إنها أول حرب تندلع في غيابي، تلك الدائرة الآن في لبنان. قبلها عشت سابقاتها "ميدانيًا". الغزو الإسرائيلي عام 1982، والحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006. في الاثنين، كنت "حاضرة". أعيش وقائعهما بما يصيبني منهما مباشرة.
وعندما أقمتُ في الكويت أثناء الحرب الأهلية لبضعة أشهر، كانت صحيفة "النهار"، ورقية وبيروتية، تصلني بعد يوم من صدورها. أول ما أقرأ منها لائحة أسماء القتلى والجرحى الذين سقطوا أثناء تلك الحرب. أطمئن أن أحدًا ممن يعنيني لم ينَلْ منه موتٌ أو أذًى... ثم أنكبّ على بقية مواد الصحيفة.
بعد ذلك، سنوات من التأهب من أجل الحياة. وآخرها حرب من نوع آخر تأخذني إلى بعيد، حيث أنا الآن: انفجار مرفأ بيروت منذ أربع سنوات. بيني وبينه أقل من كيلومتر وعمارات وتلة. ومع ذلك، رماني عصفه حيث كادت رجلاي أن تتكسرا. وانتكست من تعاف كنتُ في طريقي إليه. وعدتُ إلى الفراش كأنني ما زلت مخدَّرة؛ متهالكة، لا أقوى على الكلام.
فكانت كندا. أريد أن أرحل بعيدًا جدًا. وصلت إليها، أمشي بخطوات بطيئة قصيرة، على غير عادتي، تعِبة، حزينة. وغير واعية أبدًا بأنني أتصرف كالمصابين بالصدمة. أية إشارة إلى ما يحصل هناك، أي تذكير، أي تلميح... يرميني في حالة من الهلع؛ أتعرّق فيها، أرتجف، أريد الهروب ولا أعرف إلى أين.
مثل تلك الواقعة التي حصلت في البنك الملكي الكندي، حيث اعتقدتُ بأنه، أي البنك، سرق وديعتي المتواضعة. وابنتي التي تهزّني من كتِفي، وهي تقول لي:
- ماما نحن مش بلبنان... هيدا بنك كندي. مش رح يسرق لك مصرياتك.
وعن وقائع مشابهة، أكثرها تكرارًا، هي تخيّل انفجار أو إطلاق رصاص من أي صوت آت من الخارج، خصوصًا الرياح العاتية المصطدمة بالأشجار وأسقف الخشب أو التنَك.
وقائع كانت دائمًا تنتهي بوصف "علمي" لحالتي؛ بأنني مصابة بالـ"بي. دي. اس. دي"، أي باضطراب وضغط نفسيين يحصلان بعد صدمة، وبأن عليّ أن أتعالج من عوارضها.
كان المناخ وبائيًا. كورونا وضرورة ملازمة المنزل. فأغلقت على نفسي حضوريًا ومعنويًا. وانكبَبتُ على هذه البلاد الجديدة عليّ، والتي لم أعرفها إلا خلال تلك الزيارات السنوية لابنتي. أو قل سياحة سنوية، لم تعلمني إلا المبهج منها.
أخذتُ أقرأ في تاريخ كندا وجغرافيتها. وطبعًا، إنه تاريخ هجرة، وأمم أولى، ومستعمرون لأراضي الهنود. ومجموعات تتشكل بناء على أصولها، مهما بَعُدت. فيهود وعرب وهنود وصينيون. أوائلهم، حكاياتهم، محافظتهم على تراثهم، لباسهم، مأكلهم، وحروب هربوا منها... موضوع كله جديد بالنسبة لي، مثير وهيّن، فأنا عائشة في قلبه.
ولكن فضولي هذا لا يدوم أكثر من دوام الوباء. أقل من سنة، وصار الخروج مسموحًا. وكأنه بذلك يغلق الموضوع الكندي، ويعيدني إلى اهتمامي الأول، منطقتي، بلادي، من حيث أتيت... بشيء من الذنب بأنني أهملتها، أو حاولتُ قدر الإمكان نسيانها، لشدّة تعبي منها.
هكذا بدأت حياتي بين مكانَين وزمانَين. وأدخلت نفسي في روتين اعتبرته عمليًا بأن تكون حياتي موزعة بينهما. أعني: أن أعيش في تورونتو، بجسدي. وأن أعيش في الشرق الأوسط، وأكثر منه في لبنان، بروحي وعقلي وانتباهي. من الأول، أكاد أغيب. إلا قسرًا، وللضرورات الملّحة العملية. والثاني: أراقبه، أشعر به، أتخيله، أسمعه، أفهمه، لا أفهمه، أحاول أن أفهمه. والفهم هو الأصعب، ترحال ذهني لا ينتهي...
وهذه "العملية" العقلية المجبولة بالعاطفية، تيسّرها العولمة. آنية الاتصال، بالصوت والصورة. يمكنني أن "أعيش" هنا ما يحصل في لحظته هناك. ولا أنتظر كما في الماضي، الصحيفة الورقية التي سوف تصل بعد يومين إلى هنا، بل كل الصحف على شاشتي، بـ"اشتراك" ومن دونه.
والمشكلة، البسيطة ربما، أن الذي يحصل الآن أمامي على الشاشة، وقته غير وقتي. بين تورونتو وأية بقعة من الشرق الأوسط سبع ساعات. تطلع الشمس عندهم ونحن نيام. وينتصف النهار عندما نستفيق. فيكون "خللٌ زمنيٌ" لا تصلحه التكنولوجيا، إلا إذا توقف القمر عن الدَوَران حول الشمس.
عشتُ بين مكانَين ووقتَين، وبوتيرة متقاربة. إلى أن وقع "الطوفان"، فكان كل اهتمامي به. لا أكتب عن غيره. أكاد أمرّر أشياء أخرى عن اهتمامي. فتزيد "غربتي" عن محيطي: عيشي في هذين الزمنين والوقتين. إلا في حالة واحدة: عندما أشارك بالتظاهرات المتضامنة مع غزة. الحشود، الجو، النساء والأطفال، العلم الفلسطيني، الكوفية وتنويعاتها، الحماسة، والفرح، لا أصدق بأن علم فلسطين يرفرف وسط هذه المدينة فوق السيارات وعلى الأرصفة... أفرح بهذه التظاهرات، إنها حيّة، أمام ناظري، أخرج إلى مكانها وزمانها المطابقَين كمن يخرج من شرنقة ضاقت عليه.
ثم يأتي ما هو أقسى عليّ من غزة. لبنان، في حربه هذه. ترتفع درجة الانفصال بيني وبين ما حولي، لا أعرف إن كان للدرجات حدًّا. ولكن الأكيد أنه، أي الانفصال، يصيبني بما لم أعهده من حالات.
منذ بداية هذه الحرب، أمضي نهاري كله: أتسقط الخبر والتحليل، من الصحافة، من المؤسسات، من مجموعات الواتساب، من الاتصالات، ومن الشاشة. وعن هذه الأخيرة، أقوم بما لم أعهده من زمان. أترقب المحلّلين، الاستراتيجيين والسياسيين. وأحيانًا أقرأ الخبر ذاته في منشورين، وأستمع إلى التحليل ذاته، وأعود فأنظر إلى المشاهد نفسها. ولا أجد من يفيدني بخبر فأبحث عنه، ولكن في طريقي للبحث عنه، يقع نظري على صورة أخرى، خبر آخر... فأنسى الأول وأغوص به... وأعود فأتذكره، وأعاتِب نفسي على نسياني، فأبحث عنه، هنا وهناك...
ومع لبنان هذه المرة، ثمة أهل وأصدقاء. أهل جنوبيون، في صور وقانا وحداثا والغازية والضاحية، وكلهم خرجوا من بيوتهم سالمين. ولكنهم تشتتوا. وأصبح همّ سلامتهم وإكرامهم هو الموضوع الذي يشغلني. أين استقروا، كيف توزعوا... وطبعًا مع القلق إلى الما بعد: هل ستكون لهم بيوت؟ أرزاق؟ سيجدون ما يعيدون به إعادة إعمار حياتهم؟ أم يبقون بعيدا في المنافي؟
وأختي، الوحيدة من بيننا التي لم تترك البلاد. وحدها الآن، من دون رفيق ولا صديق ولا قريب. ترفض المغادرة وتخذل مساعينا لإقناعها بها. وقلق يومي، من نوع أنني أعلم بإنذار إسرائيل على مبنى قريب منها، أتصل بها وأطلب منها عدم الخروج... أهوال متخيلة، ربما أود خوضها، تكفيرًا عن ذنب ابتعادي عنها، عن البلاد.
هكذا من أول النهار حتى نهايته. غارقة في ضجيج الحرب، من البعيد القريب. تقول لي شقيقتي بأنني أتعذب أكثر منها. هي تبحث عن سبيل لحماية نفسها. ولا تريد أن ترى شيئًا غيره. تسخر مني، وتقول:
- بدك (تريدين) تتْفلْسفي... أنو تعرفي كل شي... وتزيدي الهمّ على قلبك...؟!
هل أقول لها "ليتني معك؟"، ولا أصدق؟ لا لا أريد أن أكون هناك. ولكنني هناك، بقوة قلقي.
"أخرج" عصرًا، وآخذ "إجازة" من العالم الآخر الذي بناه عقلي. عقل يحمل على ظهره شجرته الخاصة، المقتلَعة من جذورها، ينحني لثقلها كلما امتدّ زمن اقتلاعها.
"أخرج"، أقول، اضطراريًا في العصر، إلى مدرسة اللغة الإنكليزية. فأنتبه إلى المكان الذي أقيم فيه. نسيته طوال النهار. لم ألاحظ احمرار خضار أشجار واصفرار غيرها؛ تبدّل بطيء سريع، يتغنّى به الكنديون في هذا الفصل من السنة. ولا ألاحظ بأن المارّة على الرصيف أشكال ألوان. كل لون منهم حكاية، فرار من حرب ما. أثيوبيون، صوماليون، أفغانيون، سوريون، يونانيون، بنغاليون، تاميل، كشميريون، أوكرانيون، أفريقيون قدماء من الذين هربوا من أميركا أيام العبودية، أفريقيون جدد قادمون من بلدان أفريقية... عدا الذين سبقوهم من إنكليز وفرنسيين وأيرلنديين، وغير الذين سبقوا الجميع من "الأمم الأولى"، أي القبائل الهندية صاحبة الأرض الأصلية... فالمشي على رصيف "دانْفورث أفنْيو" هو أسهل درس أنثروبولوجيا يمكن القيام به... أفكر بأن هذه الفرصة "سهلة"، لا تحتاج إلى أكثر من مراقبة المارة.... ولكنها لا تغريني... لا أستطيع أن أعطيها خلال النهار، ولو جزءًا قليلًا من اهتمامي.
حتى لو شرعتُ إلى ذلك، لن ألتزم. سوف أستفيق في اليوم التالي، باكرًا، وأبدأ نهاري بما حصل، بما سيحصل، بلبنان، بأشقائي، بأبناء أعمامي وأخوالي، بأصدقائي بأحبابي. وقد توزعوا بين القارات السبع، مثل الهباء المنثور.