش الأعادي جاء يبغي مصرعــي
أنا باليقين وبالكفاح سأقتدي      قولوا معي الله أكبر الله فوق كيد المعتدي.
صفّق الناس له، وحمل على كتفي رجل آخر، وصار يهتف والناس تردّد وراءه، الرجل الذي يحمله دار المنشية عشر دورات، والرجل الذي فوقه يهتف بسقوط دولة الاحتلال، ومن يدعمها، والناس تصرخ وراءه، وأنا كنت معهم، أصرخ بملء فمي، تسقط إسرائيل دولة العدوان.
ارتحت كثيرًا من خلال هذه الجولة، فأنا شاهدت الناس يلتمون حول المذياع ويهتفون ويصرخون. دخلت البيت، وكنت كأني شعلة من نار. كانت أمّي تطبخ لنا الطعام. دخلت وأنا أصرخ: وقعت الحرب وتأجل الامتحان، الله أكبر فوق كيد المعتدي، تسقط إسرائيل.
صارت الساعة الرابعة إلا عشر دقائق، فوصل أبي من العمل. وبهدوء، غسل يديه ورجليه، وأخرج الراديو الكبير الذي يعمل على الكهرباء، ووضعه على كرسي في أرض الدار. أمي كانت قد صنعت له فنجانًا من القهوة. هكذا كانت عادته، عندما يعود من العمل، كنت أراقبه فقط. لم أقل له إنّ الامتحان قد تأجل. كنت أنتظر الفرصة المناسبة حتى أبدأ معه الكلام. ولّف المذياع، واستطاع أن يضع الإبرة على إذاعة دمشق. كان قد بقي على إذاعة الأخبار حوالي ثلاث دقائق، وإذ ذاك أخبرته بأنّ الفحص قد تأجّل، لأنّ الحرب قد وقعت، فهزّ برأسه، وقال: عندي علم بذلك.
دقت ساعة دمشق، وأعلن المذيع عن موجز لأهمّ الأخبار، ثمّ بدأ بتفصيلها، قال: لقد شنّت إسرائيل الحرب على سورية ومصر، في صبيحة هذا اليوم، وقد ردّت قواتنا عليها بالمثل، ثمّ راح يعدّد خسائر العدو على الجبهتين فبلغت العشرات من الطائرات. وراح يدخل في العمق، لقد وصلنا إلى اللحم الحي، أي أننا دخلنا الأرض المحتلة. زغردت أمي، وكانت تحمل فنجان القهوة بيديها، وأنا صرت أصرخ: الله أكبر، وأبي ابتسم، دليل على أنّه كان راضيًا عن تسلسل المعارك مع العدو الإسرائيلي.
استمعنا إلى إذاعة صوت العرب، والقاهرة، والشرق الأوسط، ودمشق قلب العروبة النابض، إلى أن نمت في مكاني، وأيقظتني أمي وألقتني في فراشي. وفي اليوم التالي، عدت إلى ما فعلته سابقًا، فقد ذهبت إلى مركز البلد، ورأيت الناس مبتهجين بهذا النصر الذي تحقّق، وأكملت اليوم الثالث، وعندما وضعت  المذياع في أرض الدار، وقلبت الإبرة على محطّة إذاعة لندن صُعقت وأنا أسمع الأخبار: لقد وقعت غزّة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقامت كذلك باحتلال سيناء، وتوغلت حتى قناة السويس، والضفة الغربية وقعت تحت الاحتلال، والجولان السوري وقع تحت الاحتلال أيضًا.
شاهدت الناس الذين يبكون في الشوارع وهم يتجمعون حول المذياع، لم يكونوا يصرخون أو يهللون، كانوا فقط يبكون.
الآن، ومع طوفان غزّة، وجدنا الجيش الإسرائيلي كالمجنون، إنّه لا يبحث عن الأسرى، بل يمضي في كلّ الاتجاهات وهو يخرب الأبنية السكنية التي يسكنها الآمنون، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، والمدارس، إنّه يهدم فقط من دون رحمة، يريد أن يحافظ على هذه التسمية التي وهبناها له بأنّه الجيش الذي لا يقهر، فكيف يهزم الجيوش العربية في ستة أيام، والآن قد مضت على أيام حربه مع غزة التي لا يساندها أحد أكثر من سبعة أشهر، ولم يستطع أن يحقق فيها نصرًا ولو كان صغيرًا، إنّه يدمر فقط كالمجنون.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.