}

عن التشكيل والشعر

رشا عمران رشا عمران 1 أغسطس 2024
استعادات عن التشكيل والشعر
أحب الاضطراب الذي يعتريني أمام لوحات خوان ميرو (Getty)

 

لديّ شغف حقيقي بمتابعة كل ما يخص الفن التشكيلي أكثر بكثير من متابعة عالم الشعر والشعراء الذي أنتمي له بشكل من الأشكال. أزور صالات العرض الخاصة كلما أتيح لي ذلك أينما كنت، وأزور المعارض الجماعية التي تقام في القاعات العامة والخاصة، وأزور متاحف الفن الحديث في المدن التي أزورها. أحاول في زياراتي هذه اختبار رؤيتي الشخصية للعمل الفني الذي أراه واختبار قدرتي على قراءة اللوحة التي أمامي بمنظور شخصي بحت قد يكون لا علاقة له بحقيقة العمل، بل مجرّد قراءة نابعة من تراكم ذاكرة تعوّدت على رؤية الفن التشكيلي منذ الصغر؛ ذلك أن جدران بيت عائلتي كانت دائمًا ممتلئة بلوحات فنية لفنانين سوريين معاصرين تعبيريين وتجريديين. لم أر في بيتنا أبدًا لوحة انطباعية، لهذا نادرًا ما تلفت نظري اللوحات الانطباعية في أي مكان، حتى لأهم فناني العالم، رغم حبي لسيزان ومونيه ودهشتي الدائمة من قدرتهما على اللعب بالضوء والظلال، لكنني مع ذلك أفضّل رؤية الطبيعة بالعين المجرّدة واختبار ظلال الأشياء والتفاصيل بعيني أنا بعيدًا عن رؤية الفنان مهما كانت عبقريته. بينما يمكنني أن أبقى ساعة كاملة أحدّق في لوحة تجريدية أحاول معها فهم ما يريده مبدعها من الخطوط غير الواضحة والامتزاج المبهم للألوان. أحب الغموض في الفن التشكيلي، يستفز في داخلي رغبة اكتشاف فهمي لما أرى ومحاولة استنباط القول الذي وراء العمل، والأهم هو اكتشاف قدرتي على تفكيك اللوحة لأرى كل جزء على حدة قبل أن أعيد تركيبها في عقلي بطريقة أخرى، كما لو أنني أعيد رسم ما أراه أمامي ولكن بطريقتي.

هذا شيء يشبه قراءة قصيدة لشاعر آخر، أقرأها وأفهمها بالاتكاء إلى مخزوني المعرفي وذائقتي الشخصية وعلى ثقافتي الشعرية، أقرأها في عقلي وفي خيالي معًا، كما لو أنني أعيد كتابتها من جديد. القراءة هي كتابة أخرى للنص، كتابة ثانية محتملة، أو لنقل إنها واحدة من احتمالات متعددة للنص؛ كذلك الكتابة، هي إعادة إنتاج كل ما قرأناه من نصوص ومن كتب في نص خاص بنا. لكن أليست كل الفنون هكذا؟ أي عمل فني أو أدبي من أي نوع هو إعادة إنتاج لكل ما اختبره مبدع ما من إبداعات آخرين. ما من عمل فني وأدبي مقطوع عما سبقه، قد يكون العمل متفرّدًا واستثنائيًا وبالغ الخصوصية لكنه في النهاية يحمل جينات الإبداع البشري وخاصيته. هذا ما يفسّر ربما القراءات المختلفة لنص من النصوص، أو التفسيرات المتعدّدة لعمل فني تشكيلي تعبيري أو تجريدي أو تكعيبي أو سريالي.

في الفن الانطباعي هناك قراءة واحدة للعمل، لا تختلف كثيرًا عن قراءة الفنان وهو يشاهد ما أمامه قبل أن ينقله إلى القماش أو الخشب أو الورق مستخدمًا ألوانًا تتفوق حرارتها على ألوان الطبيعة ليتمكن من نقل الأثر الذي أحدثه المشهد في نفسه حين قرر أن يرسمه، ومكتشفًا لألاعيب الضوء والظل في الطبيعة، تلك الألاعيب التي لا تكشف أسرارها سوى لعين المبدع بينما تظل عادية أمام العين العادية وحاجبة أسرارها عنها. بالنسبة لي، اللوحة الانطباعية تشبه الرواية، لا يمكن قراءتها سوى بمستوى واحد، لا تحمل مستويات عدة، قد يختلف الأثر الذي تتركه لدى القرّاء، لكنهم لن يختلفوا حول ما يريد الروائي قوله، الشعر القديم والكلاسيكي تشبه قراءته لي أيضًا قراءة الرواية، لا يحمل مستويات مركبة ولا طبقات متداخلة، يمكنني أن أقرأ قصيدة كلاسيكية أو أن أسمعها دون الشعور بالحاجة لأن أهيّئ مداركي وعقلي في انتظار تحليل ما أقرأ أو ما أسمع. أنا أقرأ الشعر الكلاسيكي لأستمتع بالموسيقى الظاهرة في شطرَيْ القصيدة، الإيقاع في القصيدة الكلاسيكية وفي قصيدة التفعيلة الأولى يمكنه أن يجعلني أكثر هدوءًا، ذلك أنه ثمة رتابة في الميزان الموسيقي في القصيدة، رتابة اعتادتها الأذن العربية ودخلت في الجينات السمعية للشعوب الناطقة باللغة العربية؛ ليس فقط لأن الشعر القديم كان ديوان العرب ولسانه كما يقولون، بل أيضًا بسبب الاعتياد على سماع القرآن الكريم بموسيقاه الرتيبة التي تبعث الطمأنينة في النفس. هذا هو الأثر الذي تتركه بي الأعمال الانطباعية: الطمأنينة، لأن ما أراه اعتادت عيني عليه وألفته؛ بينما أنا كشاعرة تكتب قصيدة النثر أحتاج إلى القلق، إلى ذلك الاضطراب الذي أشعر به مثلًا حين أرى لوحة لخوان ميرو وهو يفرد فضاءات مسطحة لونية ثم يبدأ بنقل أخيلته إليها كما لو كان طفلًا لديه يد ماهرة في استخدام الألوان ورسم الخطوط، لكن قلبه الطفل يوحي إليه بأخيلة قد تكون أحيانًا عصية على الفهم لكن عصيانها هو ما يلهم من يراها في طرح احتمالات متعددة لها. ليس عجبًا إذًا أن يكون خوان ميرو هو الرسام الأول والمفضل بالنسبة لي، وهو المقياس الذي أقيس به ما أصادفه في حياتي من أعمال الفن التشكيلي. أنا، ببساطة، أحب هذا الاضطراب الذي يعتريني أمام لوحات ميرو، وأحب الاستفزاز الذي تنقله لي أعماله لأبدأ بكتابة نص مكتوب بأصابع محترفة وقلب طفل، نص يتضمن مستويات عدة بدون أن يغرق في الغموض، بل يظل مفتوحًا على احتمالات الفرادة والفهم، لكنها احتمالات مختلفة ومتعددة، تجعل النص حيًّا ومتجدّدًا مع كل قراءة له. هذا ما أفكر به كلما بدأت بكتابة نص أو قصيدة جديدة؛ في الحقيقة هذا ما أريده أن يكون لنصّي، هل أنجح في ذلك؟ ليس دائمًا حتمًا، أو ربما غالبًا لا أنجح، ذلك أن ما أحلم به لنصّي هو الذروة، أو لنقل إنه النصّ الكامل أو العمل الشعري المكتمل حسب فهمي للشعر ورؤيتي له، لكن هذا الاكتمال لا يحدث إلا في الخيال، أما النتاج فهو محاولات متعدّدة لجعل الخيال حقيقة.

بالنسبة لي، يشكّل الشعر والفن التشكيلي تجربة إبداعية متشابكة ومرتبطة بعضها ببعض، الاثنان يستخدمان الخيال لنقل التجارب والخبرة الشخصية، سواء المعاشة أو المتخيلة، عبر الألوان واللغة أداتي الخيال والعقل والقلب للتعبير عن مكامنهم وعمّا يختزن بهم خلال مسيرة الحياة. التجريد في الفن والشعر يستدعي الاختزال، وبالنسبة لي، كلما قلّت تفاصيل الخطوط في اللوحة وقلّ الشرح في النص الشعري كلما وصل الفن إلى مرحلة متقدّمة، ذلك أنه في الاختزال المكثّف تكمن الفلسفة، وأي عمل بلا رؤية فلسفية هو عمل يظل ناقصًا في قدرته على التعبير عن اللحظات الشعورية العميقة للفنان أو الشاعر، تلك اللحظات التي يتجلّى فيها العقل الباطن واللاوعي ليطرح نفسه كبديل عن الوعي الواقعي والراهن. الفن في النهاية هو محاولة لتغيير الواقع الراهن، وهو طريقة استبدالية للعيش، يضعها الفنان أو الشاعر على مسطّح أبيض، ذلك البياض المستفزّ المستعدّ لتلقّي كل الأحمال النفسية التي تقضّ مضجع الفنان فلا يهدأ إلا حين ينقلها إلى البياض، لينقلها البياض بدوره إلى منتج محتمل متمثل في المتلقي الذي سوف يعيد إنتاج العمل مع كل قراءة جديدة له.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.