}

استدراج

محمد صالح مجيد 7 مايو 2024
قص استدراج
(بوجمعة لخضر)

كلّ دعوة من رجل هي استدراج... تختلف الأماكن والطريقة لكنّ الاستدراج غايةُ كلّ دعوة... هكذا خمّنت وهي تُغلِق هاتفها الجوّال دون أن تدقّق في المرسل، بعد أن وصلتها رسالة قصيرة: "يسعدني أن تشاركوني حفل توقيع روايتي الجديدة اليوم الأحد على الساعة 13:00 بمعرض تونس الدولي للكتاب". هو دائمَا ينوّع دعواته. لم يتعب. لكنه غير مزعج هكذا استقر الأمر عندها. يباعد بين مسافات الاستدراج ويترك الباب مفتوحًا للتأويل. منذ شهرين أعلمها غبر "الماسنجر" أنه في الحمامات من أجل تكوين... وصلتها الدعوة. "لو فكرت في جولة بالحمامات أنا في النزل.. بعد ربع ساعة".  أجابت "يسعدني ذلك، ليت لي الوقت مثلك لأرفّه عن نفسي. لي التزام عائلي. إن شاء الله في فرصة قادمة".
صباح كلّ أحد كانت تستيقظ  بعد العاشرة وتحرص على ألّا تضبط نفسها بمواعيد. يوم الأحد هو الفوضى التي توقف أسبوعًا من النظام والالتزام بالتوفيق بين العمل والمنزل. ابنها الوحيد لم يدخل المدرسة بعد. مزعج في طلباته متعلق بها. والده زميل الدراسة تحوّل إلى غيمة بعد صحو الحب في الجامعة. إن هي إلا أشهر حتّى انطفأت نيران واشتعلت المشاكل لا هي نجحت في أن تكون شمالًا في جنوب ولا هو نزع جنوبه ليعيش شماله. هما معًا. في السيارة فقط وفي التناوب على جلب الطفل وأحيانًا هما معًا في تحمل أعباء المصاريف. بعد زوابع الصياح والصراخ هدأ البيت وسارت الحياة فيه بلا دويٌ. زوجان أعزبان يتقاسمان منزلًا على وجه الكراء يشتركان في رعاية طفل كثير الحركة شديد التعلّق بأمه.

لماذا لم يتعب من الدعوة رغم نجاحها في التهرٌب من استدراجه؟ ولماذا تذكره يوم أحد يوم الفوضى ورفض الالتزام بموعد أو بمشغل!!؟؟ تذكرت يوم تجرّأت وهي تحادثه عبر "الفيسبوك" وسألته:

- هل تدخل البحر في شهر ديسمبر؟

وصلها الردٌ علامات تعجب ثم كتب: نعم أستحم في كل الفصول لكن كيف عرفت؟
عادت إلى الصور التي ينشرها على "الفيسبوك" لم تجد الصورة التي أوحت لها بالسؤال. تذكرت أنها كانت تتلصص على صوره في "إنستغرام". خجلت من فعلها وكتبت "مرّت أمامي صورتك وأنت تدخل البحر في شهر ديسمبر".
لم يعلٌق.. كان يتحدثان عبر "الفيسبوك" وكثيرًا ما سألت عن نشاطه الثقافي ولاحظت أنّه يردّ ويقدّم التفاصيل ويشفي غليلها متى قادها الفضول إلى أن تتوغّل في السؤال والبحث عن بعض التفاصيل.

فكّرت ماذا لو حملت ابنها إلى معرض الكتاب!!؟؟ ...لا تكاد تذكر آخر مرة زارت فيها المعرض لكنّ الثابت أنّ الزيارة تعود إلى ما لا يقل عن خمس سنوات. كانت مخطوبة لزوجها. أخذها إلى معرض الكتاب وحدّثها عن عالم الكتب والكتاب وأعلمها مفتخرًا بأنّ أغلب كتّاب تونس من أصدقائه. قالت في سرّها "إن كان كلّ كتاب تونس مثله فبُؤس هذه البلاد مِنْهُمْ". ضحكت وهي تتذكّر خطيبها الذي أصبح زوجها وهو يقدّم لها شاعرًا تونسيًا مشهورًا قائلًا: "هذا من أعز أصدقائي".
تخمّرت الفكرة في رأسها. أسرعت إلى الحمام ارتمت في الحوض ونسيت للحظات أنّها زوجة وأمّ لطفل ينتظرها. سكبت الماء على جسدها. رأت في المرآة هيكلًا غريبًا فقد الإحساس وتحوّل إلى عبء ثقيل تنوء بحمله. وحدها نظرات مديرها في العمل كانت تذكّرها بأنّ العمر ما زال يسمح لهذا الذي تحمله كرهًا بأن يغري. حرصت على أن تجفّف شعرها. أصبحت تخاف الخروج السريع الذي لا يمنحها الوقت لتجفيف شعرها فتعود إلى المنزل منهكة يعكّر مزاجها زكام طارئ.. تعلّمت الحرص ونسيت اللهفة. ارتدت ملابسها ولم تنس أن تمرر "مجفّف الشَّعر". مَنْ يدري لعلّ قطرات الماء تسلَّلت إليها!!؟؟. وضعت عطرًا تنتقيه في العادة  لمناسبات تخمّن أنّها تستحقّ الاعتناء والترتيب. هكذا كانت تفعل كلما دعاها حبيبها السابق الذي تحوّل إلى زوج نائم على إيقاع شخير مزعج. ضحكت من المفارقة ولعنت كلية الآداب بمنوبة. (نعم هي أرادت أن تلعنها ولست مسؤولًا عن لعنة النساء. لي ما يكفي من اللعنات ولست بحاجة إلى أن أضيف). مسكت ابنها من يده. وغادرت المنزل دون أن تلقي نظرة على الهامة النائمة. وضعت ابنها في المقعد الخلفي للسيارة، وثبّتته في كرسيّه، وانطلقت.

أجمل اللقاءات ما يأتي مفاجأة... رعشة القلب في الدهشة الأولى هي أجمل ما في علاقة تنسج خيوطَها المقادير. تذكرت حبيبها الذي أصبح زوجها لما تعثّرت وهي تدخل الكلية وكادت تسقط. حاولت أن ترفع الحرج بالإسراع إلى حقيبتها  التي سقطت بعيدًا. لما همّت بالتقاطها أمسكت بيد "محمد" الذي مدّ يده لرفع الحقيبة.
- Merci
- "لا Merci على واجب"، قالها وهو يخفي ابتسامة... الحمد لله أنك لم تسقطي.

- شكرًا شكرًا.

تتالت النظرات مع كل صدفة لقاء في الكلية خاصّة كلّما عنّ لها أن تقف حيث يتجمّع الطلبة للاستماع إلى خطاب الوهم والكذب الذي يأتي على لسان المتسيّسين. فاجأها يومًا في مكتبة العربية التي لا يفتح فيها الطلبة الكتب بقدر ما يتحدثون ويتبادلون النكت والنظرات الغائمة.

- هيا نشرب قهوة "يزّي ما قريت اليوم"

فاجأتها جرأته. في أكثر من مرة كانت النظرات تتلاقى لكن الأمر لا يخرج عن ابتسامة خفيفة استلطافًا. في الطريق إلى المشرب حدّثها عن نفسه وعن أحلامه وكأنّه محاصر بالوقت. غابت عنها التفاصيل وهي تتأفف من بطء حركة المرور في الطريق إلى قصر المعارض بالكرم. لكن المحطّات التي تراها كبرى بقيت عالقة بذهنها رغم تتاليها السريع... خطبة... تعارف العائلتين... زواج... وإنجاب... وصراخ... وبكاء... وانفصال جسدي... صراخ بائع خضار أمام باب المعرض الخلفي أيقظها من غفوتها:

- يا مدام حل عينيك... النصبة...

التفتت إلى الكرسي الخلفي نظرت في عيني ابنها وجدته ينظر من النافذة إلى الخارج التفت إليها ابتسم.. ابتسامته كانت سلاح صمودها.

ركنت السيّارة ودخلت المعرض من باب العارضين... تمسك ابنها من يده... لم يطلب منها البواب شارة الدخول... مظهرها لا يدل على أنها متطفلة... أخيرًا ولجت قاعات العرض وانطلقت في التنقل من جناح إلى آخر... تذكرت هاتفها... فتحته أرسلت إليه عبر "الماسنجر":

- أهلا أنا في معرض الكتاب... أين أنت!؟؟؟

وصلها الردّ بعد أكثر من دقيقتيْن :

- جميل ماذا تفعلين في المعرض؟

كتبت: "لم أزره  منذ خمس سنوات واليوم قررت الاستئناف. كفى انزواء بين المنزل والعمل"... وصلها رده: "لست محظوظًا. ليتني كنت في المعرض كي ألتقيك... أنا الآن على بعد أكثر من 500 كم عن العاصمة". علاها استغراب يرسل إليها دعوة لمشاركته توقيع كتابه ثم يختفي!!! هكذا؟ عندما نزعت تردّدها وتقدّمت خطوة توارى خطوات... اللعنة!!!..أسرعت إلى صندوق الرسائل وقرأت: "يسعدني أن تشاركوني حفل توقيع روايتي الجديدة اليوم الأحد على الساعة 13:00 بمعرض تونس الدولي للكتاب"... كانت الرسالة من صديقتها سهى التي قضت معها أجمل أيام التسكّع والانطلاق زمن الدراسة في الثانوي والعالي. كتبت في الأسفل: "عزيزتي  صاحب البوكر أرسل إلى أصدقائه دعوة لمشاركته حفل توقيع روايته... ليتك تخرجين من حجابك.. أنتظرك...". وقفت في المنتصف، كانت دائمًا امرأة المنتصف... أطفأت هاتفها التفتت إلى ابنها الذي كان شاردًا ينظر إلى زوار المعرض باندهاش. نظرت إليه. الابتسامة ما زالت مرسومة على وجهه. ضحكت له وانطلقت تذرع الأجنحة. قرأت اللافتة "نقرأ لنعيش مرّتين". أعادت النظر إلى ابنها. غمغمت... لا... حياة واحدة تكفي.


*كاتب تونسي.

مقالات اخرى للكاتب

قص
7 مايو 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.