}

لا تتوقف الحياة عن إدهاشنا... من دفتر الأصدقاء (4)

رشا عمران رشا عمران 19 سبتمبر 2024
سير لا تتوقف الحياة عن إدهاشنا... من دفتر الأصدقاء (4)
من اليمين: عصام طنطاوي، خليل صويلح وأحمد م.أحمد

كيف نعتني بالصداقات؟ تبدو الصداقة أحيانًا كما لو أنها جوهرة مغلفة بطبقات من الزجاج، لتظهر معدن الجوهرة عليك أن تكسر تلك الطبقات واحدة واحدة، أن تكسرها بعناية كي لا تجرح حدّتها معدن الجوهرة، أن تمسح الجوهرة من أثر الكسر المتبقي، أن تزيل كل الغبش العالق بها. الصداقة جهد مبذول دائمًا، حتى في البعد، أو ربما قد تحتاج الصداقات القديمة التي قطعت يومياتها أحداث عظيمة فرّقت بين الأصدقاء إلى جهد أكبر، جهد مع الذاكرة التي تختزن يوميات جديدة لا وجود لأصدقاء الزمن الماضي فيها؛ عليك أن تترك مساحة في ذاكرتك لأصدقاء ذلك الزمن، أو بالأصح ألا تقترب من تلك المساحة في ذاكرتك، ألا تراكم فيها تفاصيل حياة جديدة، وأن لا تخفيها في جيوب النسيان، عليك أن تخرجها كل مدة إلى ضوء قلبك كي لا تذبل وتصفر وتموت. من حظي بصداقات حقيقية حظي بالجوهرة النادرة التي لا يعرف معدنها سوى من يعرف طعم الخبز والملح.

لم تتوقف الحياة عن إدهاشنا

إلى أحمد م. أحمد

كم مرة قلنا للموت: المجد للعابر فمات من الضحك

كم مرة قلنا للمدن: المجد للنسيان فمتنا من الذاكرة

كم مرة قلنا للبحر أمام بيتك: أعطنا حجارة قلبك وخذ ماء أرواحنا.

ماؤكم دمع والدمع حزن وأنا اكتفيت.

أعرفك منذ ذلك الوقت

منذ قايضت الحياة بأصابع يدك اليسرى

مذ كنا نضحك وسط البكاء دون أن يفهم أحد ما بنا

أقول لك: أنت أختي الصغيرة

تقول لي: ... كعادتك تنسى أن تقول لكنك تضحك محاولًا إخفاء كل ذلك الحنان.

وكنت تجلس لتحكي لي عن النساء اللاتي عرفتهن، عن الفقر الذي قضم روحك كفأر يعيش في فراشك، عن التمرّد والخذلان والسيلانات في غرف أميركية قذرة.

كنت تحكي لي عما رأيت وتقرأ لي عما ترى

وتنسى، كعادتك، أن تغلّف قلبك بالزجاج كي لا تذهب دماؤه إلى بالوعة الدماء المفتوحة على هذا المسمى وطن.

لم تتوقف الحياة عن إدهاشنا، كل خيبة وكل خذلان وكل فقد، متنا من فرط كل شيء حتى أخذنا كفايتنا من الموت ولا يتوقف ولا يشبع ولا مفرّ.

من يبعد الموت عن ناظري أعطه عيني

من يرش عليّ ملحه أهده قوقعتي،

من يأكلني لأختفي سأعده بطعم نادر

أريد أن أفقد صوابي كي لا أتذكر ماذا حدث وأريد ألا أفقد ذاكرتي كي لا أنسى فأتوه.

خذ رحمي يا صديقي وأعطني كفك المقضومة، كلاهما باتا معطوبين في هذا الزمن المعطوب والسافل.

الأرض واحدة، أينما ذهبت فثمة قحل ينتظرك، أو لغم سيتفجر بك، أو شتيمة سوف تعيد لك سيرتك كلها، أو قصيدة تنخز جلدك كقنفذ خائف، أو خيبة تلتف عليك ككفن متسخ.

الأرض واحدة... مقبرة كبيرة تدور حول نفسها بسرعة الموت.

لو أننا نقفز منها ونستريح.

هكذا نكمل حياتنا الباهتة

إلى عصام طنطاوي

يقال إن الحكاية حدثت حين بدأت تلوّن جدران غرفتك... رسمت غابة كبيرة كانت أشجارها تناديك كل يوم.

يقال إنك تبعت النداء ودخلت الغابة.

صدمت رأسك بالجدار، صدمت أصابعك وأنت توسّع طريقك لتتبع النداء، صدمت قلبك.

حاولت حجارة الحائط أن تدخل قلبك لكنك حطمتها، أحرقت الجدار كله، وخرجت تتبعك شياطين صغيرة لطالما اختبأت في مسام جلدك.

تتبعك أحلام ملونة وصور نامت في سرير خيالك،

يتبعك الخوف والحب والترحاب والدهشة، وتلك الطفولة التي لم تفارق قلبك حتى الآن.

عرفتك في غابتك المدهشة وأنت تنقلها بين عمان ودمشق والملاجة، كنت أحيانًا أضعها تاجًا فوق رأسي خفية عن نزق يقفز كطفل مشاغب من طيبة وجهك، مضت الأيام يا عصام،

سقطت تيجاننا، وتغيرت ملامح النزق،

صار النزق عملاق الحزن، جبل الخيبة، نيران الألم،

صار حجرًا صلبًا نتبادله لنشج به رؤوسنا ولا نفقد قطرة دم واحدة،

دمنا خبئناه منذ زمن في جرار سوداء أغلقناها بملح أجسادنا وها نحن نكمل حياتنا الباهتة.

الحريق فكرة قاسية عن اللون.

الحزن فكرة قاسية عن البداية.

كان ياما كان

إلى خليل صويلح

المسافة من بيتك إلى المقهى رفة عين ومع ذلك كنت كمن ينتقل من دمشق إلى القاهرة.

على الناصية يصادفك صديق لم تره منذ أيام.

بعد الناصية، توقفك صديقة عابرة تحكي لك عما فعلته بها روايتك الأخيرة.

بعدها بقليل، تلتقي من يعاتبك لأنك لم تهتم بقصيدته العظيمة.

بائع الجرائد بجانب المدخل سوف يحكي لك عن لقاء سري لصاحب الشأن ستسمعه وأنت تهز رأسك وتدخل...

على الباب ستواصل حديث الأمس مع زائر عتيق.

كان ياما كان

كانت الحياة تمشي على مهل كخطوات متأنية تعرف طريقها نحو المقهى القديم.

صخب المقهى، نمائم لا تتوقف، لا يتوقف الضحك أيضًا ولا النقاشات التي لا تنتهي حتى موعد الغداء.

الأستاذ خليل ينتظرك، يقول نادل المقهى حين يراني قادمة.

كان ياما كان

كانت الصداقة أغلى من الماس وأثمن من العملة الصعبة،

ما تجمعه الصداقة لا تفرّقه السفاسف، لا تفرّقه ترّهات المثقفين المعطوبين ولا الدواسيس العابرين أبناء السبيل.

المسافة من دمشق إلى القاهرة رفرفة حياة، إيماءة رضى، تلويحة قبول، ما تجمعه الصداقة لا تفرّقه المسافات ولا الزمن ولا الكراسي الفارغة في المقهى القديم.

كان ياما كان،

جمعتنا دمشق كعنقود عنب، كل حبة لون وكل لون حكاية، جمعتنا دمشق كما لو أنها حكايتنا الأخيرة، بيتنا الأخير، حوارنا الطويل الذي لا ينتهي، سقفنا المحمول على دعائم الألفة. جمعتنا كما لو أنها قصة طويلة تشاركنا صياغتها وأطلقنا عليها اسم الطمأنينة.

كان ياما كان

أضع إصبعي على أرنبة أنفي وأدور حول مركز ثابت، تسندني كف الذاكرة بقوة، تطبع بصماتها على جلدي كوشم يجدده الغياب، أدور مجدّدًا وأسقط في المنتصف، أرى حولي حبات عنب مبعثرة تتصادم ككرات صغيرة، وأرى في العنقود حبة واحدة تلتف على نفسها وتمسك بالسقف، أبعد العنقود عن مستوى حزني وأبقى في مكاني أنتظر.

ما تجمعه الصداقة لا يفرّقه الغضب، لا يفرّقه الحزن، لا يفرفط حباته صمت صاخب وأنيق.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.