اختارت صديقتي لبنى (كاتبة مصرية وصحافية اقتصادية في رويترز) أن نذهب إلى مدينة دهب في جنوب سيناء على البحر الأحمر عبر طريق سانت كاترين، المحاطة بأعلى قمم جبلية في مصر، كقمة جبل كاترين وجبل موسى وجبل الصفصافة. كان المشهد في طريقنا بديعًا، طرقات السير متعرجة جدًا بحيث لا يمكن للسائق زيادة سرعته عن 60 كيلومترًا في الساعة، وسط قمم صخرية مرتفعة جدًا نحتتها الطبيعة عبر الزمن حيث خيّل لي لوهلة أننا نسير وسط متحف مفتوح يعرض أعمالًا نحتية ضخمة وبالغة الجمال؛ ووسط هذا الجمال الصحراوي المهيب كان يمكن لنا مشاهدة واحة خضراء هنا وأخرى هناك، كما لو أن الفنان أراد تجريب اللون الأخضر مع درجات البني والوردي التي صنعت منها الجبال المحيطة. أشارت لي لبنى إلى دير سانت كاترين الشهير الذي يقع على يميننا، التفت فلم أر سوى سور عال يختفي الدير داخله ومركبات أمنية ضخمة تحرسه؛ دير سانت كاترين يعتبر أحد أقدم الأديرة في العالم وهو مزار سياحي كبير للسياحة الدينية يأتيه الزوار من العالم كله لا سيما أبناء الطائفة الأرثوذكسية المشربية التي يتبع لها الدير؛ أما قصة القديسة كاترين فتشبه معظم قصص القديسات: فهي ولدت لعائلة أرستقراطية وثنية بالإسكندرية وكان اسمها (زوروسيا) وكانت مثقفة وجميلة ومرغوبة من الجميع، تقدم لخطبتها كثر جدًا لكنها رفضتهم لوثنيتهم ولإيمانها بالمسيحية. عند موتها حملت الملائكة جسمانها إلى جانب الدير حيث وجده الرهبان بعد ذلك فنقلوه إلى الداخل وسمي باسمها، يحتوي الدير على عدة هياكل ومعابد أهمها كنيسة تجلي السيد المسيح والتي تضم تسع كنائس، أصغرها الكنيسة المحترقة التي تكلم عنها الله مع موسى، كما يشمل الدير أيضًا عشر كنائس أخرى وأماكن إقامة الرهبان وقاعة طعام ومكبس زيتون وصناديق عظام الموتى، ويضم مسجدًا فاطميًا من القرن الثاني عشر الميلادي ومكتبة ضخمة تضم كتبًا نادرة وستة آلاف مخطوطة من المخطوطات شديدة الندرة.
تعرّض الدير خلال تاريخه إلى العديد من الأزمات والكوارث الأمنية منها ما فعله بدو سيناء حين فرضوا آتاوات على الدير (ربما تحمل شكل الجزية) عام 2014. ثم قيامهم باعتداءات متكررة عليه دون أي تدخل من الأجهزة الأمنية، كما جرى حادث مسلح استهدف الدوريات التي تقف خارج الدير في عام 2018 أيضًا دون تدخل من الأجهزة الأمنية، كما يتعرّض الدير دائمًا للعديد من الحوادث الفردية يقوم بها البدو أو الدواعش؛ حوادث نابعة من خطاب الكراهية ضد المسيحيين في مصر وفي الشرق عمومًا. لكن رغم ذلك يبقى دير سانت كاترين تحفة معمارية وسط الجبال ومقصدًا سياحيًا أوروبيًا وعالميًا لكل محبي السياحة الدينية في العالم. قررنا لبنى وأنا أن نعيد الرحلة ذاتها لكن بقصد استكشاف الدير من الداخل، أما الآن فهدفنا هو البحر، ومدينة دهب على وجه الخصوص، المدينة التي لا تشبه شيئًا في مصر على الإطلاق، لا في جمالها ولا في بساطتها ولا في مساحات الحريات المتاحة لضيوفها والقاطنين فيها من مصريين وعرب وأوروبيين.
من سانت كاترين عبرنا منطقة نويبع، هي إحدى الأماكن المذهلة للاسترخاء على البحر الأحمر، وأكثر بدائية من دهب، حيث بنيت فيها أكواخ صغيرة بحمامات مستقلة وأجهزة تبريد حديثة، بعد أن كانت عبارة عن مخيمات تشبه المخيمات الكشفية بدون أجهزة تبريد وبحمامات عامة. لا يوجد فيها مطاعم ولا مقاه ولا أماكن شرب أو سهر أو نزهة. أنت والبحر فقط وما يقدمه لك صاحب الكامب، تصلح نويبع لمن يبتغي عزلة البشر ويرافق البحر، وتصلح لمجموعة كبيرة متجانسة يمكنهم أن يبدّلوا هدوء البحر بصخب الموسيقى واللعب والرقص والفرح. لكن ما كنا نحتاجه، لبنى وأنا، هو مدينة دهب بكل ما فيها، بصخبها ومحلاتها وممشاها ومقاهيها ومطاعمها وقططها وكلابها وسمكها ومرجانها والبهجة التي تصيب الناس ما أن يدخلوها. كنا نحتاج تلك الحالة من السحر التي تمسنا ما إن نقترب من بوابة دهب باتجاه مقر السكن.
لم يكن البيت الذي استأجرناه (أون لاين) مطابقًا لتطلعاتنا، شقة في مكان بعيد عن البحر، لا تصلح للسكن اليومي، لا شروط للنظافة فيها ولا للراحة، هذا يعني أننا سنستخدمها للنوم (غير المريح أيضًا) فقط، بينما ستكون حياتنا منذ الصباح وحتى الليل على الشط أو في الماء. وضعنا حقائبنا وارتدينا ملابس البحر وانطلقنا، كانت الساعة تقارب الخامسة مساء، والجو لم يكن حارًا كثيرًا، حزمنا أمرنا ونزلنا في المياه التي كنا نرى الآخرين يخرجون منها يتصرصرون من البرد، لكننا نزلنا كما لو أننا نتسابق لنرى من منا الأكثر قدرة على احتمال برودة الماء في هذا الوقت من السنة، في الحقيقة كنا ننظف عن أجسادنا تعب السفر الطويل من القاهرة إلى دهب، ونزيل من أرواحنا ضجيج وزحمة وتلوث القاهرة البصري والسمعي والبيئي، فنحن الاثنتان نعيش في مراكز الازدحام والتلوث في القاهرة. ما يعني أن حاجتنا للانفصال عنها كل مدة حاجة صحية ملحة، ولطالما كانت مدينة دهب تحققها لنا.
ثمة روح خاصة تمتلكها مدينة دهب لم أجدها في أي مكان آخر، رغم أنني أعتبر نفسي من المحظوظات اللاتي سافرن ورأين أماكن عديدة جميلة في هذا العالم. هذه الروح يلمسها كل من يزور المدينة، مهما كانت جنسيته أو هويته، هذه الروح هي التي أغوت كثيرين من زوارها وسياحها ليس للعودة إليها ثانية فقط، بل لترك كل ما خلفهم والاستقرار بها. دهب مدينة للبدو أصلًا، لكنها تملك أجمل الشواطئ على البحر الأحمر التي تعج بالشعب المرجانية بديعة الجمال وبأسماك بالغة التنوع والإبهار؛ دهب أيضًا واحدة من أشهر مراكز الغطس، يقصدها الراغبون في تجربة الغوص والغطس لأعماق سحيقة؛ فيها منطقة اسمها (البلوهول) أو الثقب الأزرق، أطلق عليها لقب (مقبرة الغواصين) بسبب العدد الكبير من الغواصين الذين فقدوا حياتهم فيها، يقال إن البدو كانوا يتجنبون هذه المنطقة من البحر بسبب أسطورة تقول إن لعنة حلت بها حين قررت فتاة بدوية ذات يوم الانتحار بإلقاء نفسها في الثقب رفضًا لزواج أجبرت عليه، وظلّ شبح الفتاة يحوم حول الثقب يجذب الغواصين إليه ويغرقهم، غير أن الحقيقة هي أن البلوهول يتمتع بجمال ساحر وغامض وبعمق مذهل يصل إلى ثلاثة وخمسين مترًا وتتفرع منه قنوات ضيقة، غالبًا ما يجر جمال السمك والمرجان الملون الغواصين إلى تلك القنوات فيعلقون بها ويعجزون عن الخروج ويغرقون. على ضفاف البلوهول وضعت شاهدة كتب عليها أسماء الغواصين الذين فقدوا حياتهم فيها ممن تم التعرف إليهم، الشاهدة فيها مساحة واسعة لأسماء تضاف كل مدة.
تحقق دهب معادلة استثنائية نادرًا جدًا ما تحققها أية مدينة عربية أخرى؛ فالمدينة بكل سكانها، الأصليين من البدو والعاملين فيها من باقي المناطق المصرية والقادمين للعيش فيها من كل العالم وزوارها، المصريين والعرب والأجانب، يتعايشون معًا دون أن يتعدى أحد على آخر، ودون أن يفرض أحد معتقده على آخر، ودون أن يستعلي أحد بسبب هويته القومية أو الدينية على آخر، والأهم دون أن يتميز فيها جنس عن آخر لا بالسلوك ولا باللباس ولا بالحضور، بل غالبا ما يطغى الحضور النسائي فيها على حضور الرجل. ولا فرق فيها بين قلب المدينة الصغيرة وبين الشواطئ، فالمدينة، لولا تفاصيل البناء والعشوائية الفاضحة وبالتأكيد اللباس والملامح البدوية لأبنائها، لظن زائرها أنها تنتمي إلى واحدة من المدن البحرية السياحية في دولة من دول العالم المتقدم، ذلك أن النساء والبنات فيها يلبسن ما يحلو لهن في أي مكان فيها دون أن يتعرضن لأي نوع من أنواع التعدي لا باللمس ولا بالكلام ولا حتى بالنظرات، لم يسبق أن سجلت حادثة تحرش واحدة في دهب، ولم يسبق أن تعرضت أي فتاة لأي نوع من الاعتداء بسبب مظهرها أو لباسها من قبل أي رجل أو شاب في دهب، رغم أن نفس الشاب أو الرجل قد يتحرش بفتاة أو سيدة بالغة الحشمة في القاهرة أو في أية مدينة عربية أخرى. هل هذا بسبب الروح التي تملكها دهب تظلل بها أرواح كل من يدخلها وتجعلهم آمنين من أنفسهم ومن الآخرين أم هي القوانين التي يفرضها منطق السياحة وتجبر الجميع على الخضوع لها خشية التعرض لعقوبة ما؟ سرعان ما تنسي دهب زائرها التفكير في هذه الأسئلة العربية الصعبة، ذلك أنه سوف يهنأ في نعيم من البهجة المتواصلة والجمال الخفي النادر والسلام النفسي العميق الذي يطغى على الجميع: سكان اليابسة وسكان الماء في دهب.