الشيوعيون، جربت كثيرًا أن أنتمي إليهم، لكنني كنت أعاني من مشكلة أنهم بعيدون عن الشعب، والبعثيون: سيقول الناس عنّي، انتهازي، يحلم بيوم يصل فيه إلى السلطة ويمدٌ يده ليلهف الدنيا، وكان عدد البعثيين قليلًا، كان جميع الناس ناصريين، أو متعاطفين معهم، وأنا كان قلبي مع عبد الناصر، ولكن عقلي يحتاج إلى شحنة زائدة من الأورام السياسية التي كانت سائدة في تلك الأيام.
كان عليّ أن أجرّب الناصرية إذًا، فابن عمي ناصري حتّى النخاع، ثمّ إنّه أخذ الشهادة الثانوية عندي في البيت، حصل عليها بعد إحدى عشرة سنة رسوب فيها، وفي هذه السنة جاء إليّ ودرس في بيتي، وحفظ، وترك السياسة مؤقتًا، ومنعته أن يتكلّم فيها، إلى أن أخذنا الشهادة، الفرع الأدبي، ونجحنا، أنا عن النظاميين وهو عن الأحرار.
في ذلك الزمن ذهبت معه، بعد أن صرنا نحمل الشهادة الثانوية، وصار يقدّمنا بالأستاذ فلان، وصرنا نزور المحامين في مكاتبهم ويعرّفهم عليّ، وأنا بدوري أجلس مثل (الصطامة) لا من يدي ولا من رجلي، ويقولون لابن عمي: الشاب خجول، هل جدّتكما واحدة، وينفجرون بالضحك. وكانوا يُخرجون لنا مبادئ التنظيم القومي وشعارات الحزب، وأنا كنت أستغرب لماذا يفتلونها لتصبح (اشتراكية ـ حرية ـ وحدة) ومرّة أعارني الميثاق، قرأته فلم أفهم شيئًا، وأعدت القراءة فلم أفهم أي شيء، وقد قلت في نفسي: الموضوع أخطر مما أتصوّر، وقد دفنت رأسي بالوسادة عندما قالوا: إنه ينتظرني عند الباب، لقد كرهت الامتحانات.
ابن عمي ذهب لخدمة العلم، لأنّه لم يُقبل في أي فرع من فروع الجامعة، وأنا تسجّلت في كلية الآداب، أحمل كتبي وأنطلق إلى الجامعة، لقد وجدت نفسي في عبد الله الشاب الرزين الذي يلغت بالراء (لا يستطيع أن يلفظ الكلمات التي بها حرف الراء بسهولة) وهو طالب في معهد الفنون في دمشق، وتأكل نصف وجهه حبة حلب، يسكن في حيّ شعبي يقع في الجهة الشرقية من المدينة، حيث البيوت تنام في حضن بعضها وتتلاصق وكأنها توأم سيامي، ويومها قال لي: اليوم الساعة الثامنة نحن مدعوون إلى أن نستمع إلى كلمة هامّة في بيت أحد الوجهاء، قلت: ومن هو هذا الوجيه؟ قال: هذا لا يخصك، فأطرقت، قال: ما بك هل زعلت، قلت: لا شيء، ولا يهمك.
التقينا في بيت صديقي عند الساعة السابعة، ثمّ سمعت نقرات على الباب، نهض وعاد معه صينية الشاي والكؤوس والمنفضة، شربنا الشاي ودخنا، وفتح لي الصديق قلبه، إنّه حوار من طرف واحد، فقد أخبرني أنّه (ناصري) وهكذا دخل قلبي بسرعة، ولكن عقلي لم يدخل إليه، فقد كنت أهزُ برأسي بين الحين والآخر.
الساعة الثامنة إلا عشر دقائق، كنا أنا وإياه عند باب الرجل الوجيه، استقبلنا رجل أكبر منّا قليلًا مرحّبًا، فدخلنا، وكدت أن أخرج فورًا دون تردّد، لولا صديقي الذي أعادني إلى الطريق القويم، فقد كانت باحة الدار مليئة بالزوار الكرام، كلُهم يجلسون على كراسي، وبعض منهم كانوا واقفين، كان هناك بعض الصبية يضيّفون القهوة المرّة والماء، انتبذنا مكانًا قصيًا، وجلسنا في انتظار الذي سيلقي كلمة هامّة.
فجأة هبّ الجالسون ووقفوا، فوقفنا معهم، وساد صمت طويل، قد يكون الذي سيلقيها وصل، وكأن القوم على رؤوسهم الطير، ومرت دقيقة ودقيقتان ولا أحد في الباب، انتظرنا قليلًا، واندفع من الباب اثنان أو ثلاثة، وربما أكثر، ثمّ دلف رجل وسرت همهمة تؤكد أنه هو، لا أشك في ذلك، وأخذ الزاوية التي أمامنا، وأجلسوه على كرسي مرتفع، وخلفه كانت هناك سجادة تزيّن المكان، وأسرع أحد الحضور ليأخذ من صباب القهوة (الدلة) وصبّ له فنجانًا ثمّ آخر، إلى أن أشار بيده أنّ هذا يكفي، قام الذي كان يصبُّ القهوة، رفعه هكذا وسلخه على الأرض، واندفع حاضر آخر، صاح: يعيش الرئيس عبد الناصر، والكلُ يرددون وراءه، عاش عاش عاش، ثمّ قام واحد آخر، وقال بيتًا من الشعر:
إذا كان حبّك يا جمال جريمة فليشهد العالم بأني مجرم
وصمت الرجل الذي كان واقفًا، وصمتت الجماهير التي كانت محتشدة والتي كانت تردّد وراءه، مما أعطى الرجل الجالس على الكرسي المرتفع أن يتكلّم، فنهض إلى الميكرفون وبدأ الحديث:
باسم الأمّة، ذكرى 23 تموّز/ يوليو، عيد الثورة، هكذا قال، ثمّ راح يعدّد مناقب الرئيس جمال عبد الناصر، وأنّه خاض الحرب ضدّ إسرائيل، وتحدّث عن مؤتمر السلم العالمي وتابع إلى حركة عدم الانحياز، ثمّ توجه إلى داخل الشقيقة مصر، فتحدّث عن بناء السد العالي، وأنا شيئًا فشيئًا بدأت أفهم الذي يُقال، ليس كلّه، بل بعضًا منه، وأثناء ذلك جرت أمور يشيب من هولها الولدان، فقد كانوا يضيّفون القهوة والسكائر، فصرت آخذ القهوة وأعبٌ من السكائر حتى امتلأ دماغي إلى السفح، وبدأت أدوخ، ولا أدري من الحديث الهامّ الذي كان يلقيه علينا الرجل أم من القهوة التي احتسيت منها كثيرًا، وكان الرجل لا يزال يعدّد المنجزات الداخلية التي للشقيقة مصر، وانتهت الجلسة الهامة التي كان يلقيها أديب النحوي (*)... عرفت اسمه عندما قال أحدهم: إنّ هذا الذي أمامنا، وأعني أديب النحوي، هو أفضل من يمثّلنا في الاتحاد القومي، فصفّقنا له جميعًا بحماسة.
ساد هرج ومرج، عند ذلك قال صاحبي: قم بنا، وهبّت الجماهير المحتشدة، والرجل الذي كان يجلس على الكرسي العالي اختفى بين مجموعة من مرافقيه، وبدأنا الخروج، وما إن أصبحنا خارج البيت، حتى قال صديقي: هل أعجبك هذا الحضور وهذه الكلمة؟ كنت أتنفس بصعوبة، وبحاجة إلى كمية من الهواء أتنفسها... قلت: وهذا الرجل المسمّى أديب النحوي، هل يلقي دائمًا كلمات هامّة على هذا الشكل، قال: بلى، أضف إلى معلوماتك إنّه يكتب القصة أيضًا والرواية، وهو من المؤسسين لاتحاد الكتاب العرب، إنّه وزير العدل، وهو ابن لمدينة حلب، ولد وعاش في المدينة القديمة، ثمّ ذهب إلى دمشق لدراسة الحقوق، كما نفعل نحن، وذهب إلى باريس لينال شهادة الدكتوراه، لكنه عاد ولم يتمها، وعاد إلى البلد ليعمل بالسياسة.
وقلت في نفسي: إنّ هذا الرجل الذي كنّا في حضرته هو أديب على اسمه، وقد قيض لي أن أتعرّف على اتحاد الكتاب، وكان أوّل كتاب اشتريته لأديب النحوي كي أتعلّم كتابة القصة، لأنّه يكتب بحرفية عالية، خاصة القصص المحلية، سأجرّب أن أكتب مثله.
(*) أديب النحوي (1920-1998): من مواليد حلب، درس فيها ثمّ اتجه إلى دمشق لدراسة الحقوق، والتحق بالسوربون في باريس لمتابعة تحصيله العلمي، وعاد إلى سورية ليعمل في السياسة، ثمّ أصبح وزيرًا للعدل وظلّ في هذا المنصب 11 عامًا. له 13 رواية ومجموعات قصصية، ويتميّز بأسلوبه الأنيق.