}

أنا النازح (ة)... أنا النازف (ة)

راضية تومي راضية تومي 31 يوليه 2024
قص أنا النازح (ة)... أنا النازف (ة)
(أحمد بيرو)

 

(1) النازحة... النازفة

كان الطريق لا ينتهي، ممدودًا أمامنا بلا نهاية. مشينا طويلًا والإنهاك في رؤوسنا، شعور نرفض أن نستسلم له. لا خيار لنا في ذلك. كأن الطريق دائريٌ. وكأننا ندور وندور ولا نصل. كنتُ أحمل طفلتي الرضيعة ذات الخمسة عشر شهرًا وبيدي الأخرى أتحسّس يد ابني ذي الخمس سنوات الذي كان يتشبث بفستاني ويلحقني خائفًا وصامتًا. صدمة مشاهد الموت المتكررة أخرسته. كانت رضيعتي نائمة. رأسها يتكئ إلى كتفي. كنتُ أسمع أنفاسها المضطربة وأشعر بقلبها الملائكي يرتعش. كانت تتنفس أحيانًا بقوة وترتعد فأضغط بحنوّ على جسدها الطرّي الصغير لأطمئنها وأهمس في أذنها: "نامي ماما نامي". طلبوا منا الخروج من المدينة والرحيل إلى مكان آخر. قالوا إنه مكان آمن. كنا كثيرين. كثيرين جدًا. وكنتُ أسمع أحاديث مختلطة من حولي. سنكون بأمان هناك. لا واللهǃ هذا العدوّ الهمجي ما فيه أمان. كان الدمار يحيط بنا من كل جانب. دمار وخراب لم نشهد مثلهما من قبل. بدأنا نسمع أصداء العملية العسكرية من بعيد. إطلاق نار وأصوات قصف وتقَدُّم المجنزرات التي شرعت تهجم على مدينتنا كي تلتهم أحشاءها.

مشينا لساعات. لم نصل بعد. كأن قدَرنا أن نعيش في الطرقات. أن نترك منازلنا التي ألفناها خلفنا. أن نفارق أحبّاءنا. استشهد زوجي وأخواه ووالده ووالدته. استشهد أخي وأختي وأمّي. أمّا والدي فقد توفي منذ عامين بسبب مرض عضال. عائلات بأكملها تمّ نسفها بصواريخهم الكريهة. كانوا يدّعون أشياء ويقومون بعكسها. كانوا يستهدفون المدنيين أيضًا ليقتلوا أكبر عدد منهم.

بدأ ابني يبكي. إنه متعب وعطشان وجائع. لم يكن عندي طعام لأعطيه. طمأنتُه أننا سنصل قريبًا إلى مقصدنا وسنشرب ونأكل. اقترب مني نازح آخر. رجل في الخمسينات. كان عنده شربة ماء. شرب ابني وابتسم. شكرتُ الرجل.

أقدامنا متورّمة من المشي، مسافات طويلة على أرض تملأها شظايا القصف والأنقاض وكدمات الحرب. الأرض تتألّم أيضًا. لكنها لا تستسلم، مثلنا. حسبي الله ونعم الوكيلǃ متى يا ربّ يأتي فرجك؟ متى تتوقف الحرب؟ إنهم يقتلوننا بلا خوف من أحد ولا من قانون. الدماء في كل مكان. الأشلاء في كل مكان. الجثث تتكدّس في كل رقعة. لم يستطع المجتمع الدولي، في هذا العالَم الكبير، أن يفعل شيئًا. العالَم يكتفي بالتنديد ويتفرّج. صُورَنا في كل مكان. عذابنا يراه العالَم على الشاشات وعلى المباشر. الظلم يلاحقنا. لكن القوى العظمى أصابها الصّمم. هي أيضًا متواطئة. إنهم يسعون إلى وأد أصواتنا. يريدون إخراجنا من أرضنا. بالقتل، بالترهيب، بالتجويع، بالحرمان من أبسط الحقوق. إنهم يعتقدون أننا سنستسلم. أو أننا سنقبل التخلي عن أرضنا. لكنها أرضنا. أرضناǃ

(2) النازح... النازف

أُصِبتُ إصابة خطيرة في فخذي حين قُصف حيُّنا. استشهد عدد كبير جدًا من السّكان. منهم أفراد من عائلتي ومن جيراني. أخذني المسعفون إلى المستشفى وعالج الأطباء جرحي بما توفّر من دواء ووسائل. بعد الغد، أَمرنا جيش العدوّ بإخلاء المستشفى خلال ساعة: أطباء وممرضون، عائلات نازحة، مرضى وجرحى، سواء كانوا في حالة خطيرة أو كانوا في العناية المكثفة أو في حالة عجز وضعف. لا يهمّ. الجميع خارج المستشفى وعلينا النزوح إلى مكان آخر.

استندتُ إلى عكّاز خشبي ومشيت في الطريق. غادر المستشفى من استطاعوا حمل أجسادهم. أما الذين كانوا في حالة خطيرة جدًا أو في العناية المكثفة فبقوا. جثث الشهداء أيضًا تركناها خلفنا هناك.

خرجنا. عائلات وجرحى ومرضى وطواقم طبية. البعض يهرول والبعض وُضع على عربات يجرّها الحمير. استلقى أطفال جرحى على العربات، تلفّ ضمّادات مُبّقعة بلون أحمر أطرافهم أو رؤوسهم أو مناطق من أجسادهم النحيلة.

كنا نمشي ونهرول جماعات وأفرادًا. كان جيش العدوّ سيقصف المستشفى.

مشيتُ مسافة طويلة، أنا النازح. كنتُ أشعر بالإنهاك بسبب الجرح الذي لم يبرأ بعد. بدأتُ أشعر بآلام قوية على مستوى الفخذ المصاب. توقفتُ لاستجمع قواي قليلًا. كان عليّ ألّا أبطئ. لا بد من الابتعاد بأقصى سرعة عن هذه المنطقة التي ستتعرّض للقصف قريبًا. استأنفتُ المسير. بعد دقائق، بدأ الدم يقطر من الضمّادة. ثم بدأ سيل من الدماء الدافئة يتخذ مجرى على ساقي. توقفتُ من جديد. ضمّدني أحد الأطباء بقماش. لم يكن هناك مكان متوفر على العربات المكتظة بالأطفال الجرحى والمرضى والمصابين من كبار السن. عدتُ للمشي ببطء. لكن الدماء لم تتوقف عن السيلان. بدأ قصف جزء من المستشفى بالمسيّرات، خلفنا. شعرتُ بدوخة شديدة. لكنني تمسّكت بالعصا بقوة. تلقفتني يد صلبة حين كدتُ أسقط. ثم حين اعتدلتُ في وقفتي، انسحبتْ ببطء واهنةً.

أعداد كبيرة من الجرحى والمرضى طُردت من المستشفى ليتلقّفهم الشارع والخراب وانعدام الأمان.

عاد الدم، دمي، يسيل من جديد. ازداد تدفقه قوة. بدأ الظلام يهبط. رفعتُ رأسي إلى السماء. تكلّمتُ مع الله. بكيتُ بمرارة ويأس وسألته لماذا لا يخسف بهم الأرض هؤلاء الوحوش؟ لماذا يتركنا وحيدين في مواجهتهم؟ ثم استغفرتُ. مشيت والدم يسيل بلا انقطاع. نظرتُ إلى الخلف. كانت دمائي قد صنعت ساقية ورائي. وكلما استدرتُ للخلف، كلما اكتشفتُ أن الساقية تزداد اتّساعًا وحَفرًا في الأرض. وتحولّتْ فجأة إلى نهر من الدماء وبدأ منسوبها يرتفع إلى أن صار النهر عميقًا. وبدأتُ أسبح في دمائي. ورأيتُ الآخرين يسبحون أيضًا. ثم استلقيتُ على سطح الدماء المتدفقة في مجرى النهر الذي كان يجري إلى الأمام نحو هدف ما. رفعتني الدماء وشعرت براحة آنية وأنا مستلق على ظهري. كان الإرهاق قد أخذ مني كلّ مبلغ. وتعجبتُ من كمية الدم الذي كانت تحمله شراييني. كل هذه دمائي يا اللهǃ وشعرتُ بسعادة خفيّة غمرت قلبي فجأة. وسمعتُ البيوت الخربة تتهامس. ورأيت تحت سقف النجوم اللامعة أضواء وشموعا مشتعلة في المنازل المهدّمة. لمحتُ أطيافًا تتحرّك بين الغرف المقصوفة ذات الجدران المنهارة. خِلتهم سكّان تلك البيوت عادوا إليها، فلَوّحتُ لهم بيدي. لم أكن متأكدًا أنهم سيرون تلويحي البشوش لهم تحت جنح الظلام.

ثم أحسستُ في منعرج تزايدَ سرعة أمواج النهر الدموي ووجدتني أنجرف بسرعة وإذا بي أجدني قبالة البحر الواسع الذي كان يفتح ذراعيه لي مبتسمًا ابتسامة عريضة. تذكرتُ أنني لم أنزل إلى البحر منذ فترة طويلة. ربما حان الوقت لذلك. وصبّتْ أمواج النهر في البحر المفتوح. وقذفتني موجة سريعة هناك. ورأيت تحت قبّة الليل المضاء بالنجوم، سطح البحر العظيم الذي تتقافز فوقه أمواج صغيرة. فأسندتُ رأسي إلى حضنه وأغمضتُ بارتياح عينيَّ.

* كاتبة من الجزائر.

مقالات اخرى للكاتب

قص
19 يوليه 2024
سير
14 مارس 2024
يوميات
27 ديسمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.