}

عن السجين السياسيّ وأشباح السجن وجلاديه

سيف الرحبي سيف الرحبي 6 نوفمبر 2024
يوميات عن السجين السياسيّ وأشباح السجن وجلاديه
عمل للفنان حسين ماضي (1938-2024)

 

"حفلة التيس" إحدى روايات الكاتب اللاتيني الشهير ماريو فرغاس يوسا قرأتها وقت صدورها بترجمة صالح علماني على ما أظن، هذه الرواية الطويلة نسبيًا التي توحي بتقنية المسلسلات والحلقات المتتابعة المسترسلة حول ذلك الديكتاتور الذي حكم جمهورية جزر الدومينيكان مستقصيًا أساليبَ حكمهِ المزاجية الماكرة والدموية ملاحقًا عوالمه الخاصة والعامة، عوالم وظلال الدكتاتوريين المنفردين بهيمنة وحكم البلاد والعباد وفق ميولهم المرضية العُصابية والساديمازوشية التي لا تقيم وزنًا لقانونٍ أو شريعةٍ ودستورٍ، إن وُجِد أصلًا، فليس إلا طيفُ خلفيةٍ تجريديةٍ للاستباحة والظلم والانتهاك بشتى السبل السرية المخاتلة أو العلنية الفاضحة والمحمية بقوة الجند والحاشية الفاسدة والسلاح، وما يصحبها من (بروباغاندا) بخطابها التبشيري الزاعق الذي يمضي في تبريره الرخيص والركيك على عكس الوقائع التي يعيشها البشر على الأرض والتاريخ.

تلاحق كاميرا حلقات الرواية التي تتمحور في مصبٍّ واحد مشترك هو شخصية الديكتاتور الدومينيكاني الذي هو نموذج لكل ديكتاتور خاصة فيما دُعيَ بالعالم الثالث، تلاحقه في علاقاته بالنساء استحواذًا واختطافًا واغتصابًا، وسدنة حكمه الذين لا بد أن يكونوا أكثر فسادًا ودمويةً منه أو على طريقة المثل العربي: (وافق شنٌّ طبقَه)، الرواية غنية بروائح المكان اللاتيني ونكهاته، بتاريخه البشري والطبيعي الفاره. هذه الرواية التي أتذكرها برهة هذا الصباح القائظ، وإن كانت ليست من أفضل روايات الكاتب البيروڤي الكبير لكنها تُحيل أيضًا إلى روايات كثيرة في هذا السياق، مثل رواية غارسيا ماركيز المدهشة "خريف البطريرك"، تلك القصيدة البصرية السردية العنيفة والوحشية وإن تخللتها الفكاهة والسخرية التي تستبطن وتفضح أكثر عوالم الديكتاتورية عُتُوًّا، انطلاقًا من مكانٍ بعينه ليشمل أنظمة الحكم البربرية في كل مكان وزمان...

تكثر مثل هذه الروايات في أميركا اللاتينية التي رزحت حقبةً من الزمن تحت وطأة كابوس ثقيل إبّان حكم العسكر خاصة، فعلى سبيل المثال اختُطِفَ بالأرجنتين وحدها ثلاثون ألفًا من المعارضين، كثيرٌ منهم أدباء وشعراء ومثقفون طليعيون. منهم من قضى ولم يعد مثل هارولد كونتي، وغيره الكثير. ومن خارج القارة اللاتينية الثرية شعرًا، سردًا، ودموية حُكمٍ بدأت تنجلي ظلماتُ أثقالها في الفترة الأخيرة بصعود الأنظمة المدنية التي تتوسل الديمقراطية والقانون رغم ذلك الإرث المريع الذي ما زالت ترزح تحت وطأته بلادٌ عربيةٌ وشرقيةٌ متعددة، رغم ما أفرزه من كوارثَ وحروبٍ تتناسل كأنما من غير أفقٍ ولا ضفاف.

من خارج تلك القارة نتذكر روايتين لجورج أورويل: "مزرعة الحيوان" و "1984". هذه الأخيرة تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة ريتشارد بيرتون، رواية الأخ الأكبر الذي يهيمن صورةً وفعلًا وخطابًا، ليلَ نهار، على مشهد الحياة البشرية بكل تفاصيلها وخصوصياتها الحميمة وجزيئاتها... أتذكر أيضًا أنني دخلت هذا الفيلم حين كنتُ في باريس مع صديقَين، عراقيّ وسوريّ، وحين انتهى الشريط المرعب خرجنا من القاعة المظلمة إلى نور النهار الغائم، أخذنا نتندر على أساليب القمع والتعذيب والتنكيل التي يجسّدها ذلك الأخ الأكبر الذي يرمز أكثر إلى الأنظمة الشمولية السائدة آنذاك: الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي آمن بها أورويل مثل الكثير من مثقفي أوروبا قبل اكتشافهم للفظائع المهولة التي تمارَسُ ضد تلك الشعوب المقهورة المُذَلَّة.

لكن المفارقة الساخرة على نحو كئيبٍ حين أخذ السوري والعراقي يتذكران أساليب التعذيب والتدمير التي تمارس في بلديهما ضد الضحايا والمعارضين في السجون المظلمة المفصولة عن عالم البشر، أو خارجها، فوجدا أن الصورة التي يقدّمها الفيلم الأورويلي تكاد تكون عادية أو ربما لطيفة أمام وحشية سجون بلادهم وممارسة جلاديها التي تبلغ شأوًا فانتازيًا كأنما تجري تلك الأحداث الدموية في عالم السرد الخرافي والعجائب.

وتذكرت بدوري تلك الحكايات التي سمعتها عن سجن "كوت الجلالي"، تلك القلعة الجبلية الحربية التي تحولت بخيالٍ شيطانيٍّ إلى سجنٍ كُتب على بوابته "الداخل مفقود والخارج مولود"، ولكن هذا الخارج سيكون معطوبًا إذ يحكى عن سجينٍ سياسيٍّ حين أُفرجَ عنه لظروفٍ ما، لم يستطع السجانون فكَّ قيده الحديدي الثقيل فقد امتزج ببُنيةِ الجسد ونسيج الدم واللحم والخلايا كأنما صار الجسد والقيد لُحمةَ الوجود المشترَك والمصير حتى وهو مفرج عنه ليس بالمعنى الرمزي، حيث السجين تلاحقه فترة طويلة أشباح السجن وجلّادوه وهوامُّهُ وإنما بالمعنى الواقعيّ الحيّ. 







كائنات الليل

فجأةً انتقلتْ إلى منزلي قطعةٌ من غابات قارة أستراليا وصرتُ أنا المعتاد على هدوء الليل العُماني السميك الذي لا يخترقه أو يخالطه ويسبح في بحرِ عتمتهِ الممتدة إلا آذانُ الفجر وأصواتُ يمامٍ بريٍّ قادم من وادي "غلا" المجاور، إذ تُشيرُ هذه العلامات بطلائع قدومِ النهار وحركتهِ التي لن تكون صاخبةً مثل حركة المدن الكبرى.

القطعة أو الواحة الغابيَّةُ تلك التي جلبها إلى البيت ابناي، ناصر وعزان، بحيواناتها الليلية التي تبدأ حركةُ صخبها الأكبر من حجمها مع حلول الليل وبانطفائه تخفتُ وتكاد تغيب. احترتُ في تحديد نوعها وجنسها هل هي من فصيلة الثعالب الطائرة تلك التي تُعرَفُ في القارة اللاتينية التي زرتها ذات زمن، بغاباتها وجبالها المثقَلةِ بالأشجار الخضراء والأكَمات أم تلك الخفافيش التي كنا نشاهدها بطفولتنا، تتطاير فوق أشجار الغاف ببلدة "سرور" إذ تُذَكِّر بالنوعين، أم هي من نوعٍ آخر؟

حين سألتُ رعاتها ومحبيها (ناصر وعزان) أجابا أنها تُدعى "شوجر جلايدر" أو "الأبوسوم المنزلق" لأنها تفضل الطعام السكري الشديد الحلاوة مرتفع السعرات. لم أزُرْ أستراليا التي زارتني عبر حيواناتها التي تنام النهار وتعيش الليل مثل بعض الأصدقاء الذين عرفتُهم في مسيرة حياتي المديدة وصرت أعيشُ هاجسَ زيارةِ تلك البلاد الشاسعة التي تأسست على طريقة الأميركيتين الجنوبية والشمالية في إبادة الشعوب الأصلية، وقدوم حضارة العرق الأبيض الكاسح. وتذكرتُ فيلمًا للألماني "هرتزوغ" صاحب فيلم "طبل الصفيح" المأخوذ عن رواية غونتر غراس. هرتزوغ الذي ينتمي إلى كوكبة السينمائيين الطليعيين الألمان التي ظهرت أواخر الستينيات ومطلع السبيعنيات مثل "فاسبيندر" و"فيم فندرز" وآخرين. الفيلم كان اسمه "النمل الأخضر" ويدور حول تلك الجماعات البشرية الأصلية التي كانت تقطن تلك القارة. أتذكر تلك الأغاني والأناشيد الجريحة من أفواه أصحابها وهي تتلاشى وتضمحلّ أمام زحف القوة والغزو، نحو العدم والأُفول لتحل أستراليا "الحضارية" الحديثة التي ما زالت ولو شكليًا ربما تحت هيمنة أقواس التاج البريطاني. البريطانيون أو الإنكليز الذين أطلقوا في غابر الزمان كل سجناء الإجرام والقتلة الهوليغانز نحو أستراليا الفريسة العزلاء ليعملوا فيها إبادةً وتدميرًا، ويبدأ منعطفٌ مفصليٌّ لتاريخٍ آخر.

بسبب إلحاح هاجس الزيارة لأستراليا وهذه الحيوانات التي تؤنس ليليَ الموحش، ما كان عَليَّ أن أنتقل من الطبيعة والغريزة إلى التاريخ والثقافة. لكن ما العمل؟ لا شعوريًا يتمُّ الانتقال فنحن صرنا كائناتِ تاريخٍ واجتماعٍ وثقافةٍ وابتعدنا كثيرًا عن الأصول والجذور، التي تذكّرني بها كائنات الليل هذه، فأتذكر أيضًا الغابات المطيرة المتاخمة لبلدة "ميري" بجزيرة "بورنيو" على حدود بحر الصين الجنوبي التي كنت أذهب إليها دائمًا فترة إقامتي هناك مع العائلة، والتي كانت تمتاز بمخلوقات وحيوانات نادرةٍ لا يوجد لها مثيل في غابات الكون مثل "الأورانغوتان" أو إنسان الغاب، وحيوانات أخرى. صرتُ تدريجيًّا أعتاد على حيواناتي المتسلقة أدراج القفص الكبير، كأنما تتسلق جذوعَ أشجارِ الغابات العملاقة، أعتاد عليها حدّ الأُلفةِ والبهجة حين أقوم من نومي أثناء الليل وحين يهاجمني الأرق والسهاد أتَّجِهُ نحو غابتها الجديدة في القفص... خيالها الوحشي يُحوّلُ القفص إلى غابةٍ وعلى المنوال نفسه يقلده خيال الشعراء في الهروب من وطأة التاريخ والواقع؛ وأقوم بالمداعبة بالإيماءات والإشارات فأعود إلى السرير بمسرّات تساعدني على النوم، يقينًا لا أجدها لدى أبناء جنسي من بشرٍ أثقلتهم الهموم والأخطار المحيطة، دَعكَ من البشر الدنيئين خِلقةً وخُلُقًا وما أكثر الثقلاء الذين يؤثثون المدن والبلدات في كل مكان.

سلامًا إلى كائنات الليل بصخبها ومسرّاتها الغامضة. 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.