}

في مارسيليا من جديد

رشا عمران رشا عمران 27 أكتوبر 2024
يوميات في مارسيليا من جديد
مارسيليا (Getty)
إذا ما حدث أن غادرت مصر نهائيا ذات يوم لسبب من الأسباب فحتما سوف أسعى لتكون مدينة مارسيليا هي وجهتي... أحب هذه المدينة، أحب تفاصيلها المدهشة، تنوّعها، تمرّدها على البياض الفرنسي وعلى المناخ الفرنسي وعلى الطقوس الفرنسية؛ أحب أنني أتحدث اللغة العربية فيها مع الباعة وفي الأسواق وفي المطاعم والبارات بدون أن أشعر بالنقص أو الخجل أو الحرج لأنني لا أعرف الفرنسية؛ أزمة الهوية في مارسيليا شبه محلولة، أزمة المنفى أيضا إذا ما اعتبرنا أن اللغة هي منفى ووطن في آن معا. أزمة الانتماء أيضا إلى قضية من القضايا السياسية والوجودية الراهنة والشائكة، في مارسيليا سوف تجد ما يشبهك ومن يشبهك حتى لو كانت انحيازاتك باهظة الثمن؛ هذه مدينة رحبة تتسع لكل التناقضات، ولو حدث مرة أن تعسفت لسبب من الأسباب فسوف يبقى فيها مساحة واسعة لبدء تمرد جديد. ليس التمرد على القوانين الإجرائية بل على محاولات تغييرها وتدجينها من قبل النظام العام الذي يبدو كما لو أنه واحد في كل العالم، يحاول النظام أن يدجن كل شيء، وقد يبدو أنه ينجح أحيانا لكن ثمة مدن تعصى على ذلك، منها مارسيليا. حاولت السلطات الفرنسية مرارا إرهاب الناس سواء في المظاهرات التي حصلت قبل أعوام حين قتلت الشرطة الفرنسية شابا جزائريا في باريس واشتعلت المظاهرات والاحتجاجات في كل فرنسا، أو بعد حرب غزة الأخيرة حين استعدت الحكومة لقمع وحصار كل نشاط مناهض للاحتلال الإسرائيلي ولعدوانه على غزة. لكن مارسيليا، التي تضم العدد الأكبر من اليسار الفرنسي ومن تبقى من الاشتراكيين فيها، إضافة إلى العدد الكبير من المهاجرين لا سيما من دول المغرب العربي وأفريقيا، استطاعت النجاة من هذا الحصار لصالح انفتاحها على حرية التعبير وحرية الرأي والتظاهر.
تسكن شقيقتي حلا في شارع يقع بين منطقتين رئيسيتين في مارسيليا: كور جوليان cours Julien المصنف دوليا كأكثر منطقة مستقطبة للسياح حول العالم خصوصا الأجيال الشابة، وشارع كانبيير canebier، الواصل إلى المرفأ القديم الذي لا يخلو من الناس على امتداد اليوم. في هاتين المنطقتين تتركز كل حركات المناهضة والمظاهرات والاحتجاجات. نحن هنا في مركز مارسيليا تماما، في أكثر مناطقها ازدحاما وتنوعا، وفي أكثر الأماكن التي تنظم فيها البلدية فاعليات متواصلة فنية وثقافية واجتماعية. أخبرتني حلا أن بلدية مارسيليا كانت على الدوام تتبع اليمين حتى عام 2020، إذ استطاع الخضر الفوز بالبلدية ومن وقتها بدأ مركز المدينة يأخذ طابعه الحقيقي؛ قبل أيام كانت هناك مظاهرة ضخمة في منطقة المرفأ القديم للتضامن مع غزة ولبنان شارك فيها إضافة إلي العرب الكثير من الفرنسيين لا سيما من الجيل الشاب، وللمفاجأة شارك فيها أيضا عدد لا بأس به من اليهود الذين يرفضون أن تحدث المجازر باسمهم. ظل شاب فلسطيني يحمل علم فلسطين ولافتة كتب عليها بالفرنسية: "يموت الجسد لكن الفكرة باقية... الحربة لغزة"، واقفا على منصة تتوسط المنطقة لمدة ساعتين بعد المظاهرة. كما لو أنه تمثال ثابت، كما لو أنه أراد تجسيد مأساة غزة وصمودها عبر وقوفه الطويل. وعلى مقربة من المظاهرة، في شارع كانبيير كانت هناك فعالية موسيقية لشاب كردي فنان ولاعب أكروبات غنى بالفرنسية والكردية، وخاطب الناس المتجمعين حوله جلوسا ووقوفا بكلمات مؤثرة قال فيها إنه أتى منذ زمن من بلد ليس بلدا ويقع بين عدة دول تفتك بها الحروب، في بلده يسمونه الفرنسي وفي فرنسا يسمونه الكردي، لا أحد يعترف به كشخص له اسم وحيثيات خاصة به، مثله مثل بلده الموجود والذي لا يعترف به أحد. كان ملفتا أن جمهور هذه الفعالية يضم الكثير من الأطفال السعداء حقا، مثلهم مثل باقي الأطفال الذين كانوا يتواجدون في منطقة أخرى من الشارع يشاركون في فعاليات سوق الطعام المتنوع الذي تقيمه البلدية كل أسبوع ويعرض فيه الباعة أنواع الطعام الذي يطهوه الفرنسيون والعرب المغاربة والأفريقيون والآسيويون الذين يشكلون شعب هذه المدينة المدهشة.
"شعوب مرتاحة"، قلت لحلا ونحن ننتقل بين فعالية وأخرى ونشاهد سعادة الأطفال بهذا اليوم الدافئ والجميل... لماذا لا يحظى أطفال بلادنا بهذه الطفولة السعيدة؟ لماذا عليهم أن يعيشوا حربا وراء أخرى ومأساة تلو الأخرى؟ نحن بلاد تربت شعوبها على الهزائم المتواصلة، على الحروب المتواصلة، نشأت أجيالها على الخوف، نحن شعوب نخاف من الحياة ونخاف من الفرح ونخاف الحرية ونخاف من التغيير، نخاف من كل شيء لم نعتد عليه، نرضع الخوف مع حليب أمهاتنا، ثمة عقاب ينتظرنا في كل مكان ومع كل حركة نقوم بها، سيعاقبنا الأهل وستعاقبنا المدرسة وستعاقبنا الحكومة وسيعاقبنا الله، نحتال على هذا الخوف بالمواربة، كيف لشعوب تعيش في عين الخوف أن تكون شعوبا طبيعية بعواطف ومشاعر طبيعية؟ كيف لا يفهم العالم ماهيتنا؟ كيف تعاملنا منظمات العالم كما تعامل باقي الشعوب؟ كيف يمكن لأية منظمة دولية تعنى بالطفولة مثلا أن تتحدث عن أطفال العالم بوصفهم كتلة واحدة متشابهة؟ هل أطفال غزة يشبهون أطفال مارسيليا؟ هل أطفال سورية ولبنان والعراق واليمن وليبيا ومصر لهم نفس صفات أطفال العالم المتقدم؟




حكيت لحلا عن مقطع مصور مر معي قبل أيام على الفيسبوك فيه طفل أوروبي يسأله أحد ماذا يريد أن يصبح حين يكبر فيجيب بأنه يريد أن يصبح طبيب أعصاب كي يساعد جده المصاب بالباركنسون على الشفاء. وطفل مصري يسأله أحدهم نفس السؤال فيجيب بأنه يريد أن يصبح "سواق توك توك". الفرق بين الطفلين هو في الفرق بين عائلتيهما والفرق بين العائلتين هو في الفرق بين مجتمعيهما، والفرق بين المجتمعين هو في النظام الذي يحكم كل منهما. نحن محكومون من قبل مستبدين مختلفين محكومين هم أنفسهم بوهم العظمة والتوحيد كما لو أن كل منهم يعيد سيرة أخناتون، لولا أن الأخير كان أحد بناة حضارة مذهلة بينما هؤلاء جميعا هم هادمو الحاضر والماضي والمستقبل ومدمرو كل الحضارات.
كنت أتحدث متحمسة مع حلا عن أفكاري هذه ونحن ذاهبتان باتجاه  marche de la plainb أو السوق الذي يفتح في ساحة (الأرض المنخفضة) لثلاثة أيام في الأسبوع، وهو سوق متنوع يمكن شراء كل ما يلزم منه: طعام، شراب، ملابس، أحذية، عفش منزل، أدوات كهربائية، اكسسوارات بأنواعها، عطورات، ماكياجات، كل شيء حرفيا وبأسعار تنخفض عن أسعار الأسواق العادية بشكل لا يصدق، هذا التنوع والرخص يجعل من السوق المتنقل هذا نقطة استقطاب لأعداد كبيرة من البشر الباحثين عن احتياجاتهم بأسعار مخفضة. أسواق كهذه هي حلول بديلة ومناسبة للطبقة المتوسطة التي نهشها وحش رأس المال في فرنسا، ويكاد يفتك بها. المدهش في السوق هذا أن باعته مقسومون بين العرب واليهود (يقع الحي اليهودي الأشهر في مارسيليا بالقرب من أحياء العرب)، بدون أن يحصل أي توتر أو خلاف؛ رغم أن أعلام فلسطين ولبنان تملأ السوق، والكوفيات الفلسطينية التي يرتديها كثر من زبائن السوق شديدة الوضوح. والعرب يتحدثون عن جرائم إسرائيل التي تحدث في هذه اللحظة. هل القانون هو الذي يجعل المختلفين متعايشين بهذا القدر من الاحترام؟ أم هو البحث عن لقمة العيش في بلاد تحاول يوميا السيطرة على اقتصادها من الانهيار ويزداد عدد المتسولين فيها يوما بعد يوم؟ قبل أيام خرجت مظاهرة لدعم إسرائيل في ذكرى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في منطقة المرفأ القديم الممتلئة بالعرب، مرت بسلام بدون أية صدامات كما مرت مظاهرة دعم غزة بعد أيام في نفس المنطقة التي يتواجد فيها يهود أيضا. علينا أن نفهم سبب هذا التعايش، قلت لحلا.
أحب مارسيليا لكل تلك الأسباب، لتجددها المتواصل، لهذا المقدار من الحرية الذي تتمتع به وينعكس على المقيمين فيها وعلى سكانها وزوارها القادمين من كل العالم، حريتها التي تشبه الحرية التي طالما حلمت بها لسورية، أحب مقاهيها الحميمة، مشهد البشر يوم الأحد أمام البحر وهم يفترشون الأرض بطعامهم وشرابهم وحيواناتهم الأليفة التي تلعب مع أطفالهم بسلام. فرنسيون بيض وفرنسيون سمر وسود وملونون قادمون من أعراق مختلفة يتحدثون الفرنسية بلكنات مختلفة. أحب تنوعها وألوان سكانها ولكناتهم ولغاتهم، لن ينظر إليك أحد بتعال إن تحدثت بلغة مختلفة أو طلبت من أحدهم شيئا بلغتك الخليطة بين العربية والإنكليزية والفرنسية. سيفهمون عليك حتما وإن لم يفهموا ما تقول سيوافقونك بابتسامة مرحبة تنسيك ما أردت من سؤالك.
هل ستوافق إدارة الهجرة في مارسيليا على منحي إقامة تقدمت بطلبها هنا؟
أحب مارسيليا لكنني أكره البيروقراطية الفرنسية.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
27 أكتوبر 2024
آراء
13 أكتوبر 2024
يوميات
25 أغسطس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.