بوندا حمار من سلالة مرغوبة، يمكن القول أيضًا إنها نادرة، بميزة غريبة عن الحمير، وهي نشأتها من دون الحاجة إلى ترويض. عادة ما تروض الحمير بوضع صخور فوق ظهورها، أو أثقال في جيوب أثواجها، زمنًا كي تعتاد على فريق الأوزان من دون أن ترمح. وهنالك من يجوعها مربوطة في جذع شجرة إلى أن يهزلها الجوع فترضخ؛ بينما سلالة "بوندا" تكون ذاهلة هادئة منذ ولادتها، لا تجمح إلا استجابة لنداء الغريزة ساعة الجماع. فحين يصير أبناء بوندا جحوشًا يمكن أن يشقوا طريقهم إلى العمل بسهولة. وفي الطريق الطويلة بين قرى "الخوبار"، و"غرابه"، ثم "سرور"، يمكن أن يصادف بوندا واحدًا من ذريته، فلا يفعل أكثر من إرسال نظرة عابرة. وإذا صادف أتانًا، فإن صاحبها يهرب بها بعيدًا حتى لا تقع رائحتها على مرمى رأس بوندا.
لا يعرف أصل الحمار، هل جيء به من إحدى قرى العور خلف جبال الحجر المظلمة، أم من ولاية قريات، حيث تنتشر الحمير السائبة، وهنالك من يقول إنه تونسي، نسبة إلى "سيح تونس" غير البعيد من العامرات. آخرون يذهبون به إلى زنجبار، بأنه جلب من هناك نسبة إلى أن كلمة "بوندا"، التي تعني حمارًا في اللغة السواحلية الأفريقية. صاحب الحمار وأخوه لا يذكران لأحد من أين أتيا بحمار التخصيب المروض الهادئ الذي لا تستثيره سوى رائحة الأنثى. يحمل على ظهره كل ثقل، كما يتحمل الجوع والعطش من دون احتجاج، ويركض في الطريق إذا خف حمله وكأنه على وشك التحليق ليطير بلا جناحين.
صاحب الحمار الذي يسمي "البناو" يعيش في قرية "الخوبار"، يسعى مرتين في الأسبوع إلى قرية "غرابه" ليحمل القت، ومنها إلى "سرور" ليودعه. لذلك فإن حياة بوندا لا تغادر هذا المثلث القدري. يشتري "البناو" أربع ربطات بريال واحد، وتقدم له ربطة خامسة مجانًا، ثم يذهب إلى سرور بحمولة كثيفة تملأ جناحي الثوج وظهر بوندا ليبيعها لصاحب البيكاب، أربع ربطات بريال واحد، ويكسب قيمة ربطة أخرى. صاحب البيكاب سيأخذ الحمولة بدوره إلى سوق فنجا، ويبيعها ثلاث ربطات بريال وربطة واحدة بنصف ريال. الكل يكسب في هذه الحسبة البسيطة، ولأن البناو يحظى أيضًا بوجبة مجانية لحماره تعينه كوقود في "غرابه"، فإنه يأخذ وجبة الغداء من بيت صاحب البيكاب في "سرور". وإذا كانت السيارة تقطع المسافة بين الخوبار وغرابة ثم سرور في نصف ساعة، فإنه يقطعها مع بوندا في نصف يوم؛ حيث يخرج من قريته صباحًا، ويؤوب إليها عند العصر. قبل ذلك يستقبله صاحب البيكاب في "سرور"، ويدخله إلى بيته ليزدرد قهوة وتمرًا قبل أن يقترب صحن الغداء. ولكن لماذا يفعل صاحب البيكاب كل ذلك وفي إمكانه أن يذهب إلى غرابه القريبة ويشتري القت من مصدره؟ السبب أن البناو هو أخوه الأكبر من الأب. حين ماتت أم صاحب بوندا كان رضيعًا، فتزوج والده من أم صاحب البيكاب التي أطلقت عليه اسم البناو، وتعني ولد الزوج، ولم تكن تناديه إلا به، فسار اسمه بين الناس على هذا النحو. البناو يعتصم بالصمت معظم الوقت، ولا يخرج الكلام من بين شفتيه إلا همسًا، ووقت الضرورات، عيناه صغيرتان، ودشداشته صفراء لا يغيرها، ويلف رأسه عشوائيًا بمصر أبيض يصل إلى حدود هدبيه. يسميه الناس في غيابه بالخسف، التي تعني الغبي، نتيجة لتلك الغفلة والهدوء الظاهرتين عليه وعلى حماره.
زوّجَه أبوه قبل رحيله من قريبة له في قرية "الخوبار"، أرملة أكبر منه بسبع سنوات ولديها بيت، ولدت منه ثلاث بنات، بالاضافة إلى ابنها من الزواج السابق. الولد يدرس في كلية في مسقط، ولا يعود إلى " الخوبار" إلا في نهاية الأسبوع.
ولكن من أين جاء الحمار حقيقة، وأي الترجيحات الثلاثة هو الصحيح؟ جلبه صاحب البيكاب من قرية "تونس" في ولاية قريات المتاخمة للعاصمة مسقط، حيث تكثر الحمير السائبة. كان جحشًا حين اشتراه من امرأة سمراء اسمها "موانا مفوا"، ويعني بالسواحلية "المولودة في يوم ماطر"، لا تتحدث العربية، بيد أنها تحفظ القرآن وتدرسه لأطفال قرية "تونس". وأم بوندا جيء بها من أفريقيا على ظهر سفينة هروب من حرب وقعت هناك في نهاية الستينيات. صاحب البيكاب الذي كان يبحث لأخيه البناو عن عمل يعيله وأسرته، لصق في ذهنه اسم بوندا، ورفض أن يغادره. طلب من أخيه أن يشق طريقه كل يوم من "الخوبار" إلى "سرور" مارًا بقرية "غرابه" لجلب حزم القت التي سيأخذها منه ليبيعها في سوق "فنجا". يفرش صاحب البيكاب في عرض السوق بسطته المزدانه بألوان من الخضار للبشر والدواب.
في الصباح، ذهب البناو إلى ما يشبه سوقًا وهمية وسط الخوبار، حيث تأتي في الضحى سيارة بيع السمك، تمكث قليلًا قبل أن تشق طريقها إلى قرى محاذية. لا دكاكين في هذه السوق، وإنما شريشة بعروش ضخمة وجذع عريض. تتناوب على ظلها بعض السيارات المفتوحة الظهر بسلع مختلفة، تقف قليلًا منتظرة، قبل أن تنطلق إلى القرى القريبة.
قبل ذلك بيوم، كان بوندا يرفع إحدى أذنيه، وقبل أن يرفع الأخرى عبرت رائحة أتان قرب أنفه. ترك كل شيء حتى صاحبه والصحن الذي تحت رأسه وهجم على ظهرها. صاحب الأتان لم يتدخل، بينما استعد البناو ليستلم منه ثلاثة ريالات ثمن هذا الصنف من الركوب.
لن يذهب غدًا للعمل، سيمكث في بيته، وسيشتري بما جناه من حماره سمكًا وجبة للغداء. كان البناو يتقاضى هذا المبلغ مقابل كل اعتلاء من بوندا لظهر ومؤخرة أتان، وبصرف النظر عن النتيجة، ولكن إذا صير الركوب الأتان حبلى، فإن مكافأة صامتة من صاحبها ستجد طريقها إلى بيته.