}

الخيال أرض لـ"الغزو"

راضية تومي راضية تومي 14 مارس 2024
سير الخيال أرض لـ"الغزو"
عمل للتشكيلي الفلسطيني تيسير بركات

 

كل الذين غامروا حاملين سلاح قلم الإبداع كانوا يغامرون نحو الأراضي الشاسعة للخيال. وسواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا، شعروا به في أعماقهم أم لم يشعروا، تُعد الكتابة الروائية أو في الأنواع الأدبية الأخرى مغامرة لغزو أراضي الخيال اللانهائية والمليئة بالغرابة أو المحاكية للواقع مع نكهة من التخيّل لا بد منها.

الكُتاب هم غزاة فاتحون لأراض عذراء أو متوحشة: أراض لم يفتحها أحد. قد تتشابه فيما بينها أو قد تحاكي الواقع - وهنا تقل درجة الإحساس بالغرابة لدى المؤلف ذاته وأيضًا لدى قرائه - ولكنها في كل الأحوال تُعدّ منطقة جديدة وعالمًا جديدًا بالنسبة لهذا المبدع ولمن يقرأه.

وعندما تفرز عصارة الإبداع مزيجها السحري يستعد المبدع الغازي لغزو أرض لم يسمع بها أحد، تثير الدهشة وتصنع الإثارة وتبعث على الحلم. هذه الأراضي القصية التي تعيش فيها مخلوقات غريبة وعجيبة وبأشكال وأحجام غير مألوفة هي أراضٍ لا نهاية لعددها في عالم الخيال.

قرأنا رواية سيد الخواتم والسلسلة الروائية الشهيرة هاري بوتر وأليس في بلاد العجائب وغيرها من روايات وقصص خيالية أدهشت المتلقي وشدّته إليها، ذلك أنها تصف عوالم جديدة تستعير بعض الأدوات والعناصر من الحياة الطبيعية والعادية للبشر لتضعها بطريقة مبتكرة شائقة داخل إطار مفتوح على اللاّمتوقع. إنها عوالم تصنع المفاجأة الدائمة وتتجاوز حدود المألوف لما تتصف به من جاذبية أو طرافة أو غرابة تنبعث من المكان والزمان والشخصيات.

ولكن هل هذه الأراضي والعوالم الخيالية موجودة فعلًا وتنتظر غازيًا أم أن المؤلف هو الذي يبتكرها لكي يغزوها؟ هناك مِن هذه العوالم ما هو موجود، ولكن الكاتب يستلهم منها ليصنع عوالم مشابهة قليلًا أو كثيرًا لا يراها إلا في خياله. ويبدو من خلال روايات الخيال العلمي مثلًا أو الحكايات الخرافية والأساطير التي ابتكرت أمكنة غير موجودة في العالم الواقعي كأن تلك الأمكنة المُتخيلة موجودة في مكان ما يجعلنا نتعلق بها ونتابع ما يُروى لنا عنها بشغف واهتمام شديدين. إن شغفنا بالمغامرة ورغبتنا في التخلص من الرتابة وعطشنا إلى معرفة المزيد وإلى مواجهة المجهول والعجيب والمخيف هم الذين يمنحوننا تلك الطاقة التي تجعلنا نتفاعل مع ما نقرأه.

يعيش المؤلف بجسده بيننا ويضع قدميه على أرض حقيقية، ولكن ذهنه مشغول دوما بابتكار ورسم أرض خيالية يملؤها بشخصياته فيجول في ذلك المكان بخياله المُجنح كأنه بيتر بان لديه القدرة على الطيران في الأعالي متابعا بنظره كل ما يحدث في أرضه.

وعندما يحمل الكاتب القلم ويبدأ في الكتابة على الورق أو على الحاسوب عن العالم الذي تخيله فهو بهذا الفعل يُدخله إلى عالمنا الحقيقي، فيصبح بذلك جزءًا منه. وحينما يصدر الكِتاب الذي ألفه الكاتب عن هذا العالم ويقرأه القراء يصبح جزءًا من حياتهم. فعل الكتابة إذًا هو فعل تقييد للخيال وعناصره. وفعل القراءة من قِبَل القراء هو اعتراف ضمني بوجود هذا العالم الخيالي والأرض التي انبنى عليها. اعتراف ناتج عن عملية القراءة التي تجعل المُؤلَف يُخزّن في ذاكرة المتلقي من ناحية، ومن ناحية ثانية تخلق القراءة في أثناء سيرورتها تفاعلًا عقليًا وعاطفيًا مع القارئ حيث إنها تحرك الذاكرة التي تبدأ باستحضار المعلومات المتشابهة مع ما تسرده الرواية أو القصة. وإلى جانب ذلك تستثار عاطفة القارئ التي تتأثر بكلمات أو شخصية أو حدث ما. 

القراءة تمنح القارئ فرصة التجول في العالم المُتخيَّل في الرواية والتفاعل معه كما لو أنه حقيقي. وليس القارئ إلا ذلك المتفرج المتخفي الذي يعيش في أرض الخيال تلك من دون أن يراه أحد غير أنه متفرج متفاعل، يتأثر بما يراه ويسمعه.

كل الأراضي الشاسعة والأقاليم التي روى عنها الروائيون هي أراضٍ قاموا باحتلالها من خلال فعلين: التخيل والكتابة. أما القُراء فإنهم ذلك الجمهور الذي يعترف بوجود تلك الأرض وملكيتها الأولى للروائي.
روائيو العالم وقصّاصوه هم غزاة ومحتلون، ولكن لأراضٍ موجودة في عالم الخيال.     

*كاتبة جزائرية.

مقالات اخرى للكاتب

سير
14 مارس 2024
يوميات
27 ديسمبر 2023
شعر
6 ديسمبر 2023
قص
12 يونيو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.